يمانيون ـ  تحليل | أنس القاضي

إعلان ترامب شخصياً عن الاتفاق الذي جرى في مسقط يحمل في طياته اعترافاً بالفشل، نظراً لتصريحاته السابقة التي تتحدث عن “الاجتثاث والقضاء” وغيرها من المفاهيم التي تصور نتيجة حاسمة للحرب، كثير من التحليلات والتعليقات على التصريح رأت فيه فشلاً وهزيمة في هذه المعركة أمام اليمن، وهي بالتالي تعني فشل ما سمي بـ “تحالف الإزدهار”، القائم على أساس عدواني لضمان التجارة الإسرائيلية الأمريكية بالقوة.

وجاء الإعلان مدفوعاً بالحاجة إلى زيارة المنطقة، والظهور فيها بصفته القادر على التأثير سواء العسكري أو الدبلوماسي. وكما هو عليه حال المفاوضات مع طالبان من قبل، ولقاء زعيم كوريا الشمالية في الإدارة الأولى، والتواصل مع موسكو لبحث المسألة الأوكرانية، والدخول في مفاوضات مع إيران، فإن تصرفات ترامب لا يمكن التنبؤ بها.
وأثار الاتفاق الأخير بين الولايات المتحدة وصنعاء، القاضي بوقف إطلاق النار المتبادل في البحر الأحمر، ردود فعل غاضبة ومترقبة في الكيان الصهيوني. إذ لم يُنظر إلى الاتفاق بوصفه مجرد ترتيبات أمنية بين طرفين، بل كإشارة إلى تحوّلات أعمق في السياسة الخارجية الأمريكية تمس جوهر العلاقة الاستراتيجية بين واشنطن ودولة الاحتلال الصهيوني.

متغير استراتيجي
دلالات الاتفاق اليمني الأمريكي بوقف إطلاق النار ليست هينة، وهي تعيد التأكيد على حقيقة أفول نظام الأحادية القطبية الإمبريالي، وانتزاع الشعوب المظلومة حقها في السيادة والحياة والتطور.
يعكس الاتفاق تحولاً استراتيجياً يُمكن قراءته بوصفه أحد تجليات الأزمة العميقة التي تواجه الولايات المتحدة كقوة عالمية أحادية كانت في السابق قادرة على فرض معادلات ردع شاملة، لكنها اليوم تُفاوض خصماً من “الأطراف” لا المراكز العالمية، على قاعدة الندية المشروطة.
التفاوض مع صنعاء، وليس قصفها أو عزلها كما جرى منذ عدوان 2015م، يعني أن واشنطن -أرادت أم لا- باتت تتعامل مع صنعاء كفاعل قادر على الردع والتكلفة، لا كقوة هامشية أو “جماعة انقلابية”، وهذا يتسق مع حقيقة أن القدرة على فرض قواعد اشتباك من الأطراف مؤشر على تحوّل استراتيجي في توازنات القوة العالمية.
يكشف الفشل الأمريكي في اليمن عن تحوّل استراتيجي بالغ الأهمية على المستويين الإقليمي والدولي، إذ لم يُمثل الاتفاق الذي أُبرم مع صنعاء نهاية لحلقة من التصعيد فحسب، بل شكّل دليلاً مادياً على سقوط مبدأ الردع الأمريكي-الإسرائيلي، خاصة بعد استهداف مطار اللد “بن غوريون” في عمق الكيان الصهيوني، وهو ما أثبت بوضوح أن الردع التقليدي لم يعد فاعلاً، وأن أطراف المقاومة باتت قادرة على ضرب مراكز التحالف الغربي دون أن تُجابه بحسم عسكري ناجز.
بالعموم اتفاق أمريكا مع اليمن على وقف النار في البحر الأحمر ليس تسوية جزئية فحسب، بل هو اعتراف استراتيجي بأن عهد الهيمنة الأمريكية المطلقة قد انتهى عملياً، الولايات المتحدة تمر من طور الهيمنة إلى طور التراجع الدفاعي، بينما الأطراف تفرض حقائقها من موقع القوة والاستقلال لا التبعية.

كيف قرأ الصهاينة الاتفاق
الاتفاق كتحوّل استراتيجي في السياسة الأمريكية

رأت النخب الأمنية والسياسية في “إسرائيل” أن قرار ترامب بوقف الهجمات على اليمن جاء استجابة لمطالب صنعاء المرفوعة، لا نتاج انتصار ميداني أمريكي، ما شكّل خرقاً لمبدأ “إسرائيل أولاً” الذي حكم الكثير من تحركات واشنطن في السنوات الأخيرة، وهو يستجيب لشعار “أمريكا أولاً”، الذي يأتي على حساب الحلفاء، بما في ذلك الناتو، فدخول الولايات المتحدة في مفاوضات مع روسيا بشأن أوكرانيا خلق صدمة لدول القارة الأوربية، التي رأت أن سياسة “أمريكا أولاً” ليست قائمة على موازنة مصالح أمريكا وحلفائها، بل قد تعني الإضرار بمصالح الحلفاء.
جاء الاتفاق متجاوزاً “إسرائيل” تماماً، إذ لم تُدرج مصالحها ضمن بنوده، ما عُدّ بمثابة استبعاد صريح أثار صدمة في المؤسسة الإسرائيلية. فقد أصبحت مواقع العدو الحيوية في الأراضي المحتلة مكشوفة أمام القوات المسلحة اليمنية دون غطاء أمريكي، وهو ما فُسر كإشارة إلى بداية مرحلة جديدة من الحسابات الأمريكية القائمة على المصلحة المباشرة لا الالتزام التاريخي.
بالنظر إلى ما يفهمه الصهاينة من “ارتباط صنعاء بطهران” وفق التصنيف، فإن قبول واشنطن بالتفاهم مع صنعاء دون شروط، اعتُبر مقدّمة لانفتاح محتمل مع إيران. هذا التحول إذا صح سيهدد عقيدة الردع العدوانية الصهيونية القائمة على الدعم الأمريكي المطلق في مواجهة البرنامج النووي الإيراني.
مثّل الاتفاق اعترافاً ضمنياً من واشنطن بفشل المقاربة العسكرية في البحر الأحمر. فعلى الرغم من التفوق العسكري والتقني، لم تستطع الولايات المتحدة كبح هجمات صنعاء، ما كشف لـ”إسرائيل” حدود القوة الأمريكية، وأضعف رهاناتها على الشراكة الاستراتيجية كضمانة أمنية، وهو يدفعها أكثر إلى الاعتماد على النفس، كما يدفع ذات الأمر الدول الأوربية إلى الاعتماد على النفس. لهذا لم يكن مستغرباً طرح الرئيس الفرنسي ماكرون شعار الاستقلال الاستراتيجي الأوربي عن أمريكا.
بحسب الخطاب الصهيوني، فقد أدى تفكك التحالف بين ترامب ونتنياهو إلى تراجع غير مسبوق في مستوى التنسيق، وسط اتهامات متبادلة بالتلاعب والفشل. ومثّل الاتفاق مع صنعاء تتويجاً لهذا التصدع من وجهة النظر “الإسرائيلية”، حيث بدأت واشنطن تتعامل مع “إسرائيل” كمُعطى سياسي غير حاسم في ملفات حساسة كالتطبيع مع السعودية أو إنهاء الحرب في غزة.

خيارات الكيان في مرحلة ما بعد الاتفاق
أعلنت “إسرائيل” أنها غير ملزمة بالاتفاق، وأنها ستواصل استهداف اليمن، بل وتكثيف الهجمات لتشمل البنية التحتية، ومنصات الإطلاق، وحتى الموانئ اليمنية، حد قولهم. وتُعد هذه الاستراتيجية العدوانية المحتملة محاولة لاستعادة الردع المفقود، وتعويض الانكشاف الناتج عن غياب الغطاء الأمريكي الذي أظهر الكيان ضعيفاً أمام محور المقاومة وأمام دول التطبيع.
وفي ظل الربط الصهيوني بين صنعاء وطهران، ألمح الكيان إلى إمكانية نقل المعركة إلى العمق الإيراني، حد تعبيره. وقد يكون هذا التهديد رسالة ضغط تهدف لإحباط أي انفتاح أمريكي-إيراني، لكنه يحمل أيضاً مخاطر توسيع رقعة المواجهة الإقليمية.
رغم أن الصواريخ اليمنية باتت تصل إلى أهداف حيوية كمطار اللد “بن غوريون”، إلا أن الخطاب الداخلي الإسرائيلي يسوّق لفكرة السيطرة الكاملة، مستنداً إلى فعالية منظومة الدفاع الجوي المزعومة. وقد أدى هذا الخطاب إلى التقليل من شأن التهديدات اليمنية، في محاولة لحماية “الجبهة الداخلية” الإسرائيلية من الضغط النفسي. وتوازن “إسرائيل” في خطابها بين طمأنة الجمهور (عبر الحديث عن الإحصائيات ومحدودية الأضرار اليمنية وقدراتهم المزعومة على التصدي) وبين إرسال رسائل تهديد للخارج تؤكد أن الرد سيكون قوياً وشاملاً. هذا الأسلوب يعكس مأزقاً سياسياً وأمنياً في آنٍ واحد، تحاول من خلاله القيادة الإسرائيلية إدارة أزمة الثقة دون الإقرار بالعجز.

نقد الرؤية الإسرائيلية
في العموم يكشف الموقف الإسرائيلي من الاتفاق اليمني-الأمريكي حجم القلق من التحولات الجارية في بنية السياسة الخارجية الأمريكية، والتي بدأت تتخلى عن مبدأ الدعم المطلق للكيان، لصالح مقاربة أكثر براغماتية وإيلاء الأولوية للمصالح الأمريكية.
في المقابل، تسعى “إسرائيل” لتعويض تراجع الدور الأمريكي عبر التصعيد الأحادي ومحاولة فرض توازنات بالقوة. غير أن ذلك قد يؤدي إلى انفجار جبهة جديدة دون ضمانات للحسم.
في المحصلة، يبدو أن “إسرائيل” لم تعد الطرف الوحيد الذي يفرض قواعد اللعبة في المنطقة، بل باتت في مواجهة مسار جيوسياسي جديد يزداد فيه موقعها هشاشة.
ورغم أن الكيان يبالغ في مدى تضرر العلاقة الاستراتيجية بينه وبين الولايات المتحدة، إلا أنه لا يمكن الحديث عن تخلٍ أمريكي عن الكيان الصهيوني، بل عدم القتال مباشرة دفاعاً عنه ضد اليمن في معركة البحر الأحمر المرتبطة بحرب الإبادة في غزة، فيما سيستمر الدعم الاستراتيجي العسكري والتعاون الاستخباراتي للكيان، في مواجهة اليمن، وفي مواجهة محور المقاومة عموماً، فلا زالت المصلحة الأمريكية والغربية عموماً أن يظل الكيان الطرفَ الأقوى في المنطقة، لإضعاف الدول العربية والإسلامية، دعماً للمشروع الاستعماري الجديد.

المصدر ـ موقع أنصار الله

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: الولایات المتحدة البحر الأحمر فی مواجهة مع صنعاء

إقرأ أيضاً:

البيت الأبيض: إسرائيل وافقت على وقف إطلاق النار مع إيران بشرط

أعلن مسؤول رفيع في البيت الأبيض أن إسرائيل وافقت على وقف إطلاق النار مع إيران، بشرط ألا تشن الأخيرة أي هجمات جديدة. 

وكشف المصدر أن هذه المبادرة جاءت ضمن اتفاق دبلوماسي أوسع يُشرف عليه ترامب، تخللته اتصالات مباشرة وغير مباشرة جمعت مسؤولين أمريكيين مع الإيرانيين لبلورة خطوة التهدئة .

وبموجب الاتفاق، تولى كل من نائب الرئيس جي. دي. فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو والمبعوث الخاص ستيف ويتكوف إجراء اتصالات مباشرة وغير مباشرة مع الجانب الإيراني، سعياً لتمهيد الطريق أمام إعلان ترامب عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران. 

ووفق المصدر، تأتي إسرائيل متجاوبة مع هذا الاتفاق، شرط أن تمتنع إيران عن أي تصعيد جديد، وأن تُنفّذ التهدئة بإشراف مراقبة دولية أو آليات تنفيذية مشتركة.

بوساطة قطرية واقتراح أمريكي.. مسؤول إيراني كبير: طهران توافق على وقف إطلاق النار مع إسرائيلرويترز: رئيس الوزراء القطري حصل على مواقفة إيران على وقف الحرب مع إسرائيلترامب: على إسرائيل وإيران السير نحو السلامإسرائيل تحذر الإيرانيين من التواجد بالقرب من الأماكن الأمنية والعسكرية

جوهر المساعي الأمريكية، كما صُوّرت عبر هذا الاتفاق، يكمن في تحصين التهدئة بالضمانة الأمريكية، التي تتمثل في وجود قنوات اتصال مستمرة بين المسؤولين وواشنطن من جهة، والإيرانيين من جهة أخرى. 

ويُرجّح أن تمنح أمراً مؤقتاً لإنهاء العمليات العسكرية المشتركة وخلق صفحة جديدة من التهدئة الإقليمية.

وكان الرئيس ترامب قد أعلن بالفعل عن وقف إطلاق النار الكامل والشامل، مبيّنًا أنه يبدأ بوقف إيراني أولاً، يليه وقف إسرائيلي بعد 12 ساعة، على أن يُعتبر الصراع منتهيًا رسميًا بعد مرور 24 ساعة من بداية الاتفاق، لكن، وفق مسؤول البيت الأبيض، فإن الانسجام على الأرض تبع الاتفاق، وقد شمل حسن التنفيذ ضمن شروط عدم التصعيد الإيراني الجديد.

تأتي هذه الرؤية العملية للتهدئة بعد جولة قصف عنيفة شملت منشآت إيرانية، وردود فعل صاروخية ضد مواقع أمريكية وإسرائيلية، بالإضافة لضغوط دبلوماسية خليجية بوساطة قطرية، ما رفع سقف التوتر الخليجي والإقليمي خلال الأيام الماضية 

الواقع المرحلي مرهون بالتزام طهران صراحة بعدم إطلاق هجمات جديدة، وهو ما يرسم ملامح مستقبل التهدئة إذا نجحت المراقبة وفُعلت آليات التنفيذ. أما في حال خرق التزمات من أي طرف، فما تم الاتفاق عليه سيصبح بلا ضمانات، وتعاد المنطقة إلى مربع التصعيد والانزلاق نحو حرب مفتوحة مرة أخرى.

طباعة شارك البيت الأبيض إسرائيل إطلاق النار إيران هجمات جديدة اتفاق دبلوماسي الرئيس جي دي فانس ماركو روبيو

مقالات مشابهة

  • خبير في الشأن الإسرائيلي: ترامب يضغط لوقف إطلاق النار في غزة لصرف الأنظار عن الداخل الأمريكي
  • إسرائيل: سنتعامل مع صنعاء مثل طهران وأمرنا الجيش بإعداد خطة ضد الحوثيين
  • هل يصمد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران؟ محللون يجيبون
  • ترامب: غير راضٍ عن إسرائيل وإيران.. ووقف إطلاق النار تم انتهاكه رغم الاتفاق الكامل
  • وزير دفاع إسرائيل: سنرد بقوة على انتهاك إيران لوقف إطلاق النار
  • وزارة الخارجية: المملكة ترحب بإعلان الرئيس الأمريكي التوصل لصيغة اتفاق لوقف إطلاق النار بين طرفي التصعيد في المنطقة
  • المملكة ترحب بإعلان الرئيس الأمريكي التوصل لصيغة اتفاق لوقف إطلاق النار
  • المملكة ترحب بإعلان الرئيس الأمريكي التوصل لصيغة اتفاق لوقف إطلاق النار بين طرفي التصعيد في المنطقة
  • دخول وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران حيز التنفيذ
  • البيت الأبيض: إسرائيل وافقت على وقف إطلاق النار مع إيران بشرط