في مقاله الموسوم "قرناص: عار الدولة ولذّة الطاعة", انزلق الدكتور الوليد مادبو، وهو من أصحاب القلام القادرة على المزاوجة بين التحليل السياسي واللغة الفلسفية، إلى منزلق خطير من حيث لا يدري؛ حين اتخذ من امرأة سودانية - أيًا كانت خلفيتها السياسية أو الوظيفية - رمزًا لكامل جهاز الدولة، وأداةً للاتهام الأخلاقي المُغلف ببلاغة تهكمية، تنضح بالرمزية الموحية، لكنها تفتقر إلى النزاهة المفهومية التي تميز بين نقد السلطة وتحقير الأفراد.


لقد جرى في هذا المقال توظيف صورة المرأة كأداة لإدانة الدولة ومؤسساتها، عبر ربط وجودها في مواقع المسؤولية بإشارات لا تخفى دلالاتها الجندرية والأخلاقية، كأنما المرأة السودانية لا تُستحضر إلا بوصفها جسدًا أو مجالًا للامتياز الرمزي لا كفاعل مدني أو سياسي أو مهني. وهنا يكمن جوهر الخلل: إذ إن المقال لم يسقط فقط في فخ التشييء، بل استند إلى ذلك التشييء ذاته ليبني حجته السياسية، ضاربًا عرض الحائط بإحدى أعزّ القيم في الوجدان السوداني:
حرمة نسائنا واحترام خصوصيتهن في القول والفعل والرمز.
ما نراه هنا ليس نقدًا بنّاءً للدولة، بل إعادة إنتاج لصورة المرأة بوصفها أداةً في يد السلطة، أو رمزًا لفشلها، بلغة تتوسل التحليل الاجتماعي، لكنها تقع في محظور أخلاقي وثقافي لا يجوز التغاضي عنه. ففي ثقافة أهل السودان وإن تعددت مشاربهم، ظلّت المرأة محل توقير، لا تُستباح سيرتها، ولا تُستغل صورتها، لا في المدح ولا في الذم، لا في الولاء ولا في الخصومة.
والمفارقة المؤلمة أن هذا الخطاب الذي يدّعي الانحياز لقيم التحرر من البنية السلطوية، قد وقع في قلبها: إذ أسند للمرأة وظيفة رمزية، انتزع منها إنسانيتها، وحرّكها ككائن وظيفي في سرده، تمامًا كما تفعل الأنظمة التي يدينها الكاتب.
ومتى كان تحرير المجتمعات يتم على جثة السُمعة الأخلاقية لامرأة، أياً كانت؟ أليس ذلك ضربًا من إعادة إنتاج السلطوية بوجه معكوس؟
إن الممارسة الفكرية الجادة، خاصة حين تنزع إلى النقد، لا بد أن تُحكّم معيار العدالة، لا أن تنزلق إلى التعميم أو الترميز الموحش. النقد ليس مسرحًا تُلقى فيه التهم بمجازات متخمة بالإيحاء، بل هو مقام التفكيك والتعرية الحصيفة التي تُفصل القول وتردّ الأمور إلى أصولها. والمرأة ليست وسيلة في هذا السياق، بل إن استدعاءها في غير موضع الفعل والمسؤولية المباشرة، يُعد خيانة مضاعفة للعدالة والضمير، وخرقًا للستر الذي يُعد في ثقافتنا مبدأً لا تكتيكًا.
كما أن تحويل العلاقة الزوجية إلى "أمر عمليات" كما ورد في المقال، ليس فقط تشويهًا لحياة أفراد، بل تطبيع ضمني مع خطاب النيل من المرأة كلما بدت طرفًا في منظومة السلطة أو ذُكر اسمها في جهاز الدولة.
هذا التصور يستبطن نزعة طهرانية تميز الذكر وتُدين الأنثى، وتُحمّلها رمزيًا مسؤولية الانهيار الأخلاقي، وهي ممارسة تتناقض جوهريًا مع أي خطاب يدّعي الانحياز للعدالة والوعي التاريخي.
إننا في لحظة تاريخية فارقة، تتطلب من المثقف أن يكون منارةً لا مرآةً للهوى السياسي، وأن يسمو بلغته عن التورط في أشكال جديدة من التسلّط الرمزي. وإن المرأة السودانية، بما تمثله من عمق ثقافي وامتداد اجتماعي يجب أن تكون خارج مرمى النيران، سواء أكانت تلك النيران صادرة من فوهات البنادق أم من أقلام المفكرين.
ليس من الشرف في شيء أن تُختزل الكرامة النسوية في صراع رمزي مع الدولة، ولا أن تُحشر في قوالب الإدانة بوصفها تجسيدًا للفشل، أو امتدادًا للفساد.
بل إن النضال الحقيقي يبدأ من احترام الأفراد، نساءً ورجالاً، وتحرير اللغة من التواطؤ مع التنميط والاستسهال.
في الختام، نحتاج في هذا الزمن المضطرب إلى أخلاقيات مقاومة قبل أن نحتاج إلى بلاغات هجائية. والنقد الجادّ لا يُشهر بالنساء، بل يُقيم الحجة على النظام، ويصون القيم لا يعيد تفكيكها.
ولعلّ من حسن الخاتمة أن نذكّر أنفسنا بما كان أهل السودان يتواصون به في الملمات: "لا تُمسّ امرأة لا بقول ولا بفعل." فهل نعي هذا الميثاق، أم أننا نُبدده باسم الجرأة والبلاغة؟

zuhair.osman@aol.com
زهير عثمان

   

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

شهيد الشرف.. حكاية مقـ.ـتل الشاب هشام أسامة دفاعا عن والدته من التحـ.ـرش باللبيني

تصدر اسم الشاب "هشام أسامة" تريند مواقع التواصل الاجتماعي  بعد مقتله دفاعا عن والدته من التحرش في شارع اللبيني بمنطقة الهرم.

وزارة الداخلية كشفت ملابسات الجريمة بعد تداول منشور بمواقع التواصل الإجتماعى متضمناً واقعة مقتل طالب بمنطقة الهرم بالجيزة.

وبالفحص تبين أنه بتاريخ 24/ الجارى تبلغ لقسم شرطة الأهرام بمديرية أمن الجيزة من إحدى المستشفيات باستقبالها طالب توفى متأثراً بإصابته بجرح طعنى بسبب حدوث مشادة كلامية بينه وبين أحد الأشخاص لقيام الأخير بالتعدى على والدته حال دلوفها للعقار محل سكنها تطورت إلى مشاجرة قام على إثرها الثانى بالتعدى عليه بسلاح أبيض محدثاً إصابته التى أودت بحياته.

تم ضبط مرتكب الواقعة في حينه وبحوزته السلاح المستخدم فى الواقعة ، وبمواجهته أقر بارتكاب الواقعة على النحو المشار إليه.

تم إتخاذ الإجراءات القانونية.. وتولت النيابة العامة التحقيق.

وباشرت النيابة العامة بجنوب الجيزة تحقيقات موسعة في مقتل الشاب "هشام أسامة" اثناء دفاعه عن والدته وشقيقته بعد تعرضها للتحرش في شارع اللبيني بمنطقة الهرم.

وانتدبت النيابة العامة الطب الشرعي لتشريح جثة المجني عليه وبيان سبب الوفاة وتوقيتها، كما طلبت تحريات الأجهزة الأمنية حول الواقعة وقررت حبس المتهم 4 أيام على ذمة التحقيقات بتهمة القتل العمد.

وتولى فريق البحث الذي شكله اللواء محمد الشرقاوي مدير الإدارة العامة للمباحث فحص كاميرات المراقبة، لكشف ملابسات الجريمة واستمع رجال المباحث لأقوال أفراد من أسرة المجني عليه، وذكر شهود عيان أن أفراد من أسرة الضحية تعرضوا للتحرش اللفظي من شاب في الشارع، فنشبت مشادة كلامية بينه وبين الضحية الذي عاتبه على التحرش بوالدته وشقيقته، وانتهت المشادة وانصرف المتهم.

وذكر عدد من شهود العيان أن المتهم عاد مرة أخرى رفقة آخرين انهالوا على المجني عليه بالضرب وتعدى أحدهم عليه بضربة "شاكوش" على رأسه كما سدد له المتهم طعنة نافذة مسببة له جرح كبير من الركبة حتي منتصف الجسد مسببا له قطع في الشرايين وإصابته بنزيف فتم نقله إلى المستشفى وإجراء عدة جراحات له إلا أنه لفظ أنفاسه الأخيرة متأثرا بإصابته.

ورد بلاغ لمديرية أمن الجيزة، يفيد مقتل شاب تعرض لاعتداء بسلاح أبيض في الهرم، وبإجراء التحريات الأولية، تبين أن المجني عليه نشب بينه خلاف مع عامل، مما دفع الأخير للاعتداء عليه وطعنه بسلاح أبيض.

استمع رجال المباحث لأقوال شهود عيان، وعاين رجال المباحث مسرح الجريمة، وتحرر محضر بالواقعة، لتتولى النيابة المختصة التحقيق.

طباعة شارك التحرش شهيد الشرف الشاب هشام أسامة

مقالات مشابهة

  • شهيد الشرف.. حكاية مقـ.ـتل الشاب هشام أسامة دفاعا عن والدته من التحـ.ـرش باللبيني
  • العراق: عن هشاشة الدولة التي لا يتحدث عنها أحد!
  • رانيا المشاط: تمكين المرأة يعد جزءًا رئيسيًا من جهود الدولة
  • أمريكا وإسرائيل على حافة صدام.. خلافات عميقة حول إيران وصفقة الأسرى
  • وزيرة التنمية المحلية تشارك في مقابلات برنامج المرأة تقود للتنفيذيات
  • وزيرة التضامن تشارك في مقابلات برنامج المرأة تقود للتنفيذيات
  • سرينا وليامز تحصد جائزة أميرة أستورياس
  • الجبهة الوطنية: الأزمات والتحديات التي تواجهها الدولة تتطلب حلولاً مبتكرة خارج الأطر التقليدية
  • وزير الثقافة يشارك في المقابلات الشخصية لبرنامج المرأة تقود للتنفيذيات
  • سيفقد أولاد دقلو كل المدن التي سيطروا عليها وسيتحولون إلى مجرد مجرمين هاربين