في الساعات الأولى من صباح الاثنين، وعلى مياه يفترض أن يحميها القانون الدولي، أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي على اعتراض سفينة «مادلين»، التي لم تكن تحمل سوى علب حليب للأطفال، وعكازات لجرحى بلا أطراف، وأصوات ناشطين قرروا أن الصمت لم يعد أخلاقيا أمام الإبادة في غزة.

ما جرى يمثل انتهاكا واضحا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، ومساسا خطيرا بحرية الملاحة وحق الإنسان في الاحتجاج السلمي ويمثل سابقة خطيرة في تقويض الحماية القانونية للسفن المدنية في المياه الدولية، ويستدعي تحقيقا دوليا مستقلا لا يكتفي بالتنديد.

.. رغم أن هذه ليست المرة الأولى التي تقدمها فيها إسرائيل على مثل هذا الفعل، فما زالت صور اقتحام السفينة «مرمرة» في عام 2010 حاضرة في المشهد العالمي رغم أن الاختلاف في مستوى الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية بين تلك الحادثة وحادثة سفينة «مادلين».

لم تكن إسرائيل تعتقل النشطاء المدنيين المسالمين عندما قامت برش السفينة بمادة بيضاء مجهولة، وقطعت عنها الاتصالات، وأحاطتها بالزوارق والطائرات، ولكنها كانت تعتقل الفكرة، فكرة أن يحق للإنسان أن يُغيث الجوعى، وأن يشهد على الجريمة، وأن يعترض بالوسائل السلمية على جريمة كبرى تُرتكب على مرأى من العالم.

لذلك لا يمكن تفسير اعتقال الناشطة البيئية السويدية غريتا تونبرغ، وعضوة البرلمان الأوروبي ريما حسن، وصحفيين ونشطاء من دول مختلفة ضمن تفسير عسكري معزول عن سياقه، فهو فعل سياسي متعمد لإسكات رمزية بدأت تتسرب من هوامش السياسة إلى وجدان الشعوب العالمية.لم تكن «مادلين» تهدد الأمن الإسرائيلي، ولم تكن تحمل سلاحا، لكنها، كما تدرك إسرائيل تماما، تهدد روايتها المهترئة عن «الجيش الأكثر أخلاقية»، وتفضحها أمام عدسات الضمير العالمي.

إن ردة الفعل الإسرائيلية ـ من ترويع النشطاء، إلى اتهامهم بلا دليل بـ «معاداة السامية» ودعم حماس، إلى إجبارهم على مشاهدة فيديوهات 7 أكتوبر ـ تعكس انكشافا داخليا مرعبا، فإسرائيل لم تعد تملك حتى القدرة على التمييز بين مقاوم ومُسعف، وبين مقاتل وطفل، وبين سفينة مساعدات وسفينة حربية، وهذا ليس مع السفينة «مادلين» فقط ولكن في ساحات غزة حيث تقصف المستشفيات ومراكز توزيع المساعدات وتحرك عربات الإسعاف وتغتال المسعفين كل يوم. إنها في لا تحارب أعداء بل تحارب مفاهيم الرحمة، والإغاثة، والحق في الحياة.

وفي المقابل، فإن رد الفعل الدولي الرسمي ـ رغم بيانات الاعتراض من فرنسا وتركيا وإسبانيا حتى الآن ـ يظل أضعف من أن يُحدث فرقا، فلا عقوبات، ولا تحقيقا دوليا، ولا مساءلة حقيقية. وحده «القلق» يتكرر، فيما الجثث تتكرر، والجوع يتكرر، والانهيار يتسارع. كيف نفسر هذا الصمت؟ كيف نُبرّر لعصرنا أن من يحمل علبة حليب يُعتقل، ومن يمنع دخولها يُمنح غطاء سياسيا وعسكريا وإعلاميا؟

لقد أصبح الصمت العالمي شريكا في الجريمة، تماما كما قالت تونبرغ قبل انطلاقها: «ما أخشاه ليس الرحلة... بل سكوت العالم، لأنه هو من يُمكّن الإبادة». لقد باتت إسرائيل لا ترد على المبادرات الإنسانية بالدبلوماسية أو القانون، بل بالمواجهة المسلحة. وكل من يحاول إيصال الضمير إلى غزة، يصبح هدفا... وربما شهيدا.

والحصار على غزة ليس حصارا جغرافيا فقط، إنه حصار لكل المعاني النبيلة بما في ذلك العدالة، بل حتى حصار على القدرة على الحزن والتضامن.. وهذه لحظة صعبة يمر بها العالم، في قيمه ومبادئه وفي قوانينه وفي نظامه العالمي الذي ما زال يتشبث ببقائه.

والسؤال الذي لا بدّ أن يوجه للعالم الآن ليس سؤالا قانونيا وإنما وجوديا: هل لا تزال لدينا منظومة أخلاقية يمكن أن تردّ؟ أم أن الضمير العالمي قد غرق بالفعل مع «مادلين» في عرض البحر قبالة غزة المحاصرة بالجوع والموت؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لم تکن

إقرأ أيضاً:

اليمن صوت الإيمان والنصرة في زمن الصمت والخذلان

 

 

في زمن يعلو فيه صوت القهر على أنين المظلومين، ويهيمن فيه صمت الأنظمة على صرخات الجياع المحاصرين من نساء وأطفال غزّة المستضعفين، خرج اليمن بصوته الصداح، وقبضته المرفوعة، وهاماته الشامخة، شعبًا وقيادة، ليؤكد أن الأمة لم تمت، وأن القلوب الحيه ما زالت تنبض بالإيمان والغيرة والكرامة.
لم يكن الحشد المليوني في ميادين المحافظات وميدان السبعين مجرد جموع خرجت لترفع شعارات عابرة، بل كان تجسيدًا حيًا لعقيدة راسخة تؤمن بأن فلسطين ليست قضية حدودٍ ووطنٍ مسلوب فحسب، بل هي اختبار للإيمان والوفاء والوعي. إن خروج الشعب اليمني لم يكن مقتصرًا على هذا اليوم فقط، فهو خروج يتكرّر كلّ يوم جمعة منذ بداية العدوان “الإسرائيلي” على غزّة، تأكيدًا على الثبات والوفاء، غير أن هذا اليوم كان الأوسع والأكثر حشدًا وزخمًا، استجابة لدعوة القائد الذي حمل هم الأمة في صدره وأكد على أهمية هذا الخروج العظيم، لتكون جموع اليمنيين رسالة حية إلى غزّة المحاصرة: لستم وحدكم.
من وسط هذا الزمان الذي ساد فيه الخذلان وعم فيه النكوص، حسب تعبير الرئيس المشاط، في تحيته للجماهير اليمنية اليوم، وقف الشعب اليمني يقول كلمته: إن دماء أطفال غزّة ليست أرقامًا في نشرات الأخبار، وإن دموع الأمهات الثكالى ليست مادة للفرجة، بل هي أمانة في أعناق الأحرار وأبطال الميادين. وفي ميادين اليمن، تردّدت الهتافات تهزّ القلوب: “الجهاد الجهاد.. حيّ حيّ على الجهاد”، “مع غزّة يمن الأنصار.. بجهوزية واستنفار”.
ما فعله اليمن لم يكن شجبًا إنشائيًّا ولا تأييدًا رمزيًّا بل كان تأكيدًا عمليًّا على استعداد واستنفار وتفويض كامل للقيادة في اتّخاذ ما يلزم من خطواتٍ تصعيدية. هكذا يتحول الغضب الشعبي من مشاعر إلى مواقف، ومن مواقف إلى أفعال، ومن فعل إلى عنوان يتجاوز حدود اليمن ليبلغ أسماع من اعتادوا الصمت في قصورهم.
هنا يتجلى الفارق الجوهري بين من يحجبون المعابر ويغلقون الأبواب في وجه المجاهدين، وبين شعبٍ لا يطلب سوى أن يفتح له الطريق ليشد الرحال إلى الجبهات، مستجيبًا لأمر الله، ونصرة للحق، ووفاء لدماء الشهداء.
إن هذا الحشد المليوني بقدر ما كان رسالة للعدو الصهيوني، فقد كان أيضًا صفعة أخلاقية للأنظمة المتخاذلة، واستنهاضًا للضمائر في الأمة التي طوقها الخوف وكبلها الخنوع. فقد برهن اليمنيون أن الشعوب حين تصحو لا تحتاج إذنًا من أحد، وأن الإرادة الشعبية أقوى من كلّ سياج وحدود.
أما حين يهتف الشعب: “فوضناك يا قائدنا”، فإنه يختصر المسافة بين القيادة والقاعدة، ويقول بلسانٍ واحد: نحن معكم في السراء والضراء، في الحصار وفي الجهاد، في القهر وفي الانتصار.
إن الموقف اليمني يخرج القضية الفلسطينية من مربع الشعارات، لتصبح التزامًا ايمانيًّا وعقدًا أخلاقيًّا مع الله والتاريخ. ومن ميدان السبعين إلى غزّة، تمتد خيوط الوعي والصبر والمواجهة، لتقول للعالم إن الدم لا يُقهر إن حمله الأحرار في عروقهم، وإن الحصار لا يقتل الروح إن حملتها قلوب مفعمة بالعقيدة والثقة بوعد الله.
سيبقى اليمن شاهدًا على أن الأمة لم تمت، وسيبقى اليمني البسيط، الذي يدفع من قوت يومه ليمنح ما يستطيع لأجل فلسطين، عنوانًا صادقًا للأمة حين تتجلى في اصدق صورها، أمة الجهاد، أمة العزة، أمة الكرامة.

مقالات مشابهة

  • حين يصبح الصمت جريمة.. غزة تنزف والضمير العالمي في غيبوبة
  • الصمت خيانة.. فتوى غاضبة من كركوك لنصرة غزة
  • في حضرة الصمت العالمي: جريمة سعودية جديدة على الحدود… والشاهد جثة متفحمة
  • شرطة الاحتلال تعتقل موظفات بالقنصلية التركية في تل أبيب
  • قوات الاحتلال تعتقل 21 فلسطينيًا في الضفة الغربية
  • قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل 21 فلسطينيًا على الأقل من الضفة الغربية
  • قوات الاحتلال تعتقل ثلاثة شبان بجبع
  • قوات الاحتلال تعتقل مواطنين من أريحا
  • أستاذ بالأزهر: محاولات تحويل الغضب العالمي من إسرائيل إلى مصر وقاحة غير مسبوقة
  • اليمن صوت الإيمان والنصرة في زمن الصمت والخذلان