جريدة الرؤية العمانية:
2025-08-01@14:27:03 GMT

شكرًا جدًّا جزيلًا.. زياد الرّحباني

تاريخ النشر: 28th, July 2025 GMT

شكرًا جدًّا جزيلًا.. زياد الرّحباني

 

ريتّا دار

[email protected]

قرأتُ مرة تعليقًا عابرًا: "أصوات الرّحابنة لا تغنّي فقط، بل تبني لك وطنًا صغيرًا بداخلك لتسكنه حين يتعبك العالم".

ابتسمت. لأنّ الجملة، رغم بساطتها، تقول كلّ شيء.

لكن ماذا عن زياد؟ ماذا عن الذي لم يكتفِ ببناء الوطن، بل مزّقه قطعة قطعة على المسرح، وأعاده إلينا محشوًّا بالأسئلة؟

 

زياد لم يكن مطربًا ولا شاعرًا ولا سياسيًّا، بل كلّ هؤلاء دفعة واحدة.

هو الرّجل الّذي رفض الاصطفاف، وأحبّ البلاد دون أن يجامِلها، وكره الحرب دون أن يُجمّل السّلام.

الرّجل الّذي دخل الحياة من نافذة مختلفة، وظلّ واقفًا على حافّة القصيدة، يسخر من اليقين، ويخربش على جدراننا شعارات لا نملك إلّا أن نؤمن بها، ولو ليوم واحد.

حين كان النّاس يغنّون للحبّ، كان زياد يكتب عن الخيبة.

وحين كانت الأغاني ترشّ المهدّئات على الجراح، كان هو يفتحها بأصابعه ليُريك الصّديد والملح.

لم يكتب لنا لنفرح فقط، بل لنفكّر.

لم يؤلّف موسيقاه لنرقص، بل لنتعثّر وننهض وننظر خلفنا، ونسأل: لماذا صارت الحياة بهذا الشّكل؟

في أغانيه، تسمع الطّفل الذي لم يكبر لأنّ الحرب دمّرت مدرسته.

والأب الذي يعمل في ثلاث وظائف ولا يملك ثمن دواء زوجته.

والعاشقة التي تنتظر حبيبًا لا يأتي لأنّ "الفيزا مرفوضة".

 

زياد لا يُشبه أحدًا.

حتى والدته، السيّدة فيروز، لا يمكن مقارنته بها.

هي من عالم آخر، من طُهر الغيم وحنان الصباح.

أما هو، فمن طين المدينة، من وجع الطابور، من همس المقاهي، من سعال الحواري الضيّقة.

هناك شيء حقيقيّ جدًّا في موسيقاه. شيء يجعلك تقول: "هذا يشبهني".

في مسرحيّاته، حين يصرخ البطل في وجه النّظام، أو يشتم الحياة، أو يسكر من فرط الوجع، تشعر أنّك هناك.

لست متفرّجًا، بل شريكًا في الانهيار، شاهدًا على هشاشتنا الجماعيّة.

كان يمكن لزياد أن يكون مطربًا عاديًّا، أو مؤلّفًا موسيقيًّا كلاسيكيًّا، أو حتّى كاتبًا يرضى بالتّصفيق.

لكنّه اختار الطّريق الأصعب: أن يكون مرآةً مشقّقة للعالم العربي.

أن يُحبّنا رغم كسلنا، ويصرخ فينا رغم أننا لا نُصغي.

أن يحلم، ثم يضحك من حلمه، ويعود إلى البيانو، ليكتب لنا لحنًا جديدًا عن تعب الحياة.

اليوم، وبعد كل هذه السّنوات، لا يزال زياد هناك.

في الخلفيّة الصوتيّة لذاكرتنا، في تفاصيل المدينة التي نحبّها رغم ما فعلت بنا.

يكفي أن تسمع جملة من أغنية قديمة، ليعود كلّ شيء.

الرّغبة في البكاء بلا سبب.

الحنين لأناس لم نعرفهم.

والحزن الجميل، ذاك الذي لا يُميتك، بل يذكّرك أنّك ما زلت إنسانًا.

زياد لم يعتذر عن فوضاه.

ولا حاول أن يُرمّم صورته.

هو كما هو: فوضويّ، ساخر، غاضب، شفاف حدّ الأذى.

في كلّ هذا، كان وما زال، من أكثر النّاس صدقًا.

وهذا وحده، كفيل بأن يجعل له مكانًا في القلب، لا يشيخ ولن يتضعضع.

لكنّه رحل.

في صباح خريفيّ، كما يليق بمن كتب عن تعب الخريف أكثر ممّا كتب عن فرح الربيع، انسحب زيّاد الرّحباني بصمت.

لم يُودّعنا بخطبة، ولا ببيان، ولا بأغنية وداع، بل ترك البيانو مفتوحًا، والمسرح خاليًا، والكرسيّ الذي اعتاد الجلوس عليه بلا صاحب.

رحل زياد كما عاش، خارج التّوقيت، وخارج التّرتيب العاطفيّ الذي اعتدناه.

رحل وتركنا نبحث عن أنفسنا في صدى موسيقاه، ونرتّب حزننا كما نرتّب ذكرياتنا القديمة: بلا منطق، وبكثير من القلب.

 

هو مات، نعم.

لكن كلّ مرّة نسمع فيها لحنًا من ألحانه، أو نقرأ سطرًا من مسرحيّاته، نشعر أنّه يطلّ علينا من زاوية ما، ويقول بلكنته السّاخرة المعهودة: "شكرًا جدًّا جزيلًا".

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

صراع المال الذي سيشكل مستقبل أوروبا

كارل بيلت - 

«المال هو الذي يجعل العالم يستمر في الدوران»، هكذا تغنّي فتاة الاستعراض سالي بولز في مسرحية «كباريه»، المسرحية الموسيقية الشهيرة التي تدور أحداثها على خلفية انحطاط جمهورية فايمار. من المؤكد أن المال سيشكل مستقبل أوروبا، حيث يضطر القادة السياسيون في مختلف أنحاء القارة إلى اتخاذ قرارات مؤلمة حول كيفية تخصيص الأموال العامة في عالم متقلقل على نحو متزايد.

من المنتظر أن تعمل ثلاث أولويات عاجلة على إرهاق الموارد المالية العامة في أوروبا خلال السنوات القليلة المقبلة. الأولى -والأكثر وضوحا- هي الدفاع. الواقع أن القوة الدافعة نحو زيادة الإنفاق العسكري تتمثل في المقام الأول في الرغبة في الرد على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فضلا عن انتقاد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المستمر لحلفاء أمريكا في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وقد جعلت هذه الضغوط مجتمعة من تعزيز موقف أوروبا الدفاعي ضرورة استراتيجية.

الأولوية الثانية والأكثر إلحاحا هي دعم أوكرانيا في معركتها ضد روسيا. إذا انهارت دفاعات أوكرانيا، فمن المرجح أن تنفجر روسيا في نوبة هياج انتقامية. وضمان قدرة أوكرانيا على الاستمرار في الدفاع عن نفسها يتطلب أن تتجاوز الحكومات الأوروبية التزامات الإنفاق الدفاعي الحالية.

وأخيرا، هناك العملية المطولة المتمثلة في إعداد ميزانية الاتحاد الأوروبي القادمة المتعددة السنوات، والتي ستغطي الفترة من 2028 إلى 2034. وقد قدمت المفوضية الأوروبية اقتراحها بالفعل، لكن التحدي الحقيقي يكمن في المستقبل، حيث يتعين على البلدان الأعضاء والبرلمان الأوروبي إجراء مفاوضات داخلية قبل الاتفاق على الأرقام النهائية. يتضمن اقتراح المفوضية زيادة تمويل الأمن، والالتزامات العالمية، والقدرة التنافسية، فضلا عن تقديم دعم إضافي لأوكرانيا.

ورغم أن هذه الأولويات حظيت بتأييد واسع الانتشار، فإن إعادة تخصيص الموارد اللازمة لتمويلها كانت موضع جدال حاد. من المأمون أن نقول إن اللجنة تتجه نحو مواجهة سياسية مريرة قبل التوصل إلى الإجماع. على الرغم من حدة هذه المعارك المرتبطة بالميزانية، فإن الميزانية التي تقترحها المفوضية تبلغ 1.26% فقط من الدخل الوطني الإجمالي في بلدان الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين. وبينما تزيد هذه النسبة عن الحالية (1.13%)، فإن الزيادة الصافية متواضعة نسبيا بمجرد احتساب تكاليف خدمة الديون الناتجة عن فورة الاقتراض التي أعقبت جائحة كوفيد-19.

ولكن عندما يتعلق الأمر بالدفاع، تصبح الأرقام أكثر أهمية بدرجة كبيرة. فقد تنامت ميزانيات الدفاع في مختلف أنحاء أوروبا في السنوات الأخيرة بنسبة الثلث تقريبا، حيث تنفق معظم الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو حوالي 2% من ناتجها المحلي الإجمالي أو تقترب من هذا المعيار.

ولكن حتى هذا لم يعد كافيا. ففي قمة الناتو في يونيو في لاهاي، تعهد الأعضاء بإنفاق 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2035، مع تخصيص 1.5% إضافية للاستثمارات المرتبطة بالدفاع والأمن في عموم الأمر. ويبدو أن نسبة 1.5% الإضافية مصممة لاسترضاء ترامب، الذي دعا الحلفاء الأوروبيين مرارا وتكرارا إلى زيادة الإنفاق العسكري إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي. ومن المتوقع أن يعتمد جزء كبير من هذا الإنفاق الإضافي على المحاسبة الإبداعية بدلا من التمويل الجديد الحقيقي. كما يتطلب دعم أوكرانيا خلال الحرب وإعادة بناء البلاد في نهاية المطاف التزاما ماليا كبيرا. وبينما تتفاوت التقديرات، فإن مبلغ 100 مليار دولار سنويا، على سبيل المثال، سيعادل ما يزيد قليلا على 0.4% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة مجتمعين -وهو مبلغ كبير ولكن ليس من السهل على الإطلاق إدارته.

عند مرحلة ما خلال فترة الميزانية 2028- 2035، سيكون من اللازم معالجة تكلفة إعادة بناء أوكرانيا. تشير تقديرات بعض الدراسات إلى أن تكلفة إعادة البناء قد تبلغ نحو 500 مليار دولار، وإن كان هذا الرقم يشمل المناطق التي قد تبقى تحت السيطرة الروسية في المستقبل المنظور. وسوف يعتمد قدر كبير من الأمر أيضا على ما إذا كانت الضمانات الأمنية، واحتمالات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، قد تعزز بيئة مواتية للاستثمار الخاص على نطاق ضخم.

بطبيعة الحال، قد تنشأ مطالب جديدة، وسوف يفرض هذا ضغطا إضافيا على موارد أوروبا المالية. على سبيل المثال، خفّضت عدة حكومات أوروبية بالفعل مساعدات التنمية أو حولت جزءا منها لدعم أوكرانيا. ورغم أن هذا قد يكون ردا ضروريا في الأمد القريب على الحرب الروسية - الأوكرانية، فإن عواقبه في الأمد البعيد تظل غير واضحة. في الوقت الراهن، تلبي النرويج والسويد والدنمارك فقط هدف الأمم المتحدة المتمثل في تخصيص 0.7% من الدخل الوطني الإجمالي لمساعدات التنمية. وبعد التخفيضات الكبيرة التي أجرتها إدارة ترامب على المساعدات الخارجية وإغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، تنشأ حجة قوية لصالح تركيز أوروبا على شغل هذا الفراغ. فالعالم الأكثر يأسا سيكون أشد تقلبا وأقل أمنا، وهذا كفيل بجعل التنمية ضرورة استراتيجية وأخلاقية في آن واحد.

لن يكون الوفاء بكل هذه الالتزامات سهلا، وخاصة بالنسبة للحكومات التي تعاني بالفعل من ارتفاع العجز وارتفاع الدين العام. وتخميني أن دول شمال أوروبا ستصل إلى هدف الإنفاق الدفاعي وفقا لحلف الناتو بنسبة 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي قبل عام 2035، في حين ستفشل دول جنوب أوروبا -باستثناء اليونان- في الأرجح في تحقيقه.

مع توجه كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى الانتخابات بحلول عام 2027، من المرجح أن تظل الشهية السياسية لخفض الإنفاق اللازم لزيادة ميزانيات الدفاع محدودة. يتضح هذا الاتجاه بالفعل في توزيع المساعدات لأوكرانيا. في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025، ساهمت دول الشمال الأوروبي بمبلغ 6.8 مليار دولار، وقدمت المملكة المتحدة 5.3 مليار دولار، وقدمت ألمانيا نحو 760 مليون دولار، بينما لم تقدم إسبانيا وإيطاليا سوى جزء بسيط من هذه المبالغ. من عجيب المفارقات هنا أن بلدان الاتحاد الأوروبي التي توصف غالبا بأنها «مقتصدة» هي ذاتها الراغبة بالفعل في تقديم التمويل اللازم لتعزيز أولويات الاتحاد المتفق عليها.

من ناحية أخرى، تفضّل الدول الأقل اقتصادا الدعوة إلى مزيد من الاقتراض، حتى برغم أن المجال المتاح لها للقيام بذلك بنفسها محدود. هذه التوترات تحرك الآن المعركة المحتدمة حول موارد أوروبا المالية. والتناقض صارخ بين موافقة الناتو السريعة على تعهدات الإنفاق الضخمة، وجدال الاتحاد الأوروبي حول مبالغ أصغر كثيرا. مهما كانت النتيجة، فإن المعركة المالية القادمة ستختبر مدى قدرة قادة أوروبا واستعدادهم لمواجهة التحديات الأمنية الخطيرة المقبلة.

مقالات مشابهة

  • “رونالدو… نجم النصر الذي لا يبتسم للإعلام النصراوي”
  • الإمارات تمد شريان الحياة إلى القطاع الصحي في قطاع غزة
  • الحكم بالسجن مدى الحياة لمشارك بعملية إعدام الطيار الكساسبة
  • صراع المال الذي سيشكل مستقبل أوروبا
  • المحكمة الاتحادية ترد دعوى بإلغاء منح الجواز الدبلوماسي مدى الحياة للبرلماني العراقي وأسرته
  • كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
  • ملك الأردن يحث على الموازنة بين الحزن على غزة ومواصلة مظاهر الحياة
  • بالصور: رهف فرج: طفولة مفقودة وصمود أمام قسوة الحياة في غزة
  • بالصور: سوق الصحابة في غزة: إصرار على الحياة وسط أجواء الحرب
  • الأمير الذي نام طويلاً.. واستيقظت حوله الأسئلة