بوابة الوفد:
2025-12-14@04:50:30 GMT

صحفيو غزة يصرخون للعالم: بيكفى.. إحنا بنحب الحياة

تاريخ النشر: 3rd, September 2025 GMT

 

«الوفد» تنفرد بملف إنسانى عن شهداء الصحافة فى قصف مستشفى ناصرمحمد إسماعيل: «حسام المصرى أخذ المفتاح من خيمتى.. وبعد نصف ساعة سمعنا خبر استشهاده»د. محمد الأسطل: «بكيت لأنى ما قدرت أطعم أولادى.. استشهدوا زملائى وما بقى للصحافة فى غزة إلا رائحة الموت»يافا أبوعكر: شاهدت الصاروخ يُقطّع زملائى على الهواء.

. ومريم أبودقة حكت لى قبل استشهادها: كلها أسبوعين وهروحصافيناز اللوح: «حملت أخويا الشهيد على كتفى.. كل الصحفيين فى غزة أسماء على قوائم الاحتلال»سمير البوجى: راسلت معاذ أبوطه عبر الواتساب وبعد دقيقة جاءنى خبر استشهاده.. ومريم أبودقة وصيتى فى جيبها ووصيتها فى جيبىأنس النجار: «آخر رسالة من مريم كانت وصيتها وصحينا على خبر استشهادها»

 

فى غزة يُباد الصحفيون على الهواء وهم يُفتشون عن صورة أخيرة تُعانق العالم، ليكونوا شاهدين على أن الصحافة ليست مجرد مهنة، وإنما قدرٌ يختاره أصحابها عن وعيٍ كامل، كمن يمضى طوعًا نحو الشهادة، مؤمنًا بأن «الحقيقة لا تموت وإن مات أصحابها».

أضاف الاحتلال إلى سجله الأسود جريمة حرب جديدة لحظة ارتقاء 5 صحفيين تساقطوا نجومًا فى ليل غزة جراء قصف مستشفى ناصر بخان يونس، خبت أصواتهم دفعةً واحدة وتحولوا من ناقلى الخبر إلى عناوينه، فى ليلة بكت فيها السماء، وارتجّت لها الأرض وشهدت عليها الشمسُ ناقمة، ولو استطاعتْ أن تقذف المحتل بنارها المستعرة لفعلت انتقامًا لشعبٍ أزال من قواميسه مفردات «الحياة».

5 من حراس الحقيقة كتبوا وصاياهم قبل تقاريرهم، عاشوا فى خيام صغيرة بجوار مجمع ناصر، ناموا على الأرض، تقاسموا حلم وقف الحرب وفُتات الخبز، لم يعرفوا رفاهية الحماية، ولا امتيازات المهنة، كل ما امتلكوه: سترات أثقلتها الشظايا وكاميرات بلّلتها الدماء.

ودّعتنا مريم أبودقة وهى تُمنى نفسها بمعانقة طفلها، وغادرنا معاذ أبوطه الذى كان يهرول بين الأطفال ليصنع لهم فسحة علاج وحياة، وبقى أثره فى وجوه من أنقذهم.

ورحل حسام المصرى تركًا خلفه زوجة تُصارع السرطان وحيدة، وارتقى محمد سلامة حاملًا معه أحلام زفاف لم يكتمل، فيما صعد أحمد أبوعزيز بالميدان مقاومًا مرضه حتى آخر نبضة، وأسماء أخرى حملت الكاميرا ولم تعد.. تحوّلت دماؤهم إلى مداد جديد يكتب سطور القضية الفلسطينية على جدران العالم.

هذا الملف هو روايتهم، بلسان من بقوا على قيد الألم، شهادات حية عن آخر اللحظات، عن آخر مفتاح سُلِّم، عن آخر مكالمة انقطعت، عن أطفال ينتظرون آباءهم على هواتف صامتة، وعن وصايا تُسلم باليد قبل أن يخطفها القصف.

 

 

المفتاح شاهد قبر

«أجانا حسام الصبح، أخذ منى المفتاح كان بدّه الكاميرا والأغراض من الخيمة المجاورة، قال لي: رايح على مجمع ناصر أشتغل.. وبعد أقل من نصف ساعة دوى انفجار هزّ المكان كله، والشظايا والحجارة وصلت لخيمتنا لأنها ملاصقة للمستشفى».. بهذه الكلمات روى الصحفى الفلسطينى محمد إسماعيل الحداد لـ«الوفد» تفاصيل اللحظات الأخيرة فى حياة الشهيد حسام المصرى.

وأضاف: «هرعنا باتجاه الموقع وإذا بقذيفتين أُطلقت على الصحفيين محمد سلامة ومعاذ أبوطه ومريم أبودقة وأحمد أبوعزيز، نزلت علينا شظايا وحجار وإحنا بالشارع.. وتم قصف طواقم الدفاع المدنى أثناء انتشال الشهيد حسام المصرى، رجعنا للخلف ما حدا قدر يتقدم خوفًا من القصف مجددًا، وشاركنا فى انتشال الشهداء فى مشهد مريب.

وصف محمد إسماعيل المشهد بيوم القيامة قائلًا: «ناس تجرى، صرخات تتعالى، أجساد مضرجة بالدماء، أشلاء مبعثرة.. الفقد كبير والوجع لا يوصف، حتى هذه اللحظة أشعر بصدمة وكأن هذا كابوس ممكن نفيق منه ويكون غير حقيقى.. استشهد زملائى رفاق التغطية والحدث والصورة كنا سطر كامل من الخيام نقضى الوقت مع بعض ونتشارك الحرب والجوع والقهر وأمل وقف حرب الإبادة.

وعن أصعب لحظة قال: «تطاردنى كلمات ابن حسام المصرى، طفل فى الخامسة عشرة، بعدما دفنّا والده حكالى رن على جوّال أبويا يمكن يرد علينا! مشهد يبكى القلب قبل العين.. تبلدت مشاعرنا من كثرة ما رأينا، ما عادت لدينا رفاهية البكاء، ما فى وقت لا للدموع ولا للحزن لأن عدّاد الشهداء يحصدنا حصدًا، الواقع مرير جدًا، وأصبحنا نعانى من أمراض نفسية بسبب ما عايشناه».

استعاد محمد إسماعيل تفاصيل يومياته مع حسام: «كنا ننام على فرشة واحدة أربعة شهور كاملة، فى خيمة صغيرة على مدخل مجمع ناصر الطبى ننام فيها أنا ويّاه وعدد من الزملاء، كنا نفطر فول كل صباح، وكان زميلنا الصحفى الشهيد محمد أبو حطب يجيب لنا غدا فى بداية الحرب كانت صحيح مذابح وقتل، لكنها إلى حد ما أفضل من ذلك الوقت العصيب الذى نعيش تفاصيله فى هذه الأيام.. شاركنا بعضنا تفاصيل التغطية من أولها لآخرها، حسام لم يكن مجرد زميل مهنة، كان أخًا بكل معنى الكلمة، كان إنسانًا نادرًا، طيبًا وهادئًا، لا يكل ولا يمل فى خدمة الآخرين، كان آخر من غادر مستشفى ناصر فى أيام الحصار، وكان حاضرًا فى كل زقاق من أزقة المخيم لينقل الحقيقة بوجه صادق وكلمة حرة.. بخسارته، خسرنا أيقونة الصحافة فى خان يونس، وخسرنا قلبًا نقيًا لا يعوض».

ونبرة يكسوها الأسى أكمل: «كان حسام يحمل همًا أكبر من الحرب نفسها: زوجته المريضة بالسرطان. قبل أيام من استشهاده، طلب منى مساعدته فى إخراجها للعلاج، قال لي: ما بقدر أشوفها بتتعذب أكثر.. طرق حسام كل الأبواب، لكنه لم يجد من يسمع صوته. ورحل حسام، وبقيت زوجته تقاوم المرض وحيدة، تحمل وجعًا مضاعفًا بعد أن فقدت سندها ورفيقها، فمن أجل حسام، من أجل رسالته التى أفنى حياته من أجلها، ومن أجل أطفاله الصغار، لا تتركوا زوجته تواجه الموت بصمت.. أنقذوها، قفوا معها، لا تخذلوها».

وتحدّث إسماعيل عن بقية الشهداء: «مريم أبودقة لم تكن مجرد صحفية، كانت دينامو لا يتوقف، شقيقة لنا جميعًا، هى إنسانة مثابرة إنسانة خلوقة ومزوحة، وهبت كل حياتها حتى تغطى الأحداث بكل واجبها الأخلاقى والوطنى تجاه ما يحدث فى قطاع غزة، أما معاذ أبوطه فكان شابًا خلوقًا، لا يختلف عليه اثنان، ومحمد سلامة كان يستعد للزواج من زميلتنا الصحفية هلا عصفور، إنسان مؤدب وعلى خلق.. كلهم من خيرة الزملاء الصحفيين، دائمًا كانت تجمعنا جلسات بعد التغطية نجلس سويًا مع نشوف تصوير بعض ونعّقب على بعض «شو الصح وشو الغلط»، كنا نتحدثعن الخطر واحتمالية الاستشهاد، ونوصى بعضنا «السلامة تبعتكم» قبل كل تغطية، ولكن الصاروخ حين يأتى لا يستأذن، قصفنا مرات عدة مع بعض، قصف مباشر، لأنهم ما بدّهم الصورة تخرج من غزة.. هذا قدرنا والحمد لله لا زلنا على قيد الحياة، ربنا يتقبلهم من الشهداء».

وتابع: «بعد استشهاد زملائنا عملنا وقفة تضامنية أمام مجمع ناصر الطبى وتم عقد مؤتمر صحفى دخل المجمع الطبى تنديدًا بجرائم الاحتلال، جميعنا ارتدينا الزى الصحفى، لذلك نحن معروفون للعالم أننا صحفيون وإسرائيل تتعمد استهدافنا، رسالتنا أن حتى هذه السترة لم تعد تحمينا من الموت فنحن مستهدفون إذا ارتديناها.. نتمنى يكون موقف دولى وأممى تجاه قضية الصحفيين الذين بات استهدافهم واضح بشكل مباشر، وفتحنا بيت عزاء داخل مخيم الصحفيين وتلقينا واجب العزاء فى وفاة زملائنا».

اختتم محمد إسماعيل رسالته بصوت يملؤه الإصرار: «برغم أن عدد شهداء الصحافة تجاوز 246، سنبقى فى الميدان مستمرون فى التغطية.. هذه رسالة وواجب وحق على أكتافنا. نعرف أن الموت أقرب إلينا من الحياة، لكننا نتمسك بالكاميرا والقلم لأنهما آخر ما يربطنا بالحقيقة.. إلى العالم كله: متى ستستفيقون؟ فلسطين ليست لنا وحدنا.. إنها قضية كل أمة تبحث عن العدل والحرية».

مهنة الموت

حاورت «الوفد» الصحفى د. محمد الأسطل، مراسل وسائل إعلام فلسطينية وأجنبية وأكاديمى فى اختصاص الإعلام، والذى لم يكتفِ برواية القصف والموت وإنما روى المجاعة قائلًا: «بكيت فى مرات كثيرة لأن أولادى كانوا جوعى، زميلتى سألتنى «ليش بتبكى؟» قلت لها لأن أولادى ناموا جوعى واستيقظوا وهم جوعى وأنا أحكى معك وأنا جائع وما بقدر أسوّى شيء، بكيت بكاء قد يكون الأشد طوال حياتي، شعور أن تكون عاجزًا عن تقديم شيء لأطفالك محزن جدًا».

محمد فقد 12 كيلو من وزنه فى شهرى المجاعة الأخيرة، حيث قال:  «كنت آكل ربع وجبة عدس بدون خبز.. وأطفالى الخمسة يأكلون وجبة واحدة باليوم «عدس مع مكرونة».. اضطريت لتغيير صورتى الشخصية عشان الناس تصدّق إن إحنا اتغيّرنا من الجوع».

وتطرق محمد الأسطل إلى وصف وقع نبأ استشهاد زملائه عليه، قائلًا: «وقع الخبر عليّ كوقع الصاعقة خصوصًا أننى كنت فى مستشفى ناصر قبل الاستهداف بليلة واحدة وكان من المفترض أن أكمل فى تلك الليلة، ولكنى تأخرت فى العمل، كنت على تواصل بحسام المصرى وبيننا أحاديث طويلة، قبل استشهاده قال لى إنه يشعر بالوحشة، بيوتنا ضاعت والشعب هُجر وأُبيد، ما بدنا نموت لكن لم يعد لنا فى هذه الحياة شيء».

وأضاف: «الصحفى فى غزة لا يمكن قياسه بأى صحفى فى العالم، همومه مضاعفة، يخوض معارك على جبهات عديدة، معركة توفير احتياجات عائلته وتأمينها فى خيمة، ومعركة أخرى فى مهنته الصحفية، ومعركة أخرى فى النجاة من القصف والموت، ومعركة أخرى فى توفير احتياجات عمله، كشحن الهاتف المحمول وتوفير البطاريات وتوفير ذاكرة إضافية أو هارد خارجى لللاب توب، ننشر إعلانات على صفحاتنا أبسط شيء حتى المايك غير موجود، الصحفى الفلسطينى يحب الحياة، يحلم بانتهاء الحرب وعودته لأطفاله، كلنا نكتب وصايانا، أنا لا أخرج لمكان حتى أوصى زوجتى «ديرى بالك لو صار أى شيء تتصلى فى أخوى.. فى أبوى».. الصحفيين اللى استشهدوا عشنا معهم أيام طويلة، وغطينا الأحداث بشكل مشترك، لكل واحد منهم قصة وحلم لم يكتمل، البعض كان يحلم بالعودة لبناء بيته من جديد، وبعضهم كان يحلم بالحصول على وظيفة ثابتة فى العمل الصحفي، وبعضهم كان ينتظر أن يتزوج».

ذكر لنا محمد الأسطل لحظات قاسية ما زالت عالقة فى روحه قائلًا: «وداع الشهداء عمومًا والصحفيين خصوصًا مؤلم حينما كنا نقف أمام ثلاجة الموتى فى المستشفى مشاهد وداع الآباء للأبناء والأبناء لآباءهم شيء لا يحتمله بشر، حال الأمهات «تفتح كفن وتسكّر التاني»، إحداهن كانت تهمس فى أذن ابنها وتحكى «قلتلك يامّا بلاش تجيبلى كيس طحين أنت لا جبتلى طحين ولا اجيتنى يامّا».. فى حالة الجوع كان الشباب والفتيان يروحوا لنقاط المساعدات الأمريكية فيتم إطلاق النار عليهم ويرجعوا جثث هامدة، والأبناء بذات الطريقة يقفوا أمام جثامين آباءهم يقولوا «ارجع يابا» نحن نكون فى مشهد قاسٍ أقسى اللحظات لحظات وداع الآباء والأبناء لأقاربهم، آباء وأمهات يفقدون الوعى، زوجات تتحسر، أطفال صغار يبكون، كل مشاهد الشهداء مؤلمة للغاية, أيضًا نقلنا التجويع، قصص يندى لها الجبين، من مسنين لا يجدون الطعام، ومن عائلات لها 10 أيام لم تنقل الخبر، وأطفال كانوا يترنحون بين الخيام وهم جالسون غير قادرين على اللعب، تفاصيل موجعة جدًا عن التجويع كانت لطفلة مثلا عمرها 12 عامًا نقص وزنها حوالى 10 كيلو تتمدد على ظهرها غير قادرة على السير وعلى التركيز، وضعف الإبصار لدى الناس».

وأكمل: «نجوت من الموت مرات عدة، ذات مرة كنا فى منطقة على مقربة من إطلاق الرصاص وبالكاد زحفنا زحفًا لمائتى متر حتى نجونا.. القصف المدفعى كان يصلنا فى مكان  وقت التغطية، وتعرضنا لإطلاق نار مباشر.. من يعمل فى غزة كصحفى أو كإنسان يتعرض لإطلاق الرصاص، لا يوجد مواطن فلسطينى فى قطاع غزة إلا ونجا من الموت مرات عديدة، ما يدفعنا للتماسك هو أننا نشعر أننا أمام رسالة إنسانية وطنية بامتياز وأننا أصحاب حق فلسطينيين».

وأردف: «أركز فى تغطيتى ليس فقط على أنسنة التغطية، ولكن أركز على تعميق الأنسنة، أن نخلق أنّ من يشاهد أو يقرأ يشعر أنه فى قلب الحدث، نتحدث عن عذابات الناس، عن المسن مريض القلب الذى لا يوجد له دواء، عن الأم التى تبكى ليل نهار وهى لا تستطيع أن توفر قطعة حلوى لابنها، عن الطفلة التى تنادى على طائرة المساعدات المصرية وتحكى «نزليلى شكولاتة» اعطونى رقم جوال الطيار، بدّى أتصل عليه أحكى له ينزلى شيكولاتة، الأطفال الذين تركوا مدارسهم وذهبوا لتعبئة جالونات الماء، عن الأستاذ الذى يملك 5 لغات لكنه يجمع الحطب حتى يطهو، التركيز على الإبادة والتجويع المجاعة ليست بالأرقم وإنما بقصص الناس، نحن أمام تحدٍ كبير.. كل الفسطينيين فى حاجة إلى تدخل نفسى حال انتهت الحرب».

واختتم محمد حديثه بجملة تلخص معنى الشهادة والرسالة: «تعلمنا أن الصحافة مهنة البحث عن المتاعب، هذا الوصف مهذب ومحدود يصلح فى دول مستقرة، لكن الصحافة فى غزة مهنة الموت.. نحن ندرك أننا فى أولى خطوات الموت ونحن كصحفيين وفلسطينيين نقف على مقصلة الإعدام ننتظر!».

 

إبادة على الهواء

«شاهدتُ الصاروخ وهو يقطع بجسد زميلى وزميلتى وأنا على الهواء مباشرة، ولم أكن أعلم وقتها أنهم مريم أبودقة وبقية زملائنا.. كانت لحظة لا تُحتمل، مشهد لن يمحى من ذاكرتى ما حييت».. بكلمات تنزف وجعًا روت الصحفية الفلسطينية يافا أبوعكر لـ«الوفد» تفاصيل لحظات مؤلمة كانت فيها شاهد عيان وقت ارتقاء رفاق الميدان.

وأضافت أبوعكر: «الله يرحم جميع زملاءنا الذين ارتقوا.. كل من فقدناهم أحبابنا، كلهم كانوا أصوات من غزة وصّلت الجوع ووصلت الإبادة ووصلت القصف والموت.. أكثر من 12 شهيدًا صحفيًا ارتقوا خلال أغسطس الماضى وحده أمام مستشفى الشفاء فى الشمال وأمام مستشفى ناصر فى الجنوب، هذه الجريمة أثرت فينا نفسيًا وبشكل كبير كصحفيين، حياتنا باتت معرضة على المحك فى أى لحظة ممكن نفقد أنفسنا، العالم يشوفنا عم بنموت على الهواء ولم يعيرنا أى اهتمام، صرنا عارفين إن موتنا مش هياخد من العالم تأثيره دقائق، فقدنا أنفسنا وبيوتنا وأهالينا وأحبائنا والآن نفقد زملاؤنا فى الميدان.. إسرائيل ترتكب أكبر مجزرة قذرة بحق المدنيين فى غزة، الإبادة كانت على الهواء مباشرة».

واستطردت: «كنت على تواصل مع مريم أبودقة من أول يوم فى الحرب حتى قبل ارتقائها بدقائق فقط. لم تكن زميلة صحفية فحسب، كانت أختى وصديقتي، شاركنا معًا الجوع والقهر والبكاء والحصار والموت.. من أصعب اللحظات فى حياتى تلقى نبأ ارتقائها وارتقاء الصحفى محمد سلامة، خطيب زميلتى وحبيبتى وابنتى الصغيرة هلا»

وسردت يافا أبوعكر تفاصيل إنسانية مؤلمة عن الأيام الأخيرة لمريم أبودقة قائلة: «قبل أسبوعين فقط كانت مريم عندى، لم تكن تأكل أو تشرب.. سألتها: ليش هيك بتعملى فى حالك؟ فأجابتنى بابتسامة هادئة: (كلها أسبوعين وهروح.. ونلتقى فوق.. حياتنا فوق وجنتنا فوق.. ما إلنا حياة فى غزة ليش إحنا عايشين!).. كنا نضحك ونحاول نغير الموضوع، لكن الحقيقة أنها كانت تشعر بقرب رحيلها».

وأوضحت: «مريم كانت تتمنى فقط أن ترى ابنها غيث، مثلما أتمنى أنا أن أرى ابنى أنس.. الاحتلال لم يترك لنا فرصة لنلتقى بأبنائنا.. كل الصحفيين فى الميدان تركوا وصايا وداع قبل الخروج للتغطية، كلهم كتبوا وصاياهم شو بدّهم وشو يتمنوا وشو حابين، نحن لنا حياة وعائلات ولنا أسر.. الصحفيين فى غزة يحملون أكفانهم على أيديهم.. نحن شهداء قيد الانتظار».

 

أخت الشهيد

أما الصحفية صافيناز اللوح فسردت لـ«الوفد» بألم يعتصر قلبها تفاصيل أصعب جنازة حضرتها: «أصعب جنازة حضرتها كانت جنازة أخى أحمد، مراسل قناة الجزيرة.. يوم استشهاده أنا اللى حملته على كتافي، كان مشهدًا قاسيًا جدًا، لكن كان لازم أوفيه حقه وأقول للعالم كله إنى مفتخرة لأنى أخت الشهيد».

وأضافت بحرقة: «استشهاد مريم أبودقة كان صدمة كبيرة بالنسبة لي.. أغلب تغطيات الحرب كنا مع بعض، ما اعتبرتها زميلة، كنت أعتبرها أختي.. كانت شجاعة بشكل ما يتصدق، طموحة جدًا، وصلت للعالمية فى التصوير.. كانت كل ما تشوف سيارة أو جيب تروح تطلع عليه وتصور، الشباب يحكولها انزلى يا مريم، تردّ: لأ بدى آخذ الصورة. ما كانت تخاف من أى شيء.. وصّلت أمانتها ورحلت».

وتابعت: «جاءت الأخبار واحد ورا الثاني.. أولًا حسام المصري، ثم محمد سلامة اللى كنت بعزه جدًا.. علاقتى بيهم قوية جدًا. وقع خبر استشهادهم كان مثل وقع استشهاد أنس الشريف ومحمد قريقع ومثل صدمة يوم استشهاد أخى».

وروت صافيناز اللوح تفاصيل أخرى مؤلمة: «يوم استشهاد أنس وقريقع كنت مريضة وماسكة الجوال فى مكان الإيواء اللى ساكنين فيه.. أختى هى اللى أخبرتنى بخبر استشهادهم.. علاقتى بأنس كانت كبيرة جدًا، كان من الذين ظلوا فى الشمال حتى قبل الحرب، وكنا دائمًا مع بعض فى مسيرات العودة، وبعد استشهاد أخى كان دائمًا يسأل عنى ويواسيني».

وأضافت: «أنا على قناعة تامة أن هذا الاحتلال ينفذ كل ما يهدد به.. إحنا عايشين فى انتظار القدر.. حتى أنا من ضمن الأسماء اللى الإعلام الإسرائيلى نشرها وروجها المستوطنون».

واستطردت: «كلها صدمات فى ظل الحرب.. بيتنا تم قصفه، وخيمتى تم قصفها، فقدت تقارير ومواد مصورة كثيرة. وبسبب انقطاع الإنترنت بنشتغل على شرائح إلكترونية، ومع ذلك بنظل نحاول نكمل رسالتنا. والله لنكمل المشوار يا مريم ويا حسام ويا محمد ويا معاذ، لآخر نفس فينا».

واختتمت صافيناز رسالتها: «رسالتى لغزة وأهلها: ثبتكم الله وثبتنا جميعًا.. رغم الألم والفقد، سنظل أوفياء للشهداء ونكمل دربهم».

 

الصورة الأخيرة

فتح الصحفى سمير البوجى قلبه لـ«الوفد» وهو يصف اللحظة التى لن ينساها: «كنت قبل دقيقة واحدة فقط أتحدث مع معاذ أبوطه عبر الواتساب.. كان يحكى لى عن حالة إنسانية لإجلاء طفلة مريضة للعلاج بالخارج. والد الطفلة جاء يشكره ويشكرنى، وقال له: بشكرك وبشكر سمير إنكم أنقذتم بنتى وسافرتموها لإيطاليا. فجأة انقطع الاتصال.. بعد دقيقة واحدة فقط، وصل خبر القصف على مجمع ناصر.. قلبى وقع، كنت أتصل وأحاول أصل لمعاذ لكن بلا جدوى، الإنترنت مقطوع والاتصال ميت».

وأضاف: «أول خبر وصلنى كان استشهاد حسام المصري، بعدها مباشرة قالوا: محمد سلامة اختلط علينا الأمر، فيه اثنان نناديهم محمد سلامة، محمد أشرف وزميلنا محمد الأسمر الشهيد محمد سلامة، قعدنا نحكى وأتتبع مع الشباب ومع زملائى «مَن يا شباب» وظللت أبحث عن معاذ. دقائق بعد ذلك قالوا: هناك صحفية مجهولة بين الشهداء..كان أبو خليل اللى طالع على اللايف اتصل حكى لي: حد من البنات يجونى ضرورى بِدنا بنت تتعرف عليها، وتأكدنا أنها مريم أبو دقة.. يا وجع قلبى عليكِ يا مريم».

سرد «سمير» تفاصيل اليوم الأسود: «كنت فى الجيم لما وصلنى الخبر.. أنهرت وتعبت لدرجة إنهم اضطروا يطلبوا لى سيارة ترجعني. المشهد الثانى كان للعالم كله على الهواء.. لحظة استهداف زملائى مباشرة أمام الكاميرات. صورة لا تفارق خيالي.. فجاعة المنظر لا يتحملها عقل».

وتابع: «مريم كانت أختًا لى.. كنا نكتب وصايانا ونتبادلها مع بعض. لم أرَ مثابرة مثلها.. فى أصعب الظروف، بقيت معى فى الميدان ولم تغادر، حتى يوم دخول المساعدات عبر التحلية، كانت معي، أصرت أن تكمل الطريق رغم الخطر، أنا المقرب لديها من الصحفيين، كنت أنا وياها والشهيد حسن الصليح الله يرحمه ودعاء الباز كنا دائمًا نطلع مع بعض فى الأحداث أى حدث نطلع فيه أى تغطية نطلع فيها، فى أى حدث نتواصل مع بعض، حتى يوم ما صار إخلاء حكوا (إخلاء مستشفى ناصر) كل المنطقة أخلت ما عدا أنا وظلت موجودة معانا هى وبقية البنات وإحنا كمجموعة كنا وبعض الشباب الموجودة إبراهيم محارب وعبدالله العطار ومحمد سلامة وهانى الشاعر وصامد أبوظريفة وطه أبوظريفة مجموعة من الشباب ضلينا وما رضينا ننقل ولا نطلع وضلينا لآخر لحظات.. أتجمعنا وأتصورنا فى نفس المكان اللى انقصف وكانت الصورة الأخيرة إلنا».

ثم وصف سمير البوجى زملاءه: «حسام المصري، عشرة عمري.. زوجته مريضة بالسرطان، وكان يحارب على جبهتين: جبهة الميدان وجبهة أسرته، ومع ذلك لم يتأخر يومًا عن أى زميل.. ومعاذ أبوطه كان فاكهة المخيم، صاحب الضحكة اللى ما تنطفيش، خفيف الروح، خادم للعمل الإنساني، ساعد فى إجلاء أطفال كُثر للعلاج.. قبل استشهاده بيومين بس، كان يقول لي: أنا فرحان ورغم الخطر والتعب كان يحكي: أنا مرتاح، كأنه شايف الجنة»، ومريم أبودقة تركت بصمة فى كل صورة، شجاعة لا تعرف الخوف ولا التعب، وأحمد أبوعزيز.. رغم مرضه وآلام الغضروف، ظل يغطّى وهو يتكئ عليّ، مصمم ألا يترك الكاميرا وعمل قصص انسحاب الجيش الإسرائيلى من منطقة المسلح القريبة من مجمع ناصر الانسحاب، وبعدها رجعنا على الخيمة تعبان وراح على المستشفى أخذ إبرتين بعدها بـ4 أيام ما قدر يخرج لأنه صمم وضغط على حاله. أما محمد سلامة فكان يستعد للزواج بعد خطوبته فى عزّ الحرب، لكنه رفض مغادرة مستشفى ناصر رغم التهديدات ووضعه فى النقطة الحمراء، وأصر أن يبقى حتى اللحظة الأخيرة، قبل استشهاده حكى لي: متى تخلص الحرب وأتزوج؟».

واستطرد البوجى بحرقة: «الشهداء الخمسة كانوا أعمدة الإعلام فى خان يونس.. جنود لا يكلّون، ولا يعرفون راحة. كنا نعيش الخطر معًا، كنا نجتمع على مأدبة واحدة نأكل ونشرب معًا ونطلع للتغطية معًا، ونكتب وصايانا وكأننا شهود على موتنا القادم، إلى متى حتضل سياسة قتل الصحفيين.. كم من صحفى فقد يده؟.. كم من صحفى فقد رجله؟.. فقد عينه؟ للأسف أصبحت إشارة الصحافة خطر ويجب أن يُقتل».

واختتم قائلًا: «استشهاد زملائى أثر فينا وبكينا.. لكننا ما خفنا، أكثر من 245 صحفيًا استشهدوا فى أقل من عامين.. هذا لم يحدث فى أى حرب فى العالم. لسنا أرقامًا، لكل واحد فينا قصة وعائلة وأبناء. مطلبنا بسيط.. أوقفوا الحرب، سنتين من عمرنا راحوا منا ومن عمر ولادنا، ما فى بيت ما فيه شهيد، وما فى بيت ما فيه جريح، اتركوا لنا حق الحياة، نحن شعب نحب السلام».

 

وصايا مؤجلة

الصحفى أنس النجار، مراسل تليفزيون الصين المركزى، ذكر لـ«الوفد» أن أول خبر غطّاه فى هذه الحرب كان وصول جثامين الشهداء والجرحى إلى مستشفى الشفاء، فى السابع من أكتوبر 2023، مؤكدًا أن هذا اليوم ما زال محفورًا فى ذاكرته وكأنه حلم لم يستفق منه حتى الآن.

وأضاف أنس: «كل ما أتذكر المشاهد التى رأيتها يومها أشعر أننى أعيش كابوسًا لا ينتهي، وعندما جاء خبر استشهاد زملائى كان وقعه كالصاعقة على قلوبنا جميعًا، كنا نلتقى يوميًا فى خيمة الإعلام ونقضى ساعات طويلة معًا، كانوا إخوتى قبل أن يكونوا زملاء».

وسرد موقفًا مؤثرًا جمعه بالشهيدة مريم أبودقة، قائلًا: «آخر رسالة بينى وبين مريم كانت ليلة استشهادها، أرسلت لى فجأة تقول: (يا أنس بِدّى أطلب منك طلب، إذا ربنا أخد أمانته أعطى راتبى ومستحقاتى لبنت أختي، وأحكيلها هدول من عمتك مريم). لم أتخيل أنها كانت تستشعر قرب أجلها. فى الصباح استيقظت على خبر استشهادها، حتى الآن غير مستوعب أننى فقدتها».

ووصف أنس أصعب جنازة حضرها فى حياته، مضيفًا: «كانت جنازة الزميلين حمزة وائل الدحدوح ومصطفى أبوثريا. قبل دقائق فقط كانا معنا فى الخيمة، ثم تحركا لمهمة عمل، وبعد دقائق وصلنا خبر استشهادهما.. لا أنسى هذا اليوم أبدًا».

كما تحدث عن لحظة شخصية قاسية قائلًا: «أصعب مشهد صورته عندما وصلت جثامين شهداء إلى مجمع ناصر، وبينهم فوجئت بابن عمتى وزوج عمتي.. لم أتمالك نفسى حينها، كنت بين أن أكون صحفيًا أو إنسانًا مكلومًا».

وأكد النجار أن استهداف الاحتلال للصحفيين يهدف إلى طمس الحقيقة، قائلاً: «الاحتلال لا يريد للعالم أن يرى الإبادة فى غزة بعدسة الصحفيين، لذلك يمنع دخول الصحفيين الأجانب ويستهدفنا بشكل مباشر».

وأنهى حديثه قائلًا: «تعلمنا كيف نبتكر طرقاً لإيصال الصورة رغم انقطاع الاتصالات والإنترنت، وقفنا على أسطح عالية وحملنا الشرائح الدولية كى نبقى شهودًا على الحقيقة. رغم كل ما فقدناه، سنكمل رسالتنا».

 

شهداء قيد الانتظار

من إسماعيل إلى محمد، من يافا إلى صافيناز، ومن سمير إلى أنس، وإلى كل من بقى على قيد الوجع.. الصحفيون فى غزة يرفعون كاميراتهم كأنها نعوش معلّقة يكتبون وصاياهم قبل كل تغطية، وينقلون للعالم مشهد الموت بالحبر والدمع.

لكن رغم القصف، رغم الجوع، رغم الفقد، رسالتهم واحدة: «بيكفى.. إحنا بنحب الحياة، لا تصمتوا احكوا عنّا!»

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: غزة الصحفيون جريمة حرب

إقرأ أيضاً:

منتخب مصر يواصل تدريباته بمركز المنتخبات الوطنية استعدادا لأمم أفريقيا

واصل منتخب مصر الأول لكرة القدم بقيادة حسام حسن،  تدريباته بمركز المنتخبات الوطنية بالسادس من أكتوبر في إطار الاستعداد لبطولة كأس الأمم الإفريقية ٢٠٢٥ التي تنطلق ٢١ ديسمبر الجاري بالمغرب .

موعد انضمام عمر مرموش لمعسكر منتخب مصر استعدادا لكأس أمم أفريقيامواعيد مباريات منتخب مصر فى كأس الأمم الأفريقية 2025مواعيد مباريات منتخب مصر فى أمم أفريقيا بالمغربU S A وإسبانيا تطلبان خوض وديتين أمام منتخب مصر استعدادا لـ مونديال أمريكاعودة إمام عاشور واستبعاد طاهر.. قائمة منتخب مصر في أمم أفريقيامنتخب مصر يخوض تدريبا مسائيا استعدادا لأمم أفريقيا 2025 بالمغرب

بدأ مران منتخب مصر بتدريبات بدنية ثم بعض الجمل الفنية تحت اشراف أعضاء الجهاز الفني للمنتخب .

كما شهد المران التدريب بالكرة الرسمية لبطولة كأس الأمم الإفريقية ٢٠٢٥ بالمغرب .

الجهاز الفني لمنتخب مصر يعلن القائمة النهائية لبطولة كأس الأمم الأفريقية بالمغرب

أعلن الجهاز الفني لمنتخب مصر الأول لكرة القدم، بقيادة حسام حسن، القائمة النهائية التي سيخوض بها منافسات بطولة كأس الأمم الأفريقية المقررة إقامتها في المغرب.

وجاءت القائمة على النحو التالي:

حراسة المرمى:
محمد الشناوي – أحمد الشناوي – مصطفى شوبير – محمد صبحي.

خط الدفاع:
محمد هاني – أحمد عيد – رامي ربيعة – خالد صبحي – ياسر إبراهيم – محمد إسماعيل – حسام عبد المجيد – محمد حمدي – أحمد فتوح.

خط الوسط:
مروان عطية – حمدي فتحي – مهند لاشين – محمود صابر – محمد شحاتة – إمام عاشور – أحمد السيد “زيزو” – محمود تريزيجيه – إبراهيم عادل – مصطفى فتحي – عمرو مرموش – محمد صلاح.

خط الهجوم:
مصطفى محمد – صلاح محسن – أسامة فيصل.

طباعة شارك منتخب مصر حسام حسن مركز المنتخبات الوطنية كأس الأمم الإفريقية بطولة كأس الأمم الإفريقية

مقالات مشابهة

  • طارق الشناوي: ما تعرض له فيلم "الست" تطرف في التقييم.. وسوسن بدر كانت أولى المرشحات لبطولة المسلسل
  • لميس الحديد عن محمد صلاح: الملك أثبت نفسه في ثانية والكل هتف باسمه
  • بالصور.. مكان بالقدس يُعتقد أنه شهد مولد السيدة مريم
  • إحنا في دولة مش غابة| محمد موسى منفعلا بسبب التعدي على معلم الإسماعيلية
  • منتخب مصر يواصل تدريباته بمركز المنتخبات الوطنية استعدادا لأمم أفريقيا
  • فجر السعيد: مريم الجندي خليفة منى زكي وقد تتفوق عليها
  • تعرف على القائمة النهائية لمنتخب مصر في كأس أفريقيا
  • استراتيجية الأمن القومي 2025 الأمريكية تعيد تشكيل نظرة واشنطن للعالم
  • قتل منهم 33 وتشرد الآلاف.. صحفيو السودان يواجهون أوضاعا مأساوية
  • موعد مباراة مصر ونيجيريا الودية والقنوات الناقلة