جهنم الهلع.. قراءة قصص وقت قصير للهلع ليحيى سلام
تاريخ النشر: 25th, June 2025 GMT
هلع القراءة:
قراءة العنوان أوحت لي أن مجموعة وقت قصير للهلع هي قصص عن شخصيات مصابة بالهلع، بينما لا توجد قصة، من القصص الثلاث التي تشكل المجموعة، بالعنوان نفسه ولا حتى مفردة الهلع، بينما شعرت بعد قراءة المجموعة أن الوقت القصير للهلع قد يكون وقت القراءة نفسه، وأن الهلع هو ما يصيب القارئ، أو هذا ما انعكس من قراءتي للمجموعة، ووجدت أشباه ذلك فيما كتب من مراجعات عن المجموعة، والتي كتب عنها هدى حمد، ومنى حبراس، ومحمود الرحبي، وفوزية الفهدية، فوجدت الإشارات تتفق بشكل عام، على الخوف الذي ينبع من هذه القصص.
أثناء القراءة نفسها ظل يلح عليّ سؤال الشخصيات، ما بال شخصيات هذه المجموعة؟ أقرأ قصصها ويزداد استغرابي، هذه القصص حدثت هنا والآن، وهذه الشخصيات أعرفها، قابلت نماذج كثيرة لها، لكنها تبدو لي واقعة في مأزق عصيب، حالتها النفسية، هلعها ووساوسها، ليست إلا قمة رأس جبلي وسط البحر، وكأن النص يريدنا أن ننتبه لما تحت السطح.
متلازمة الهلع:
ظاهريًا تبدو شخصيات المجموعة القصصية للقارئ شخصيات وسواسية، قلقة ومضطربة، لكن المثير للقلق أكثر أنها تبدو كذلك مستلبة، شبه عدمية، ومع أن لديها توجسًا كبيرًا، متضخمًا، من العالم، لكنها كالمسرنمة، تمضي مستسلمة نحو هاويتها، تسير إراديًا نحو المقصلة مباشرة، قد تتمنع قليلًا بدافع هلعها وخوفها ووساوسها، لكنها ممانعة داخلية، لا مظهر حقيقيا لها عدا الكلام الداخلي مع النفس، فهي بالتالي ممانعة ضعيفة، مستكينة، مستسلمة سلفًا، مثل حلم بطل قصة الأصبع ص١٠:
«تذكر كابوسًا مؤلمًا راوده مرارًا، أفعى تطارده في نهر لونه أسود، ورغم قدرته على السباحة تعب واستسلم لأنيابها» ص١٠
إنها حالة كان نيتشه يدعوها أخلاق العبيد، لكن ما السبب لإصابة هذه الشخصيات بمتلازمة الهلع هذه، ودون أدنى نزوع للتغيير، وكأنها عديمة القدرة على تغيير المصير، الكل واقع في مصيدة مسارات محسومة سلفًا لا فكاك منها، والتغيير يحدث لحياتهم من خارجهم، كأنهم بلا أمل في أنفسهم، بينما يفترض العكس.
بدت لي شخصيات المجموعة مصابة بكساح ذهني، كأنها تعرضت لنوع من غسيل الأدمغة، في عملية طويلة من الترويض المتتابع سلبها قدرتها على التقرير والتغيير؛ لا أقول إننا ندخل إلى أجواء قصص كافكا أو صادق هدايت، لكنها أجواء قريبة، فهذه المجموعة تأخذنا لأجواء غريبة تذكرنا بهم، ولا تكمن غرابتها في مفارقتها للواقع، بل بالعكس في مطابقتها المفزعة له، فمشهد مواقف السيارات الممتلئة أمام البنايات السكنية، يتحول لمشهد مرعب:
«أوقفت سيارتي، ولاحظت ازدحامًا يثير الكآبة في النفس، وكأن الدنيا على وشك الاختفاء، أعداد غفيرة من البشر يهرولون ناحية جبال شاهقة متراصة صنعت من إسمنت وحديد، تحولت إلى كهوف غامضة، تاركين سياراتهم وراءهم. عم يبحثون؟ فقط يبحثون، لا يهم ما يبحثون عنه، المهم يبحثون عبثًا لعلهم يستطيعون إنقاذ أرواحهم من وهم اللا شيء» ص٥٨
القراءة تضعنا في موضع تأمل، الاكتشاف قد يبدو مخيفًا، لكن القراءة تسمح لنا بتأمل المخيف، وحين نتأمل المشهد مجددًا، نرى أفضل، فها هي العبارة المكتوبة في النص السابق نفسه، تحمل شكوى الروح التي اصطادها الخواء، فهل يكون هذا هو السبب لكل تلك الانعكاسات المتعددة؟ ربما لكني كقارئ لا أستطيع النفي ولا التأكيد.
علاقات هلعة:
من الوجوه المهمة التي تطرحها هذه المجموعة، والتي ركز عليها كذلك كل من هدى حمد ومحمود الرحبي، هو محاولة الاقتراب من الآخر، المقيم، الوافد، الكتلة البشرية المسحوقة، كتلة العمال البسطاء، العبودية الجديدة بتعبير اشيل مبيمبي صاحب نقد العقل الزنجي، وتمثل مشاعرها وقلقها ووساوسها وأحلامها وحياتها، وقد عودتنا قصص المنذري ذلك منذ بداياتها، لكننا هنا، في القصة الثانية تحديدًا، نجد العامل القارئ، وللمصادفة المقبولة جدًا، يكون الكتاب الذي يقرؤه العامل البنجالي هو المجموعة القصصية «بيت وحيد في الصحراء» بترجمته الانجليزية، مع كل إشارات تلك المجموعة التي كتبت عنها منى حبراس في مقالها.
هذا الكسر للنمطية، وتحطيم الأفكار المسبقة منعش، يفتح أفقًا في علاقة ظلت محكومة بالتنافر، وإذا شئنا استخدام تعابير الكتاب، فهي علاقة ظلت محكومة بالهلع والريبة المتبادلة، ولا أدل على ذلك من الرواية الشهيرة للهندي بنيامين (أيام الماعز) بكل مبالغاتها، لكن القارئ يجد أن تلك العلاقة في قصص المنذري تتحرر من عزلتها المفروضة، فالنص نفسه يصبح جسرًا بيننا وبين العمال وحياتهم، وفي هذه القصة نتابع مسرد يوميات لا يخلو من التشويق، وإن كان فقدان البطل نفسه نهاية القصة يصيبنا كما هو متوقع بالهلع، فقد اختفى البطل، القارئ البنجالي، بينما البطل الثانوي، القارئ العماني لا يجد مزاجًا ولا دافعًا للبحث عنه أكثر، إنه بطل بديل لكنه بطل مهزوم، يجد نفسه في غير منطقته الحيوية، معزولًا، ورهينة لمزاج رئيس عمال (فورمن) ماكر، يتلاعب بالشخصيات كما يتلاعب بالعمال في مواقع العمل، وهكذا بعد المحاولة الأولى للعثور على البنجالي صاحب اليوميات الذي كان يكتب يومياته على مجموعة قصصية لكاتب عماني، تنهار المحاول ونجد أنفسنا في خلاء والغبار يتطاير حولنا من سيارة مالك المنزل القادمة كما وصفها القارئ البنجالي:
«تأتي سيارته داخل غيمة تراب، تعفر المنطقة. وهذا حال العمانيين يبنون أينما يُمنحون، ولديهم قدرة خارقة على الانتظار، انتظار كل ما هو مجهول.» ص٢٨
عمانيون ينتظرون المجهول ويصيبهم الهلع منه، هل هؤلاء أبطال المجموعة القصصية أم قرّاؤها؟ لا لسنا نشاهد فيلمًا لهيتشكوك القائل مرة «الحياة لا تعتبر حياة إن لم تكن مليئة بالأخطار»، لكن فكرة التوجس من الأخطار فكرة حققها هيتشكوك بصريًا، وهذه المجموعة تحققها سرديًا، والهاجس الملح للخوف له جاذبية تجعله يصطدم بأشد ما يخافه، ولا شك أن كل تصرف تحت تأثير الهلع مرتبك، ولا يساعد على النجاة بقدر ما يهدد بالهلاك.
شخصيات الهلع شخصيات غارقة في تيار ضخم، يشعرها التيار بأنه لا حول لها ولا قوة، ولا ينجو من المصير الأسود المرسوم سلفًا من شخصيات المجموعة غير النحلة ماري، عاملة المنزل في بيت عائشة وزوجها أبي زهران، الذي لا نعرف اسمه من القصة، مع أنه السارد، تنجو ماري من مصيرها كعاملة منزل لتتحول إلى فاشنيستا، وليست مجرد نجمة موقع تواصل، بل مغنية، في مخرج فني، يخرجها بعيدًا عن مشهد (تكويم) العاملات بانتظار الطلب في مكاتب العمالة؛ هكذا أخيرًا نجد في قصة صندوق المفاجآت الملونة، وهي آخر قصص المجموعة، نوعًا من التنفيس بنجاة ماري، يخفت الهلع نوعًا ما، بنجاة صغيرة للبطلة، وكأن نجاتها صنعت ثقبًا وتنفيسًا صغيرًا وسط ضغط الهلع المرتفع.
عالم الهلع:
لا تفصح شخصيات هذه القصص عن وساوسها صراحة لمن حولها، ويزداد قلقها في بيئة غير صحية، فهو قلق مكتوم، وهي وساوس مسكوت وغير معبّر عنها، في اضطرام داخلي لا يجد مخرجًا، فكل شخصية داخل وحدة داخلية جافة كما يعبر عنها بطل قصة الأصبع: «الوحدة تحول الإنسان إلى كرة يتقاذفها جداران بينهما مسافة قصيرة، هل تعرف هذه الممرضة معني الوحدة؟ سأخبرها بأن الوحدة هي أن تكون محاطًا بالجفاف، وتسكن في شقة دون امرأة تحبك، ودون أولاد يغمرونك بالحنان وينتظرون قدومك بشوق في كل مرة تغيب عنهم» ص١٣
إن تلك الوحدة المحرومة من الحنان والمشاعر الطبيعية تقع فريسة ذاتها، فكل تماس لها مع الخارج يحكمه خطاب متربص، متصيّد للأخطاء أو يخاف الوقوع فيها، وتحمل داخلها نظرة غريبة، بفعل وضعها الغريب، تجاه العالم، وهي ليست شخصيات متصالحة مع عالمها، بل تناصبه العداء، مع أنها مضطرة للخضوع والاستسلام له، هكذا نجد تلك المشاعر المكتومة تخرج لحظة الغضب، كما في قول إحدى شخصيات قصة غليان الشاي: «داهمتني نوبة غضب على هذا العالم. عالم منفوخ بالشر لا جدوى منه. يستحق الحرق، شعرت برغبة في تكسير الكراسي والطاولات وحرق الكتب، لكنني أتراجع وأعترف بأنه نزق عابر، وتفكير عدواني.» إنه غضب مكتوم، يتم التراجع عنه، رغم أنه عنيف بالداخل، لكن يجري تبريره بسرعة بوصفه نزقًا، فهل هو نزق فعلًا؟ أم ذلك مجرد مخرج سهل لتكريس السلبية، أو الاحتماء بها، فيما يبدو أنها الحصانة الوحيدة التي تتوخاها هذه الشخصيات لإبقاء الوضع على ما هو عليه، بوصفه أقل الضررين رغم ما يتناهشها من الهلع؟
هكذا لا نستغرب أن نجد الشخصية الأولى في قصة الإصبع تتمنى الحصول على قنبلة: «تمنى لو يحصل على قنبلة ليزرعها في قلب المستشفى.» ص١٠ إن العلاقة مع العالم الذي تعيش فيه الشخصيات هي بلا شك علاقة مضطربة، ولا توجد انسيابية في علاقتها البينية بمحيطها الخاص، فهي علاقة ريبة، وتلك العلاقة المستريبة تطغى على تصرف الشخصيات، حتى في المشهد الأول من القصة الثالثة، وهو مشهد غريب على القارئ، أعني مشهد وصول العمال بالصندوق وهم ينزلونه من الشاحنة، حيث تطغى وساوس البطل وهلعه ومخاوفه على المشهد، لكن المثير للغرابة هو أن الصندوق ليس صندوقًا حقيقيًا، وهو ما يتعرف عليه القارئ حين يكتشف وجود النحلة داخله في نهاية الفصل الأول من القصة، ما يؤكد أنه صندوق رمزي، والحسم بشأن ذلك الصندوق غير واضح، وأقرب ما استطعت قوله أنه يرمز للبيت، وأن العمال الذين ينزلون الصندوق هم عمّال البناء، مع أن القرائن في النص على تأكيد ذلك باهتة وقابلة للنقض.
رغم ذلك فإن المخاوف التي تنتاب الشخصيات وإن بدت لنا أنها وساوس خيالية، أو جرى وصفها بالنزق، فإنها لا تبدو كذلك، ذلك أنها مخاوف حقيقية، فهي طريقة لرؤية العالم والشك فيه، وهي بذلك تذكرنا بشخصية الطبيب اندريه يفيميتش في عنبر رقم ٦، لتشيخوف:
«على مقربة من سور المستشفى، على بعد مائة ذراع لا أكثر قام منزل أبيض عال، محاط بجدار حجري، كان ذلك مبنى السجن. وفكر اندريه يفيميتش: «هذا هو الواقع!» وأحس بالرعب.»
تشيخوف، عنبر رقم ٦
إنها شخصيات مقاربة لتلك الأجواء، شبيهة بها، فيها شيء يذكرنا بمثيلاتها، مثل شخصية تيدي في فيلم مارتن سكورسيزي جزيرة شاتر Shutter Island، فالواقع مثير للريبة، ويقودنا إن لم يكن للجنون فإلى درجة أخف منه تدعى الارتياب، وكأن الارتياب يفضي بنا للتعامل مع ذواتنا بوصفها مجرد أشياء صماء مستلبة الإرادة، مثلما نجد ذلك في التعاطف الذي يبديه بطل قصة (غليان الشاي) مع المكيف المتهالك، فنجده يرى نفسه في المكيف، وبما أنه مهموم بالغد، ويبدو كمن ينام بانتظاره، فإنه يرى في المكيف القديم صورة الشيخوخة الصعبة المجبرة على العمل رغم قساوة الظروف وشدتها، لكن لا مفر أمام المكيف سوى العمل حتى الموت، والبطل نفسه يريد من اليوم أن يمر سريعًا ويريد أن ينام، وكل هذه مؤشرات رغبة في الموت لا مؤشرات حياة، إنها الحياة المقبورة سلفًا، وليس على من يعيش فيها غير أن يتآكله القلق والوساوس والأفكار المدمرة، والندم على كل ما فقده، وما يفقده الآن باستسلامه لوحش الخوف.
تبدو شخصيات الهلع محكومة بعالم الخوف، وهي مستسلمة وخاضعة للخوف المعشش داخلها، والذي يقتات عليها حتى يفتك بها ويجعلها تختفي فجأة، وهذا الخوف والهلع يتسلل للقارئ ويستشعره، يتحسسه داخله، ويكتشف تدريجيًا أن نفس الصوت الذي يتحدث داخل الشخصيات قريب من صوته هو، وأنه يكلمه بنفس الأفكار، ومع أن القارئ ليس شخصية من شخصيات الهلع، لكنه يجد نفسه في عالمها، وما الذي يدريه أن لم يكن هو الآخر واقعًا تحت قبضة ثقافة الخوف، وهي مغروسة داخله منذ نعومة أظافره؟
كل هذا الهلع المحيط والخوف بدرجاته المختلفة يصبح مثل جهنم مضطرمة تحترق فيها حياة الإنسان المعاصر، في عصره «العلمي» المحكوم ليعيش بذلة أمام مخاوفه، تلك الذلة التي كان عنترة يصفها في معلقته «الجاهلية» مرة معلنًا رفضه لماء الحياة ما دام مشوبًا بذلة، ويردف:
ماء الحياة بذلةٍ كجهنمٍ وجهنمٌ بالعزّ أطيب منزل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه المجموعة ا تبدو
إقرأ أيضاً:
خطاب المفتتح والخاتمة قراءة في رواية «الروع»
«إن الافتتاح منطقة خطرة في الخطاب: ابتداء الخطاب فعل عسير؛ إنه الخروج من الصمت»
رولان بارت، التحليل النصي
ما أقدمه هنا ليس قراءة شاملة لرواية الروع للكاتب العماني زهران القاسمي، الصادرة عن دار منشورات ميسكلياني 2025. لست بصدد تتبّع النص من ألفه إلى يائه، ولا أزعم أني أُحيط بجسده كله. بل هي قراءة جزئية، انتقائية، تنطلق من قناعةٍ نقدية أن للمفتتح والنهاية سلطة مزدوجة في الفعل الروائي: سلطة التأسيس وسلطة الإقفال.
لذلك، سأقف عند المفتتح، تلك العتبة التي تُشبه الباب الموارب، وحيث تهمس الرواية بأول أسرارها، وعند الفصل الأخير 22)، التي تشبه ارتداد الضوء الأخير في مشهد الغروب، حيث تكتمل الدائرة، أو تنكسر، لا فرق، فكل نهاية هي ضرب من الانفجار أو الانطفاء.
لقد بدا لي بناءً على تفكيكي للنص، أن هاتين المنطقتين – البدء والانتهاء – هما بيت الحيل السردية، والموضعان اللذان تُخزّن فيهما الرواية مجمل مكرها الأدبي، ومفاتيحها الكلية لفهم بنيتها العميقة.
ولعل هذا التأسيس النقدي يتقاطع مع ما قاله رولان بارت في معرض حديثه عن أهمية الافتتاح، إذ يرى أن «قضية افتتاح الخطاب قضية هامة كشفت عنها البلاغة القديمة والكلاسيكية، فقدمت قواعد غاية في الدقة لابتداء الخطاب، وهي، في رأيي، مرتبطة بالإحساس بوجود حبسة متأصلة في الإنسان، وأن الكلام صعب، وربما ليس هناك ما يُقال: إن الافتتاح منطقة خطرة في الخطاب؛ إنه الخروج من الصمت. والحقيقة أنه لا يوجد سبب للابتداء من هنا لا من هناك، لأن القول ببنية لانهائية. فدراسة مفتتحات السرد إذن هامة جداً» رولان بارت، التحليل النصي، ص 36-37
بهذا المعنى، يصبح مفتتح رواية الروع ليس مجرد مدخل تمهيدي، بل لحظة كاشفة عن وعي النص باعتباطية «البدء»، كما يسميه بارت، وقلقه البنيوي من الفراغ الذي يسبق القول.
تُعتبر روايات الكاتب العُماني زهران القاسمي مثل القنّاص، تغريبة القافر، وجوع العسل، والروع، محطات سردية تتقاطع فيها العديد من الثيمات والأسئلة المرتبطة بالهوية، والمكان، والزمان، والصراع الوجودي. يتقاسم البطل في هذه الروايات مجموعة من السمات المتكررة: شخصية أحادية تُساق إلى مواجهة وجودية مع الذات، والتاريخ، والمحيط، ضمن عالم يفتقر إلى البدائل.
تتشابك هذه الأعمال ضمن سرديات تحتفي بالشخصيات القروية المهمّشة، التي تتحرك في فضاءات زمانية ومكانية مشتركة، ما يجعل كل رواية إعادة صياغة لذات الوجود، ضمن تمثيلات سردية متباينة.
وإذا كان نجيب محفوظ قد حوّل الحارة إلى كيان سردي مكتمل، لا بوصفها فضاءً مكانيًا فقط، بل كبنية دلالية قائمة بذاتها، تضج بالحياة، وتحتضن عالمًا إنسانيًا شديد الكثافة والتعقيد، فإن الروع، على نحو موازٍ، تُشيّد القرية لا كخلفية للحدث، بل ككائن حيّ ينبض بالسرد، ويتكلم بلسان الجماعة، ويعكس هشاشة الكائن في مواجهة تحولات الزمن.
القرية في رواية «الروع» ليست «مكانًا» فحسب، بل مجاز سردي، تتلاقى فيه الشظايا الفردية بالتاريخ الجمعي، وينتظم فيه التبئير السردي كمنظورٍ حميميّ، يُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والأرض، ويُبرز أثر العنف، لا على الفرد فقط، بل على الجماعة كلها.
الروع تأتي امتدادًا لهذا السياق، حيث يواصل الخطاب الروائي تركيزه على صورة البطل الأحادي في مواجهة وجودية ذات طابع كوني، محكومة بإكراهات المكان والزمن، تكرار لا يُفضي إلى رتابة، بل إلى تعميق المستويات الاجتماعية والنفسية للشخصية.
في رواية الروع، يُقدِّم الخطاب الروائي نصًّا يأتي مفتتحه بلغةٍ صادمة، مشبعة بعنف بصري ومجازي، تستفزّ الإدراك الحسيّ والذهنيّ للقارئ، ثم يختتمها بفصول تفتح أفقًا للتأويل المأساوي المفتوح، مستندًا إلى تشكيل معقّد تتداخل فيه السيميائيات (العلامات البصرية واللغوية)، والبعد النفسي، والأسلوبي، في سياق سردي متوتر وعنيف، تتخلله ظلال من الجنون والأسطورة.
في المشهد الافتتاحي، يُشكّل الخطاب الروائي صورة لجسد مصلوب، ممزق ومبتور، على «روع» الحقل، وهو مشهد ينهض على بنية صُوَرية ذات دلالات توراتية وإسلامية، تعيد تشكيل جسد الضحية في خطاب الشهادة والتضحية واللعنة معًا. الجسد هنا ليس كيانًا فرديًا، بل علامة سردية كبرى تحيل إلى انهيار النظام للعالم. نقرأ: «جثة بلا رأس، بلا كفين أو قدمين، تمثل مصلوبة على روع الحقل».
هذه الجملة الأولى تنهض كبنية افتتاحية مكثفة، يمكن أن نحللها على ضوء ما يسميه رولان بارت بـ«اللحظة الدالة»، حيث يخترق المشهدُ القارئَ باختلاله البنيوي. المفردة الأولى «جثة»، ذات الحمولة الجنائية/ الإجرامية والإيحائية بالنعيم والخلاص، تقابلها البنية البصرية العنيفة للجسد المبتور والمصلوب، وهو ما يخلق مفارقة دلالية تعمل كسيمياء سلبية للجثة، أي جثة الموت واللعنة، لا النعيم. الجثة إذًا جسدٌ يُستخدم بوصفه علامة للخراب، لا النجاة.
ينتقل الراوي بعد ذلك إلى وصف رد الفعل الجسدي والنفسي للبطل محجان، مستخدمًا استراتيجية أسلوبية تعتمد على التهويم النفسي، وتداخل التخييل مع الواقع، مما يجعل البنية الزمنية متصدعة وغير خطية. تتجسد هذه التقنية في جملة مثل: «اسودت الدنيا في عينيه، وكأن جاثوما يضغط عليه ويُكبّل حركته».
هنا تظهر تقنية التناص النفسي مع أدبيات الكوابيس والتراث الشعبي عن الجاثوم، ويغدو الحدث جزءًا من كابوس غير قابل للتصديق أو الإدراك الحسي الواضح، وهي آلية بنيوية تفكك الحكاية المركزية وتعيد تشكيلها ككابوس سردي دائم.
تُقدَّم شخصية محجان لا بوصفها شاهدة على العنف فحسب، بل باعتبارها متورطة في بنية السرد كمفعول به مستلب. يبدأ بمحاولة تفسير المشهد بوصفه «كذبة»، وهو ما يحيل إلى تفكيك مفهوم «الواقعي المتخيل»، حيث ينهار الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم: «هذا حلم». «سيقوم من مكانه. ثم أغمض عينيه، وحين فتحهما لم يحدث شيء».
هذه اللعبة السردية بين الواقع والهلوسة تشكّل تيمة متكررة في الرواية، كما أنها تقود البنية السردية إلى نوع من اللايقين، الذي يعمّق تأويل الجريمة كفعل غامض، غير متحدد الهوية أو المصدر، مما يضاعف أثره السيميائي.
في الفصول الأخيرة، نلاحظ انتقالًا من الكثافة والانفعالية إلى الحط من شأن الحدث نفسه بطريقة مأساوية ساخرة. نقرأ «حسيت كأني أنا المصلوب».
بهذه الجملة، ينهي السارد، أو محجان نفسه، كل مسافة بين الجسد المصلوب وجسده، ويقع التماهي التام، وهو ما يعكس التقاطع الزمني بين زمن القصة وزمن الحكاية. الجملة تكرّر على لسان الشخصية في حكاياتها المتكررة، لتصبح لازمة سردية، وكأنها استعاضة عن فعل الفهم أو التفسير. التكرار هنا يحمل وظيفة ميتاسردية، حيث تصبح الحكاية تبريرًا للحكاية، وتتحول إلى نمط ثابت في محاولة عقلنة الكابوس.
لكن هذه المحاولة تنقض نفسها عند الختام، حين يتأكد الخراب في الحقول، و«رتعت فيها الحمير»، ويختلط المشهد الكابوسي بالواقع اليومي للحياة القروية. وتتحول الأرض من حضن للخصب إلى حضن للفوضى «لقد رتعت فيها الحمير وجاست خرابًا ودمارًا في حقول القمح والقت والذرة، وحطمت كروم العنب، وداست أقدامها اليابسة المجففة كل زهرٍ يانع، وكسرت كل غصن طري»
هنا، نصل إلى المفارقة الصادمة، إذ تقابل صورة المصلوب العالي، المهيب، بالحمير العابثة، في مشهد يبدو عبثيًا، لكنه ينطوي على عمق نقدي للبنية المجتمعية وقيمها. يظهر ذلك في تداخل علامات الحياة (القمح، الذرة، العنب) مع فعل التخريب، وتكثيف مفارقة الحياة/الموت.
تتجلى الخاتمة في رواية الروع بوصفها بلوغًا أيقونيا لذروة التوتر الدرامي والتحول النهائي في الشخصية المركزية، محجان، الذي تتصاعد هواجسه ليبلغ لحظة الاندماج الكلي مع الروع، في طقس شعائري يمزج بين الصوفية، والوجودية. هذا التلاحم بين الجسد والتمثال لا يُقرأ إلا بوصفه إعلانًا صريحًا عن فناء الفرد في الكائن الأسطوري الذي صنعه، ودخولًا في طور من التقديس والتطهّر عبر النفي والاحتراق والاختفاء.
يفتتح هذا الفصل بلحظة نصر زائف، إذ يشعر محجان بـ»نشوة عظيمة»، وتبدو هذه النشوة تعبيرًا عن اكتفائه الذاتي بعد القضاء على الأرواع المنافسة. يقول السارد:
«البلاد التي تكثر فيها الأرواع ستتحول إلى مجرد هياكل منصوبة لا روح فيها ولا تخيف أحدًا أبدًا».
يتضح أن محجان يخشى الفراغ الرمزي، لا تعدد الرموز، فيقرر ترسيخ رمز واحد: روعه التي يعتبرها الحقيقية الوحيدة. هذه الفكرة تستبطن نقدًا مبطّنًا لهيمنة الفردانية وسطوة التمركز حول الذات.
يختار محجان أن ينسحب من مجتمع القرية ويغتسل، في مشهد طقوسي مهيب. ينزل إلى الحوض ويطفو على الماء، وكأننا أمام طقس عماد مقلوب، لا لتطهير الخطيئة بل لتأكيدها. يقول السرد:
«استلقى على صفحة الماء مسترخيا، مد يديه مثل طائر حر يحلق في الأعالي، وغرق في تأمل انتصاراته التي أحرزها».
هنا تتقاطع عناصر رمزية متشابكة: الماء، التحليق، الصمت، التأمل، وكلها تنتمي إلى سياقات التطهير، لكنها تقود إلى لحظة تشييد «الذات الجديدة» التي لا تجد تمام تحققها إلا بالذوبان في الجسد الآخر، جسد الروع.
الاندماج الجسدي مع الروع يتخذ صورة صوفية بامتياز، لكنه لا يُقرأ في سياق عشق إلهي، بل كتحقق لكائن ظلّ يتشكل طوال الرواية. فعل «الصَلب» على جسد الروع يخلط بين الأيقونية الدينية (الصلب المسيحي) وبين الطقس الصوفي الحلاجي، لكنه هنا يقلب دلالاته المعتادة. يصف النص:
«التحم بها، ووضع ساعديه على ساعديها، وصالبا نفسه على جسدها».
بهذا الفعل تتحول الروع من مجرد تمثال رمزي إلى كائن حي، حارس للجثة التي نحتها محجان بنفسه.
القرية، وهي الكيان الجمعي الذي طالما ناصبه محجان العداء الرمزي، تُترك في حالة من الهلع والضياع السردي.
«فرّوا هاربين وأطلقوا أرواحهم تسابقهم من شدة الخوف».
لتتشظى الحقيقة وتصبح الحكاية شلالًا من التأويلات:
«انهمر مطر الحكايات حتى أصبح جداول وشلالات بلا عدد».
وهنا تبرز استراتيجية روائية بارعة تعيدنا إلى بنية «المغايبة» في الحكاية الشعبية العمانية: البطل الغامض، الاختفاء، تعدد الروايات، وشيوع الخوف في الغياب، لا في الحضور.
يكتمل الانسحاب الاجتماعي برحيل الزوجة إلى الجبل، في لحظة شعورية مضطربة، لكنها حاسمة؛ «خرجت في الظلمة القائمة متسللة من القرية نحو الجبال واختفت».
هذا الاختفاء الأنثوي الموازي لاختفاء محجان يعيد تأكيد القطيعة النهائية مع المجتمع القروي الذي فشل في فهم أبطاله، أو في احتوائهم.
التحول الأخير لمحجان إلى تمثال حيّ، إلى «روع» قائمة وسط الحقول، يمنح الرواية نهايتها المفتوحة: اختفاء البطل، ذوبانه في كيان رمزي، تحوله إلى حكاية شعبية، كل ذلك يجعل من الخاتمة إعادة إنتاج لبنية الرواية كلها، إذ يتمدد الخيال الشعبي ويصير واقعة، وتتقاطع الأصوات لتؤسس أسطورة تتردد في فضاء ملبد بالدخان والحيرة، حيث لا حقيقة واحدة بل تأويلات مفتوحة.
ختام الرواية لا يُغلق القوس السردي، بل يفتحه على مصراعيه، ويعيد تشكيل العالم وفق منطق الأسطورة لا العقل، وفق الخوف لا الفهم. في هذا الانفتاح على الغرائبي والمجهول، تحتفل الرواية بالروحي الشعبي كمنقذ من سطوة الواقعي، وكمأوى للهاربين من اليقين.
تتجلى تمظهرات البنية الشفوية في الخطاب الروائي لدى زهران القاسمي في نصه (الروع)، من خلال توظيفه لقوانين الحكاية الشعبية كما صاغها العالم الدنماركي (أكسل أولريك، الحكاية الخرافية، ص 149-168)، ويتضح ذلك عبر تتبع البنية السردية للنص/ الرواية، وبرغم انتمائها إلى السرد الواقعي النفسي، تتكئ على بنى تقليدية مستمدة من الحكاية الشفوية، مما يعكس وعيًا عميقًا بالتراث السردي الشعبي. يقدم النص قراءة تفصيلية لعناصر الرواية في ضوء القوانين الثمانية التي وضعها أولريك، من أجل إبراز التلاقح بين السرد الحداثي والإرث الحكائي التقليدي.
تتمركز الرواية حول شخصية «محجان»، وهو رجل هامشي في مجتمعه القروي، يعاني من العزلة والخوف ويجسد نموذج البطل المقهور والمهمّش. هذا التمركز الكامل حول شخصية واحدة يُطابق ما أشار إليه أولريك في قانون «البطل الواحد»، حيث تنبني الحكاية على شخصية محورية تُشكّل عمودها الفقري. تبدأ الرواية بمشهد غريب ومفاجئ: صراخ محجان صباحًا، مما يُهيئ القارئ للدخول في عالم غرائبي ومضطرب، وتنتهي بفعل درامي حاسم يتمثل في إحراق الحقول. هاتان النقطتان تشكّلان بداية ونهاية مغلقتين، وفق ما يسميه أولريك «الإطار الثابت»، وهو ما يمنح النص قوة سردية تشبه الطقوس الحكائية التي تُروى شفويًا.
التكرار يظهر بصورة لافتة في الرواية، سواء على مستوى المضمون أو اللغة، إذ تتكرر مظاهر التهميش والسخرية التي يتلقاها محجان من أهل قريته، كما تتكرر مشاهد خوفه وصراخه وانكفائه على ذاته. هذا التكرار لا يخدم فقط الجانب التقريري، بل يعمّق الإيقاع ويُشيد نسقًا دائريًا يجعل المتلقي يُشارك في خلق الإيقاع. من جهة أخرى، فإن البنية الصراعية في الرواية تقوم على مبدأ التضاد؛ إذ يتقابل محجان مع الجماعة، الصمت مع الضجيج، الهامش مع المركز، والعجز مع الانفجار. هذا التضاد هو أحد القوانين البنيوية التي لاحظها أولريك في السرد الشعبي، حيث يُبنى التوتر الدرامي عبر الثنائيات المتقابلة.
السرد في الروع يتسم بالبساطة والوضوح، فلا نجد تعقيدًا في بنية الزمن، ولا تنقّلًا بين وجهات نظر متعددة، بل يمتدّ السرد في خط واحد واضح، مع التركيز على فعل مركزي تتكثف حوله الأحداث، ما يُقارب الحكاية الشفوية في بنيتها السردية. هذه الخطية لا تعني الفقر الدرامي، بل تُعزز من قدرة السرد على ترسيخ الفعل المأساوي في وعي القارئ. من أبرز ما يميز الرواية أيضًا نهايتها الحاسمة، إذ يتحول محجان من شخصية مسالمة ومنكفئة إلى فاعل مدمر، حيث يقوم بإحراق الحقول، في فعل يبدو انتقاميًا ولكنه يعكس تراكمًا داخليًا طويلًا من القهر والخوف. هذه النهاية تمثّل ما يُسميه أولريك «التحول الحاسم»، حيث يُغلق النص بفعل يحرّر التوتر المتراكم.
رغم أن الفعل الأخير (الحرق) قد يبدو غير عقلاني ظاهريًا، فإن تطور الحبكة، والبناء النفسي للشخصية، يبرران هذا التحول ضمن منطق داخلي متماسك، وهو ما يُشير إليه أولريك في «قانون المنطق الداخلي»، حيث لا يُحاكم الفعل بمعايير عقلانية خارجية، بل وفق نسق نفسي وسردي داخلي يخلق منطقه الخاص. كذلك، يُلاحظ نوع من التوأمة الرمزية في شخصية محجان، فهو يبدو في ظاهره رجلاً وديعًا، خائفًا، ضعيف الحيلة، لكنه في باطنه يحمل كائنًا ناقمًا وغاضبًا ومشحونًا بطاقة مدمرة. هذه الثنائية تُعيدنا إلى ما يسميه أولريك «قانون التوأمة»، حيث يظهر البطل في صورتين متقابلتين، يختبئ أحدهما خلف الآخر إلى أن يقع التحول السردي.
إن رواية الروع، رغم حداثة شكلها، تظل على صلة عميقة بالبنية الشفوية التي تُشكّل أساس السرد الشعبي العربي، بل والعالمي، كما درسها أولريك. وهذا التواشج بين الحداثي والشعبي لا يأتي في الرواية عرضًا أو تزيينًا، بل هو جوهرها البنيوي والدرامي. ومن خلال هذا المنظور، يتضح أن زهران القاسمي يُعيد، بشكل غير مباشر، إنتاج الذاكرة الجماعية في بنية حكائية حديثة، ما يجعل روايته نصًا مفتوحًا على التحليل من داخل علم الفولكلور. فـ الروع ليست فقط قصة رجل هامشي انفجر في وجه مجتمعه، بل هي إعادة سرد لقصة الإنسان حين يصبح ضحيةً للخوف المتراكم. وبذلك، تُقدّم الرواية مثالًا حيًا على إمكانية تلاقح الرواية الحديثة مع الإرث الشفوي التقليدي، مما يمنح السرد العربي المعاصر بُعدًا هوياتيًا مزدوجًا: ينتمي للماضي ويتكئ على الحاضر، ويتجاوز الثنائية المعتادة بين الحداثة والتراث.
‐-----------------------------------------------
المراجع:
- رواية الروع، زهران القاسمي، دار ميسكلياني، تونس، 2025
- نظريات السرد الشعبي، عبد الحميد أحمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004
- الحكاية الخرافية، فردريش فون، ديرلاين، ترجمة د. نبيلة إبراهيم، دار رؤية للنشر والتوزيع، 2016
- التحليل النصي، رولان بارت، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، منشورات الزمن، 2000