نحو حوكمة مائية شاملة: قراءة نقدية في استراتيجية المياه الأردنية 2023–2040
تاريخ النشر: 16th, June 2025 GMT
صراحة نيوز- عندما واجه العالم جائحة كورونا باعتبارها تهديدًا وجوديًا، أعلنت الأردن حالة الطوارئ، وتمّت تعبئة موارد الدولة بكامل مؤسساتها. لكن أزمة المياه في الأردن، رغم أنها تمثل تهديدًا مستدامًا وعميقًا لبقاء الدولة والمجتمع، لا تزال تُعالج بمقاربات تدريجية لا ترتقي إلى مستوى الأزمة. عدد دول العالم المعترف بها يبلغ 195 دولة، والأردن اليوم يُصنَّف الدولة الأولى عالميًا في مستوى الفقر المائي، وفق المؤشرات المعتمدة من المنظمات الدولية المتخصصة، ومع ذلك فإن الاستجابة لا تزال دون مستوى التحدي.
في قلب هذه الإشكالية، تبرز مسألة الحوكمة، لا بوصفها مصطلحًا تنظيميًا فقط، بل كأداة سيادية لضبط مسارات القرار، ومراقبة الأداء، وفرض الالتزام بمبادئ الشفافية والكفاءة. فالرقابة المؤسسية الفاعلة تتطلب جهات تنظيم مستقلة، وضوابط لمساءلة مقدّمي الخدمة، ومنظومات أداء مبنية على مؤشرات ومعايير. وقد تناولت الاستراتيجية ضمن محاورها الحاجة إلى تطوير الإطار المؤسسي وإعادة تنظيم الأدوار لتقليل التداخل بين الجهات العاملة في القطاع، مشيرة إلى تحديات ضعف التنسيق وتعدد المرجعيات. إلا أن خارطة الطريق التنفيذية لهذه النقطة تبقى محدودة من حيث التفاصيل الزمنية والأدوات الملزمة، ولا تظهر بوضوح ملامح إنشاء هيئة تنظيم مستقلة بصلاحيات رقابية كاملة.
وفي السياق ذاته، تبقى كثير من المبادئ التي تتبناها الاستراتيجية في حيز المفهوم النظري، دون أن تُرفق بإجراءات تنفيذية أو تشريعات حازمة. فعلى سبيل المثال، أين هي التشريعات التي تضع قيودًا واضحة على الهدر وتفرض نماذج إلزامية في السلوك المؤسسي والإنشائي؟ لماذا لا يكون ترخيص أي مبنى كبير مشروطًا باستخدام نظام إعادة تدوير المياه الرمادية (المياه الناتجة عن المغاسل، والاستحمام، وغسل الصحون) داخل البناء لاستخدامها في دورات المياه؟ يمكن فصل المياه الرمادية ومعالجتها محليًا ضمن أنظمة بيئية مغلقة، وهو ما تُطبّقه دول مثل أستراليا وسنغافورة في المباني العامة والخاصة. وتشير دراسات عالمية إلى أن استخدام أنظمة المياه الرمادية يمكن أن يوفّر ما بين 30% إلى 50% من استهلاك المياه المنزلية، ما يشكّل خزانًا مائيًا رديفًا داخل البنية العمرانية نفسها. في كيب تاون بجنوب إفريقيا، التي واجهت تهديد “اليوم صفر” لنفاد المياه، فُرضت على الفنادق والمباني العامة أنظمة تحكم ذكية في التدفق، وتم تقنين الاستهلاك الفردي وربطه بتقييمات بيئية حازمة. وقد ساهمت هذه الإجراءات في خفض استهلاك المدينة للمياه بنسبة تجاوزت 50%، حيث انخفض معدل الاستخدام اليومي من 540 مليون لتر إلى حوالي 260 مليون لتر، ما جنّب المدينة الانهيار الكامل في خدمات المياه.
الاستراتيجية الأردنية أشارت إلى أهمية تعزيز استخدام المياه المعالجة والمياه الرمادية، لكن دون أن تقرن هذه المبادئ بتشريعات إلزامية واضحة في مجال ترخيص الأبنية أو اشتراطات المشاريع الكبرى. الفجوة بين التوجهات النظرية والإجراءات الإلزامية تمثل أحد أبرز التحديات، حيث تبقى كثير من السياسات ضمن حيّز التوصيات أو الإشارات، دون أن تتحول إلى أدوات حوكمة صارمة تحفّز الالتزام وتردع الهدر.
أما على مستوى التكامل بين القطاعات، فقد تناولت الاستراتيجية موضوع الترابط بين المياه والطاقة والغذاء والبيئة بشكل إيجابي، وأوصت بمأسسة هذا النهج عبر إنشاء مجلس وطني دائم يضم الجهات المعنية، بهدف تعزيز التنسيق وتطوير السياسات المتكاملة. غير أن تفعيل هذا التوجه على أرض الواقع يظل مرهونًا بتحديد آليات واضحة للتنفيذ بين الوزارات، وتحويل المفاهيم المشتركة إلى سياسات تمويل وتخطيط وتراخيص تنعكس على المشروعات. في المغرب، على سبيل المثال، أُنشئ مجلس أعلى للماء والمناخ يضم ممثلين من الوزارات المعنية، تحت إشراف رئاسة الحكومة، لتنسيق السياسات المرتبطة بالموارد المشتركة وصياغة توجهات وطنية منسجمة لا تتعارض من حيث الأثر أو التخصيص. هذا النموذج يؤكد أن الحوكمة الفعالة تبدأ من التشارك لا من الفصل الوظيفي.
التكنولوجيا والرقمنة وُضعت في الاستراتيجية ضمن أهداف التطوير، بما يشمل العدادات الذكية، ونظم التحكم في التسرب، وتطوير البنية الرقمية. غير أن غياب خارطة طريق تنفيذية وميزانية مخصصة يجعل من هذه الأهداف عرضة للتأجيل أو التجزئة. وبالرغم من توافر التمويل الدولي في بعض الحالات، إلا أن بناء قاعدة بيانات رقمية وطنية موحدة لمصادر المياه، وحجم الفاقد، وأداء الشبكات، وتوزيع الأحمال بين القطاعات، ما يزال هدفًا مؤجلًا رغم كونه ضرورة أمنية واستراتيجية.
أما قطاع الزراعة، الذي يستحوذ على قرابة نصف استهلاك المياه في المملكة، فقد تناولته الاستراتيجية ضمن محور الاستخدام المتكامل، وأوصت برفع كفاءة الري والتوسع في استخدام المياه غير التقليدية، إضافة إلى إعادة توجيه الدعم نحو الزراعة منخفضة الاستهلاك وعالية القيمة. ومع ذلك، لم توضح الوثيقة آليات تسعير المياه الزراعية بناءً على الإنتاجية، كما هو معمول به في تجارب عالمية مشابهة، ولم تربط بوضوح بين نوع المحاصيل المدعومة ومستوى استنزافها للموارد المائية. تفعيل هذه السياسات يحتاج إلى أدوات تقييم وربط مباشر بين الدعم وكفاءة استخدام المياه.
لا يمكن إنكار أن الاستراتيجية قد اشتملت على كثير من العناصر الإيجابية، وخصوصًا في محاور الحوكمة والابتكار والترابط القطاعي، لكنها لم تُقدّم حتى الآن الأجوبة اللازمة عن كيفية تحويل تلك العناصر إلى أدوات تنفيذ ملموسة. التحدي لا يكمن فقط في وضع الأهداف، بل في بناء الجسور المؤسسية والتنظيمية والرقابية التي تضمن ترجمتها على أرض الواقع. وإن كانت التجربة الأردنية في مكافحة كورونا قد أثبتت قدرة الدولة على الحشد والانضباط والتنسيق عند إدراك الخطر، فإن أزمة المياه تتطلب استجابة لا تقل حساسية ولا سرعة. إنه اختبار حقيقي للدولة، لا في مواجهة الجفاف فحسب، بل في قدرتها على حماية وجودها واستدامتها، وتحويل التحدي إلى فرصة لإعادة هندسة علاقتها مع مواردها وشعبها.
المصدر: صراحة نيوز
كلمات دلالية: اخبار الاردن عرض المزيد الوفيات عرض المزيد أقلام عرض المزيد مال وأعمال عرض المزيد عربي ودولي عرض المزيد منوعات عرض المزيد الشباب والرياضة عرض المزيد تعليم و جامعات في الصميم ثقافة وفنون علوم و تكنولوجيا اخبار الاردن الوفيات أقلام مال وأعمال عربي ودولي تعليم و جامعات منوعات الشباب والرياضة ثقافة وفنون علوم و تكنولوجيا زين الأردن أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام المیاه الرمادیة
إقرأ أيضاً:
الدينار يصعد والتجارة تهبط.. مفارقة نقدية تُربك الأسواق وتُحجم الاستهلاك
31 يوليو، 2025
بغداد/المسلة: وسط أجواء من القلق الحذر، تسود الأسواق العراقية حالة من الركود العميق الذي تتقاطع فيه المؤشرات الاقتصادية بالمتغيرات السياسية، لتتشكل بيئة تجارية متوجسة تتسم بالجمود وانخفاض التوقعات. فالتراجع الحاد في القوة الشرائية، والتقلب المزمن في سعر صرف الدينار مقابل الدولار، والانكماش الحكومي في الإنفاق، كلّها أعراض لمشكلة مركبة تتجاوز حدود السوق لتلامس بنية الاقتصاد الريعي العراقي نفسه.
وتتجلى مظاهر هذا الركود في حالة من “الانتظار السلبي” تنتشر بين أوساط المستهلكين والتجار، حيث أصبح الدولار، رغم تعافيه النسبي، عنصرًا مثيرًا للريبة لا محفزًا للنشاط. فكلما تراجع السعر، تجمدت الأسواق أكثر، وانسحب المواطنون من المشهد التجاري على أمل نزول إضافي، لتتحول عملية الشراء إلى ما يشبه الرهان المالي. وهي معادلة اختزلها أحد الاقتصاديين العراقيين قائلاً: “الطلب في العراق لم يعد يتبع الحاجة، بل المزاج النقدي”.
وتُعد تصريحات رشيد السعدي، ممثل غرفة تجارة بغداد، مؤشراً على ازدياد التشابك بين الاقتصاد والسياسة، بعدما أشار بوضوح إلى أثر قرارات البنك المركزي، وتأخر الموازنة، وتقليص الاعتماد على السوق الموازية. وهي ملاحظات تعزز القناعة بأن المسألة تتجاوز تقلبات السوق لتصل إلى تراجع فعالية أدوات السياسة المالية والنقدية، في ظل غياب دور استباقي للدولة يمكنه امتصاص الصدمات.
وتمتد التداعيات إلى مشهد أكثر قتامة حين يتحدث الخبراء عن خسائر التجار، وانكماش السوق العقارية، وتراجع الاستثمار، مع ضعف الثقة بفعالية السياسة النقدية. وهي مؤشرات تكشف عن خلل في معادلة الاقتصاد العراقي القائم على إنفاق حكومي لا يتحقق إلا بإقرار موازنة، وإيرادات نفطية تُترجم ببطء في صورة مشاريع، وبنية تشريعية تعيق مرونة الأسواق بدلاً من حمايتها.
ويظهر أن الدولة، بما تمثله من مركز ثقل اقتصادي، باتت في موقع المتفرج أو المؤجل، وهو ما جعل السوق تمضي نحو كساد يمتد أفقيًا في مختلف القطاعات، من العقارات إلى السيارات، ومن السياحة إلى التجارة، دون أن يُحدث انخفاض التضخم أي أثر انتعاشي يُذكر.
وفي مقابل هذا المشهد القاتم، تبدو بعض القطاعات مثل الزراعة والصناعة الغذائية والتجارة الإلكترونية أقل تأثرًا، ولكنها تبقى استثناءات لا تغيّر من طبيعة المأزق. فالمشكلة بنيوية، تتطلب إصلاحات نقدية وتشريعية عاجلة، تعيد ثقة المستثمرين، وتكبح تقلبات السوق، وتعيد ضبط العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، بعيدًا عن الارتجال والملاحقة بدل الشراكة.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author moh mohSee author's posts