أقاصيص طارق إمام: العالم بالمقلوب!
تاريخ النشر: 12th, July 2025 GMT
في يناير من عام 2022 نشرت وكالة رويترز تقريرا عن بيت عجيب صمّمه المهندس المعماري النمساوي فريتز شال. يبدو هذا البيت للناظرين مقلوبًا بالكامل: السقف في الأسفل، والأرضية في الأعلى، والأثاث يتدلّى من فوق رؤوس الزوار. وهو مائل بزاويتين خفيفتين قدرهما خمس درجات إلى اليسار والخلف، ما يولّد لدى زائره شعورًا غريبًا بالدُوار وعدم التوازن.
تذكرت هذا البيت وأنا أقرأ قصة "عندما انقلب العالم" للقاص والروائي المصري طارق إمام. يقدم هذا النص القصير المتضمن في كتابه "أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها" (دار الشروق المصرية، 2024) نفسه هكذا: "انقلب العالمُ رأسًا على عقب. كان ذلك يعني أن نمشي على السماء، متطلعين للشوارع في الأعلى. خُضنا في وحلِ سحابات، ركلنا في الغضب حجرًا هائلًا يسمونه القمر، وفي طوابير الانتظار أذابت أرجلَ أغلبِنا نارٌ اسمها الشمس. ظللنا نرفع رؤوسنا، نبتهل للأسفلت، ندعو لموتانا الذين صعدوا إلى باطن الأرض، نتضرع إلى الله في اليابسة السابعة، وكلما تساقط القار، صفَّقنا للمطر".
يُمكن عَدُّ هذا النص المعادلَ الإبداعيَّ الكتابي لبيت "شال" المقلوب في الواقع، والفرق هنا أن العالم كله صار لدى طارق إمام مقلوبا، لا البيت فقط. وهو نصٌّ يصلح لأن يكون مفتاحًا لقراءة المجموعة كلها؛ فالتأمل الساخر لسيرورة الحياة وصيرورتها، ومصائر الناس وقد تشقلبت وتحركت في عكس الاتجاه المألوف، يكاد يهيمن على معظم نصوص الكتاب القصيرة التي تحاول إقامة العالم على رجليه من جديد، لكن بطريقتها الخاصة.
قصة "كلانا ضيف الآخر" مثال آخر على عيش الحياة بالمقلوب. فإذا كان المعتاد أن يطرق الزائر باب البيت من الخارج ليفتح له صاحبه من الداخل، فإن عكس هذا ما يحدث في هذه القصة؛ يجرب السارد طرق باب شقته من الداخل، فيفتح له فجأة رجل من الخارج ليسأله عمن يريد. يكتشف السارد -الذي هو داخل الشقة- من خلف كتف الرجل الذي فتح له الباب شقةً أخرى كاملة تعجّ بالحياة: امرأة مرتبكة تركض باتجاه الغرف، ورضيعًا يبكي، وعجوزًا يضع رجلا على رجل، ومراهِقةً تلم كراساتها من فوق طاولة الأكل. وفي نهاية القصة يتعمد السارد الإفساح للمشهد من خلفه؛ لينظر الرجل الآخر إلى شقته وما تتضمنه من بشر وأثاث، ليصبح كل منهما ضيف الآخر، في تبادل غامض بين الداخل والخارج. وهو التبادل نفسه الذي نشهده في قصة "شارع لم يوجد" التي تجسد التوهان والاغتراب في مدينة كبيرة، إذْ يرى السارد نفسه في كل تائه يصادفه. يسأله غريب عن شارع لا يعرفه، فيرشده إلى شارع في مدينته، وحين يصل الغريب إلى ذلك الشارع في مدينة السارد، يصل هذا بدوره إلى الشارع الذي يبحث عنه الغريب، في دورة عبثية تعكس التشظي بين المكان الحقيقي والمكان المتخيَّل أو المستعاد من الذاكرة.
لكن لماذا يرى المرء العالم بالمقلوب؟ هل لأن العالم هو هكذا؟ أم لأن العيب في العين التي تراه؟ بطلة نص "عندما انقلب الناس" تطرح هذا السؤال على نفسها: "لماذا وُلِدَتْ وهي ترى الناس مقلوبين؟"، ويتدخل السارد ليخبرنا أنها مصابة بمرض نادر، في إشارة ضمنية إلى أن هذا وضع غير طبيعي. كانت هذه الفتاة ترى البشر واقفين على رؤوسهم، فتتحدث إلى أقدامهم، بينما أفواههم تحتها، فتضطر إلى محاولة التأقلم مع ذلك العالم المقلوب بالوقوف على رأسها لترى الناس بشكل طبيعي، وما إن تفرح باستقامة العالم حتى تصطدم بتدفق الدم من رجليها إلى رأسها إلى درجة فقدان المقاومة، وكأن "النهر الذي لاذت بمنبعه، انحدرَ من المصبّ" فأغرقها.
وتستمر النصوص على هذا المنوال، احتفاء بفردانية الإنسان وتميزه وعيشه خارج الأطر التقليدية، وهجاء لاذع لذوبانه في القطيع وتحوله لمجرد ترس في آلة، أو تحول أصابعه المفرودة قبضةً لغيره، وفي مسعاها لذلك تعيد هذه النصوص تعريف المسمّيات القارّة بمسميات جديدة، فليس الموت هو المخيف بل الولادة، (قصة "حصة التشريح")، وليس الأب وحده من ينجب ابنه، إذ يصير أيضا أن ينجب الابن أباه (قصة "موت الأب")، وليست اليوميات توثيقًا لما حدث لنا في يومنا، بل لما سيحدث في الأيام القادمة (قصة "موتي")، وليس الضرير هو الذي لا يرى بعينيه، وإنما هو "شخصٌ كفَّت عينا العالم عن رؤيته". في هذا النص الأخير تنقلب الآية؛ فإذا كان الناس يولدون في العادة مبصرين ويقضون حياتهم خائفين من فقدان نعمة البصر، فالعكس هنا هو الصحيح، يُولد البطل ضريرًا، ويكون الرعب الذي يعيشه طوال حياته أن يصحو ذات يوم بعينين مبصرتين! وما إن تبدأ الظلمة تنسحب من عينيه كلما كبر وزحف إليهما النور حتى يبذل كل ما في وسعه لمنع تحقق هذا الأمر، فيذهب إلى الأطباء ويجرب الوصفات ويستعين بدعاء الأم، لكن هذه المحاولات جميعها لا تمنع تحقق "الكارثة" في نهاية القصة: فقدان العمى!
ولأن الأسد بضعة خراف مهضومة كما يقول المثل الفرنسي، فمن الطبيعي أن تتصادى بعض قصص المجموعة مع نصوص عالمية، كما هي حال نصّ "رجل يمشي بظهره" الذي يذكرنا بقصة "الحالة الغريبة لبنيامين بُتُن" للأديب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد، التي تحولت إلى فيلم سينمائي شهير. في قصة فيتزجيرالد نرى رجلًا يُولَد بهيئة شيخ مسنّ، ثم يصغر في العمر كلما مرّ به الزمن. بالطبع يواجه هذا الرجل رفضًا وغرابة من المجتمع وعائلته، لكنه مع الوقت يتكيف مع حالته ويتزوج وتصبح لديه عائلة، غير أن رجوع الزمن القهقرى يحوّله إلى شابّ بينما زوجته تشيخ، إلى أن يصبح طفلًا رضيعًا ويفقد وعيه بالعالم تدريجيًا. نشاهد هذا المصير نفسه لبطل "رجل يمشي بظهره" الذي اعتاد المشي إلى الخلف كلما أراد أن يتذكر ماضيه: "ظلَّت حياتُه طريقَ عودة، يفقدُ شيئًا من حاضره كلما قطعه، تختفي التجاعيد، ينبتُ الشَّعرُ تدريجيًّا في الرأس الأصلع، والقامةُ المتقلِّصةُ بقوة العجز تتقلَّص بقوة الطفولة. لم يحمل أحدٌ جثمانه حين ذهب إلى المقبرة. الجميعُ حملوه بعد ذلك عندما صرخ في المهد".
سَرَدَ فريتز شال لرويترز كيف تلقى المحيطون به فكرتَه حين باح بها قبل أن يشرع في تنفيذها: "نظر إليّ الجميع وكأنني مجنون. قلتُ: سأبني بيتًا مقلوبًا، فقالوا لي: حسنًا يا سيدي بالتوفيق"، لكنهم حين رأوا البيت المقلوب بالفعل رفعوا له القبّعة وأمطروه بعبارات الثناء والإعجاب، وهذا أيضًا ما يستحقه طارق إمام الذي شاد هو الآخر في أقاصيصه الأقصر من أعمار أبطالها عالما مقلوبًا مثيرًا للدهشة.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: طارق إمام
إقرأ أيضاً:
سوبرمان بوجه ترمب.. البيت الأبيض ينشر صورة مثيرة على “إكس”
صراحة نيوز- نشر البيت الأبيض، الجمعة، عبر حسابه الرسمي على منصة “إكس”، صورة للرئيس الأميركي دونالد ترمب مجسّدًا في هيئة البطل الخارق “سوبرمان”، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وأرفقت الصورة بعبارات تمجّد رئاسة ترمب، ووصفتها بأنها: “رمز الأمل، الحقيقة، العدالة… على الطريقة الأميركية – سوبرمان ترمب”، إلى جانب صورة للعلم الأميركي.
وقد حققت الصورة تفاعلًا واسعًا، إذ حصدت مئات الآلاف من المشاهدات وآلاف التعليقات خلال وقت قصير من نشرها.