يمن مونيتور:
2025-07-31@09:54:21 GMT

المثقف اللبيب الحسَّاس وفضيلة الفكر

تاريخ النشر: 11th, June 2025 GMT

المثقف اللبيب الحسَّاس وفضيلة الفكر

الأحداث الكبرى -من حروب وكوارث- تولِّد في نفوس الناس مشاعر مضطربة والتباسات وغوامض وأخلاط من الأسئلة والشبهات.

وهنا تكون الحاجة ملحّة إلى أثمن ما نفتقده اليوم وهو المثقف اللبيب الحسَّاس الذي يبحث ويبيّن ويدقق ويعلل ويجادل ويبرهن، ويضع الأمور في مواضعها الصحيحة، يكشف عن المختلِف بين أشياء وأحوال ومفاهيم ومقامات وإمكانات وفرص تبدو للعوام واحدة متجانسة، أو عن المتفق بين أشياء تبدو للعوام مختلفة متنافرة.

هذا المثقف هو ذاته “الفيلسوف الجاد” الذي وصفه توماس هوبز في أحد كتبه بأنه شخص يسمح لعقله بالتحرك “في أعماق التصورات والتجارب بحيث يقوم بإدراك الأشياء المختلطة المضطربة ويفصل بينها ويعزلها ويميزها، ثم يختم كل واحدة منها باسمها الخاص، ويضعها في نظام محدد وترتيب معين”.

وهو الذي يعنيه الجاحظ حين قال: “إنما يَعرفُ العاقل فضل العاقل في مضايق الأمور، وساعة الجولة، والعجلة والحيرة، وظهور الفتنة، وموجان السفلة، واضطراب العلية، واختلاط الخاصة بالعامة”.

وقد تحدث الفارابي في معظم كتبه عن “الفضيلة الفكرية”، بوصفها المَلَكة التي بها يتمكّن الإنسان من استنباط الأنفع والأجمل لأممٍ أو لأمّةٍ أو لمدينةٍ، في ضوء ما يعرض لها من وقائع وتغيرات.

ينطلق الفارابي من وجهة نظر أرسطية تقول إن الإنسان يتشوّق إلى ضربين من العلم:

علم يُطلب للانتفاع به في سلامة الأبدان، وسلامة الحواس، وسلامة القدرة على تمييز ما يُفضي إلى تلك السلامة، وكذلك سلامة القوة التي تسعى إلى تحصيلها. وهذا هو “العلم العملي”، وتندرج تحته السياسة والأخلاق.

وعلم آخر يُطلب لذاته لا لشيءٍ آخر، وهو فضلٌ وزائدٌ على العلم النافع، ويُسمّى “العلم النظري”.

ثم ينتقل الفارابي إلى التمييز بين نوعين من المعقولات: “معقولات طبيعية” و”معقولات إرادية”.

المعقولات الطبيعية هي التي تُوجد عن الطبيعة، وتقترن بها الأعراض الملازمة لها.

أما المعقولات الإرادية، فهي التي توجد خارج النفس بفعل الإرادة، وتكون أحوالها وأعراضها مقترنة بالفعل الإرادي، لا بذاتها.

تنتمي حوادث التاريخ، من مدن ودولٍ وسنن وسياساتٍ وفضائل وأعمالٍ وحروبٍ وعلاقات، إلى المعقولات الإرادية، وهي معقولاتٌ تتبدّل أحوالها بتبدّل الزمان والمكان. ولهذا السبب، تستحيل إحاطتها بالعلوم النظرية؛ لأن هذه العلوم لا تعنى إلا بـ”المعقولات التي لا تتبدل أصلاً”.

وهكذا، فالعلم العملي موضوعه المعقولات الإرادية، والفضيلة الفكرية تابعةٌ له،

أما العلم النظري فموضوعه المعقولات الطبيعية التي لا تتغير.

يعرّف الفارابي الفضيلة الفكرية بأكثر من طريقة، سنكتفي منها بهذا النص من “فصول منتزعة”:

“الفضيلة الفكرية هي ما يَقْدِر بها الإنسان على جودة الاستنباط لما هو أنفع في غايةٍ فاضلةٍ مشتركةٍ للأمم أو لأمّة أو المدينة عند واردٍ مشترك.

ومنها ما يُستنبط لما يتبدل في مُددٍ قصار، وهذه تسمّى القدرة على أصناف التدبيرات الجزئية الزمنية عند ورود الأشياء التي ترد أولًا فأولًا على الأمم أو على أمّة أو على مدينة.

فأمّا القوة الفكرية التي يُستنبط بها ما هو أنفع في غايةٍ هي شرّ، فليست هي فضيلةً فكرية”، (فصول منتزعة، ص99).

وهنا تظهر الصلة بين الفضيلة الفكرية و”العقل العملي”، الذي يعرّفه الفارابي في موضعٍ آخر بأنه:

“قوةٌ بها يحصل للإنسان، عن كثرة تجارب الأمور وعن طول مشاهدة الأشياء المحسوسة، مقدماتٌ يمكنه بها الوقوف على ما ينبغي أن يُؤثَر أو يُجتنب، في شيءٍ شيءٍ من الأمور التي فِعلُها إلينا”.

وقد نقابل بين “الفضيلة الفكرية” كما صوّرها الفارابي، ومفهوم “الحسّ المشترك” كما ورد عند كانط، وهو يشير إلى القدرة على رؤية الأشياء لا من وجهة نظر المرء نفسه فقط، بل من منظور الآخرين، أي منظور المجال العمومي.

إن أسباب العَوَام من الناس -في الرضا والسخط- حسيِّة لا عقلية، جزئية لا كلية.

يُرضيهم ما يجعل حياتهم أسهل وأرقى وأقل كُلفة وأكثر أمناً، ويُسخطهم ما يسد عليهم منافذ وسُبل الحياة الكريمة الرخيّة، ويكلفهم العناء، ويجور عليهم بالأثقال.

لا يهتم الرجل العادي ما إن كان الحكم جمهوري أو ملكي، ديمقراطي أو استبدادي، ديني أو علماني،

لأنه لا يرى الأمور إلا من زواية تأثيرها المحسوس على حياته وحياة أمثاله من الناس،

فإن كان تأثيرها حسناً، فهي جديرة بالاستحسان، وإن كان مزعجاً ومكدِّراً، فهي جديرة بالذم والسخط.

بينما ينظر المثقف والمفكر ورجل السياسة (الخاصة، صفوة المجتمع)، إلى الحوادث الجزئية والأوضاع المتفرقة ويعلِّلها بالمفاهيم والمبادىء والأفكار الكلية، أو العكس.

يَجمع الأجزاء في كلٍّ موحَّد.

يصنع من الوقائع التفصيلية مقولة منطقية تفسيرية.

يُخبر الناس مثلاً أن فساد وقسوة أوضاعهم ناتجان عن فساد وقسوة مبدأ الحُكم. ثم يعطي المبدأ الفاسد اسماً، ويشجع على الالتفاف حول مبدأ أصلح وأرشد وأعدل منه.

في مقال يعلق فيه طه حسين على كتاب “خيانة المثقفين” للفرنسي جوليان بندا، نقرأ أن المثقف ليس مسئولاً عن عقله فحسب، بل هو مسئول عن نتائج هذا العقل وعن آثاره في معاصريه من جهة، وفي الأجيال المقبلة من جهة أخرى.

فالمثقف الممتاز، كما يقول طه حسين، هو أستاذ، “سواء أشغل منصب التعليم أو لم يشغله، ومن الحق على الأستاذ لتلاميذه أن يكون لهم مثلًا صالحًا وقدوةً حسنةً، وأن يعصم لهم نفسه من الضعف الذي يفسد رأيهم في العقل، ويشككهم فيه، ويدفعهم أن ينظروا إليه كما ينظرون إلى مصادر الإنتاج المختلفة، كالتجارة والزراعة والصناعة، على أنه شيء قابل للبيع والشراء والأخذ والعطاء، وعلى أنه يصلح موضوعًا للمساومة التي مهما تكن شريفةً نقيةً فإنها لا تليق بالحق ولا بالعقل الذي يلتمس الحق ويبحث عنه.

ثم هو آخر الأمر مسؤول عن نفسه؛ فقد ينبغي للرجل الكريم ألا يأتي من الأمر ما يستخذي منه أمام نفسه إذا خلا إليها، وألا يشارك فيما لا يطمئن ضميره الخالص إلى المشاركة فيه”.

إن اليمني المهزوم أمام الآفات التي أطاحت بكيانه الوطني، يعاني منذ سنوات من حالة مريعة من العمى العقلي والأخلاقي، من العجز عن النظر الصحيح في الأعمال والأقوال، والعجز عن الحكم عليها تصويباً أو تغليطاً، بالتحسين أو التقبيح، وعن تمييز النافع من الضار، النفع العام والضرر العام.

فوضى عارمة في القيم والمرجعيات والمبادىء.

وهذا ليس غريباً بالنظر إلى طبيعة المرحلة التاريخية التي يعيش فيها.

ذلك أن الحروب وانهيار الدول هي مناسبات عنيفة تعيد طرح ما هو أساسي وجوهري من أسئلة الوجود الأولى للبحث والتداول: ما الحياة وما الموت؟

ما العدل وما الجور؟ وما الخير وما الشر؟

أسئلة الصواب والخطأ، القوانين والأخلاق والأديان والدول والعادات والطبائع والموازين، الهوية والاختلاف، الواحد والمتعدد، الحرية والأمن، التاريخ والطبيعة، الفرد والجماعة، العقل والغريزة، أصل الأشياء وفصلها، البداية والمصير.

ويقف العقل اليمني، أمام طوفان الأسئلة هذا، عاجزاً عن تجميع الحقيقة المتشظية الجارحة المفسِّرة لألمه وانحطاط أحواله.

فالألم يسأل دوماً عن السبب، بينما تميل المتعة إلى الاكتفاء بذاتها، كما يقول نيتشه.

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: يمن مونيتور

إقرأ أيضاً:

ما مصدر المعلومات الذي يثق به ترامب وبه غير موقفه من تجويع غزة؟

رغم تمتعه بإمكانية الوصول إلى أقوى شبكة لجمع المعلومات في العالم، يحرص الرئيس الأميركي دونالد ترامب على استقاء معلوماته مما يشاهده عبر التلفزيون، وفق مجلة "ذي أتلانتيك" الأميركية.

وبحسب الكاتب في الصحيفة ديفيد غراهام، فإن ذلك كان سببا في تغيير ترامب لقناعته إزاء سياسة التجويع الإسرائيلية في قطاع غزة، حيث أقرّ بها في حديثه للصحفيين، قبيل اجتماعه مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في أسكتلندا، الاثنين الماضي.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2واشنطن بوست تسأل جمهورها عن قضية إبستين ودور ترامبlist 2 of 2أفغانستان المجني عليها في الإعلامend of list

وسأل أحد الصحفيين ترامب إن كان يتفق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يصر على نفيه "وجود مجاعة" في غزة، ليجيب "بناء على ما أراه في التلفزيون، أقول لا، لأن هؤلاء الأطفال يبدون جائعين جدا"، مضيفا "هذا مجاعة حقيقية، أرى ذلك، ولا يمكن تزويره".

يقول مساعدو ترامب السابقون إنه لا يقرأ ولا ينتبه أثناء الإحاطات الإعلامية، ويشك بشكل خاص في أجهزة الاستخبارات، لدرجة أنه يصدق كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدلا منها، وهذا يعني أنه على الرغم من حصوله على معلومات عالية الجودة عما يجري في غزة، فإنه لا ينتبه لها إلا عندما تظهر على شاشة التلفزيون.

بواسطة أتلانتك

ويعلق غراهام بأن نتنياهو سياسي ماكر، لكنه لا يستطيع إضعاف علاقة ترامب بالتلفزيون، ولذلك تختلف وجهات نظر الزعيمين مرة أخرى حول غزة، مضيفا أن التلفزيون يساعد ترامب على رؤية الأخبار من نفس منظور عامة الناس، الأمر الذي مكنه من تحقيق نجاحه السياسي، لكنه أيضا يضيّق أفقه، ويجعله عرضة للتلاعب.

"قوة الصورة" غيّرت قناعة ترامب

ولم يعلق الرئيس الأميركي كثيرا على مسألة التجويع في غزة حتى انتشرت في وسائل الإعلام، حيث توضح صور البالغين والأطفال الهزيلين ذوي البطون المنتفخة هذه الحقيقة بشكل أكثر واقعية من أي إحصائيات، وفق أتلانتك، في حين ساعد انتشار مقاطع الفيديو والصور في جذب الانتباه إلى هذه القصة، تماما كما ساعد ذلك في تغيير الرأي العام الأميركي ضد الحرب في غزة، إذ يقول أقل من ربع الأميركيين الآن إن الأعمال العسكرية الإسرائيلية "مبررة تماما".

إعلان

ويقول الكاتب إن إجلال ترامب للتلفزيون يتفاعل بشكل خطير مع شكوكه تجاه أي شخص يمثل خبرة مستقلة، مستحضرا قوله في عام 2015: "أنا أعرف عن داعش أكثر مما يعرفه الجنرالات".

ويقول مساعدو ترامب السابقون إنه لا يقرأ ولا ينتبه أثناء الإحاطات الإعلامية، ويشك بشكل خاص في أجهزة الاستخبارات، لدرجة أنه يصدق كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدلا منها، وهذا يعني بالنسبة لغراهام أنه على الرغم من حصوله على معلومات عالية الجودة عما يجري في غزة، فإنه لا ينتبه لها إلا عندما تظهر على شاشة التلفزيون.

القناة التي يفضّلها ترامب

وبحسب الكاتب الأميركي، يمثل ما وصفه بالتدفق الضيّق للمعلومات مشكلة، لأن التلفزيون ليس مصدرا جيدا للمعلومات بحد ذاته، بل يجب أن يُستهلك كجزء من نظام إخباري متوازن. وينطبق هذا تحديدا على القناة التلفزيونية التي يبدو أن ترامب يستهلكها أكثر من غيرها، وهي قناة فوكس نيوز، التي قام الباحث الليبرالي مات جيرتز بتوثيق العلاقة المباشرة بين برامجها وتغريدات ترامب خلال ولايته الأولى. وقد وجدت العديد من الأبحاث على مدى سنوات عديدة أن مشاهدي فوكس نيوز أقل اطلاعا من مستهلكي الأخبار الآخرين.

ويعتبر اعتماد ترامب على الأخبار التلفزيونية هدفا سهلا لأي شخص يحاول التأثير عليه، كما يؤكد بحث جيرتز، فقد اعتمد السيناتور ليندسي غراهام، من ولاية ساوث كارولينا، إستراتيجية الظهور على التلفزيون لمحاولة إيصال رسائل إلى ترامب، وقد سأل أحد المذيعين السيناتور غراهام خلال مقابلة: "هل نقلت هذا شخصيا إلى الرئيس؟" ليجيب الأخير: "لقد فعلت ذلك للتو".

وحاول السياسيون الذين يسعون للحصول على دعم ترامب استخدام التلفزيون أيضا، إذ نشر النائب الجمهوري توماس ماسي، إعلانات في فلوريدا أثناء ترشحه لإعادة انتخابه في عام 2020 لكي يراها ترامب، وكذلك فعل معارضو ترامب الذين يرغبون في استفزازه.

ويعلق الكاتب، "حقيقة أن الرئيس يمكن إقناعه بسهولة تثير القلق بحد ذاتها، وتساعد في تفسير التقلبات السياسية خلال فترتي رئاسته، لكنها تشكل خطورة خاصة في عصر المعلومات المضللة".

ويضيف غراهام أن الاعتقاد الساذج لدى ترامب بأن ما يراه على التلفزيون "لا يمكن تزويره" يتناقض مع العديد من الصور المزيفة المؤثرة التي تنتشر على فيسبوك، وفيما يتعلق الأمر بغزة، فإنه لديه إمكانية الوصول إلى أدلة وتحذيرات أكثر موثوقية عبر خبراء حقوق الإنسان، ولكن يبدو أن هذه الأدلة والتحذيرات لا تؤثر عليه.

مقالات مشابهة

  • ما مصدر المعلومات الذي يثق به ترامب وبه غير موقفه من تجويع غزة؟
  • كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • الصين تستضيف قمة منظمة شنغهاي للإعلام ومراكز الفكر
  • الأمير الذي نام طويلاً.. واستيقظت حوله الأسئلة
  • أخلاقيات الإبداع: مستقبل العلاقة الجدلية بين الذكاء الاصطناعي والملكية الفكرية
  • الحمد لله الذي جعلنا يمنيين
  • ما الذي يُمكن تعلّمه من أحداث السويداء؟
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • الرئيس السيسي يوجه بتطوير آليات مكافحة الفكر المتطرف وترسيخ الوعي