لجريدة عمان:
2025-10-07@23:13:29 GMT

الحكاية بالحلم

تاريخ النشر: 7th, October 2025 GMT

ليسَ فينا مَن لم يَهْنأ بِحُلْم ولا مَن لم يأْرق بِحُلم أقضَّ مَرْقَده وأفسَد صحْوَه، فأصْبَح متقلِّبًا باحثًا عن ممكن فَكٍّ لرموز ذاك الحلم علّه يظفر بمعنى منه يُدرَك، الأحلام الباقية في مساحة وعْيِنَا هي قصص نُمسكُ بها لحظة اليقظة وقد تمرّ سلامًا، وقد تُلازم أذهاننا وتتلبّس بنا إلى أن نفكّكها ونُمسك منها معنى.

لقد انتبه العرب قديمًا إلى أنَّ الحُلْم عالمٌ مليءٌ بالمعاني وبالدلالات المُشفَّرة، وأنّها مشاهد قصصيّة تُعيد تمثّل واقع انقضى أو تنذر أو تبشِّر بواقع قادم يحمل في طيّاته أملاً أو ألمًا، سعادةً أو تعسًا، فلم يكن الحُلْم في التصوُّرين الشعبيّ والعالم محْض توارد صُور أو مشاهد على نائم منغمس في نوْمه.

مسالك متنوّعة تناولت ما يأتي النائم من أحلام، وتعاملت مع أنظمتها الرمزيّة بوعي شعبيّ له منطق ومشروعيّة في إدراك الحُلْم وفكّ ممكن دلالاته، أو بوعيٍ عالم، عارف، اطمأنّ قسم منه إلى الأرضيّة الإيمانيّة العَقَديّة التي لها في الأحلام قولٌ ورأيٌ ومعتقَد، وانشدّ قسمٌ منه إلى العمل على فهم ظاهرة الأحلام في أبعادها الرمزيّة والنفسيّة التحليليّة، ولعلّ أبرز من خصّ قسمًا من بحوثه في ذلك، سيجموند فرويد وجاك لاكان، نظرًا في الحُلم على أنّه تعبير على العقل الباطن الذي يُحدِّد أفعال البشر، وعن لا وعيٍ فاعلٍ في الوعي، لا وعي يتمثَّل الرغبات والأزمات والهزّات والمسرَّات والكبوات والانتصارات ويُعيد تنظيمها في حكاية رمزيّة وسرديّة حُلميّة لا يرقُبها العقل الواعي وإنّما هي دائرة في عمق اللّاوعي الذي يُحدّد أعمالنا وأفعالنا ومكبوتنا وظاهرنا، وقد تتبقّى من هذه السرديّة الحُلميّة فضْلة قصصيّة يذكرُها الحالم عند صحوه في سطح وعيه. لقد اهتمّ العقل العربيّ بالحُلْم ونظر إليه نظامًا رمزيّا في حاجة إلى تفكيك، مقامات شتّى احتوت الأحلام وخصّصت لها عقلاً وفهمًا، لعلّ أوكدها وأهمّها المقام الدينيّ الذي يؤمن برمزيّة الحُلم، ويشدّه إلى ثلاثة منابت أصليّة، المنبت الملائكيّ والمنبت الشيطاني والمنبت الشخصيّ، فأمّا الحلم الملائكي، فهو الموصول بالرؤيا، وقد أخذ حيّزًا من كتب وأخبار في تراث العرب، وفي كتاب «المنامات» لابن أبي الدنيا أحلام ترتبط بالرؤيا تأتّت للصالحين والتابعين وأهل العلم، وتأتّت أيضًا لخلْقٍ من البشر عاديين، تمثّلت لهم مشاهد في النوم هي متحقّقة في واقع الوعي.

والمثال الأوْفر في تاريخ المقام الدينيّ للحُلم هو حلم النبيّ يُوسف الذي تشاركته الأديان السماويّة وقدّم النموذج للحلم الرؤيا في قصّة رمزيّة يُحسن تأويلها أبوه ويُفكّك مغلقها. وأمّا المنبت الشيطاني فهو متجسّد في الكوابيس التي تُرعِبُ الحالم، وتؤرق منامه، ومنصوحٌ في السنّة بعدم قصّ ما يُرَى من مرعِب الأحلام ومفزعها، وقد أكّد الحديث النبويّ تأصيل هذين المنبتين للحلم، بقول الرسول عليه الصّلاة والسّلام، «إذا رَأَى أحَدُكُمُ الرُّؤْيا يُحِبُّها، فإنَّها مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عليها ولْيُحَدِّثْ بها، وإذا رَأَى غيرَ ذلكَ ممَّا يَكْرَهُ، فإنَّما هي مِنَ الشَّيْطانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِن شَرِّها، ولا يَذْكُرْها لأحَدٍ، فإنَّها لَنْ تَضُرَّهُ»، ويدخل ضمن نطاق سيّئ الأحلام ما يُمكن أن يكون من أضغاث الأحلام التي لا معنى لها ولا تفسير لشائكها. وأمّا المنبت الشخصيّ، فهو ما يتأتّى للإنسان في أحلامه من أعمالِ يومه وما يُمكن أن تختزنه الذاكرة من مواقف تعيد تشكيلها ساعة المنام.

وهذه المنابت الثلاثة داخلةٌ في المقام الديني، يُظهرها حديث الرّسول القائل، عَن أبي هُريرة، عن النَبِيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، قال: «الرُؤيَا ثلاَثٌ: فبُشْرى منَ اللهِ، وحَدِيثُ النَّفْسِ، وتَخْويفٌ من الشَّيْطَان، فإنْ رَأَى أحدُكُم رؤْيَا تُعجِبهُ فلْيقُصَّها، إِنْ شَاء، وإنْ رَأَى شيئًا يَكْرهُه، فلاَ يَقُصّه على أحَدٍ». وهذا بابٌ وسيعٌ فتّح للحُلم أبوابًا تلقّفها أصحاب الأدب وأهل المعنى والتعبير، حتّى أصبحت الأحلام منامات يُستَنَد إليها للحكاية ويُعتَمَد عليها شكلاً من أشكال القصص، وأخرجها أهل الأدب من سمتها التحليليّة التفسيريّة التي بلغت أوجها مع كتابٍ عالمٍ في الأصل، شعبيّ في الرّواج والنشر، وهو الكتاب المعروف بتفسير الأحلام لابن سيرين، الذي تلقّفه تجّار الناشرين لترويج تفسير أصليّ شرعيّ للأحلام، غير أنّ الكتاب في أصْل تأليفه يُرَدُّ فيما أجمع عليه أهل العلم إلى العالم المتصوّف أبي سعد عبدالملك بن محمّد الخركوشي (ت 407 هـ)، وأصل عنوان كتابه «البشارة والنذارة في تعبير الرؤيا»، وهو كتابٌ داخل تراكمٍ كتبيّ سابقٍ ومزامن في النظر في التعبير بالرؤيا، منها كتاب «تعبير الرؤيا» لابن قتيبة (ت 276 هـ) وكتاب «تحفة الملوك» للسجستاني، وكتاب «القادري في التعبير» للدينوري، وكتاب «الممتع في التعبير» لابن أبي طالب القيرواني، وكتاب «تعبير الرؤيا» لابن سينا.

تُستَثمَر هذه المنزلة التي تتنزّل فيها الأحلام عنايةً واهتمامًا، فيتلقّفُها الأدب، ويفرغ الوهراني إلى استثمار شكل الحلم ليؤلِّف قصّة ترتبط بأسبابٍ وأوتاد برسالة الغفران للمعرّي، وبرحلة المعراج، وبالقصص الدائر في فضاء الرحلة الأخرويّة بيانًا لمصائر العباد عقابًا وجزاءً، ويكتب كتابًا في المنامات، ليس له من المنام إلّا إطارَ المنطَلَق، وقولة يستهلّ بها قصّته، «ولقد فكّر الخادم ليلة وصول كتابه إليه في سوء رأيه فيه، وشدّة حقده عليه، وبقي طول ليلته متعجّبًا من مطالبته له بالأوتَار الهزليّة بعد الزمان الطويل، وامتنع عليه النوم لأجل هذا إلى هزيع من الليل.

ثمّ غلبته عينه بعد ذلك فرأى فيما يرى النائمُ كأنَّ القيامة قد قامت، وكأنّ المنادي يُنادي هلمُّوا إلى العرض على اللّه تعالى»، لتبدأ رحلة العبور، وقصّة الآخرة، جمْعًا بين رمزيّة الناثر السّاخر، والمرجعيّة الدينيّة لعوالم العقاب والجزاء، ويعوِّل الوهراني على شكل الحُلم ليفعل بالقصّة ما لا يفعل صاحب العقل، ليُحوّل العقل الأدبيّ حكايةَ الحُلم إلى الحكاية بالحُلْم، أي ليتحوّل من رواية ما يتأتّى على فاقد الوعي، المنغمس في اللّاوعي، من قصص تتهيَّأ له، إلى صناعة قصص واعية يردُّها العاقل المُدرك إلى بنية اللاوعي العميقة.

الحكايةُ بالحلم أداةٌ سنّها القدماء في بحثهم دومًا عن إطارٍ شكلٍ تُغلَّف به الحكاية التي يُريدونها، وأسّسوا بها لأدب في حاجة إلى عنايةٍ هو أدب المنامات، متوزّع في قديم الأدب، في أخبارٍ عديدة، وفي ألف ليلة وليلة، وفي مختلف كتب المنامات، وفي قصص أهل الحال، وفي القصص العقلي الفلسفي، وتوزّع أيضًا في حديث الأدب شعرًا وقصصًا.

ولعلّ من أهمّ أمثلة توظيف الشكل الحلمي في حديث السّرد، «أحلام فترة النقاهة» لنجيب محفوظ، و«حائك اللّيل» لطارق البكري، وقصّة «الجمل يا عبد المولى الجمل» لسعيد كفراوي، التي يُصدّرها بقوله: «في الحلم. يمتطي الصبيّ الجليل «عبد المولى» ظهر الأتان»، و«منامات» لجوخة الحارثي، وغيرها وفيرٌ ممّا توزّع في السّرد العربيّ بشكل جزئيّ أو كلّي. روايةُ الحلم والرواية بالحلم عالمان يدوران في اللاوعي وفي الوعي، اللّغة القصصيّة هي الجامعة بينهما.

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الح ل م ة التی رمزی ة

إقرأ أيضاً:

فيصل الفايز يرعى إشهار كتاب “كيف يصلون إليك”

صراحة نيوز-رعى رئيس مجلس الأعيان، فيصل الفايز، مساء اليوم الاثنين في المكتبة الوطنية، حفل إشهار كتاب “كيف يصلون إليك” للإعلامية والباحثة الأكاديمية سونيا الزغول، والذي يقدم نموذجًا عربيًا مبتكرًا لتنمية مهارات التفكير المضاد للتطرف.

ويستند الكتاب إلى دراسة تحليلية شاملة شملت استبانة ميدانية للطلاب والعاملين في الإعلام، بالإضافة إلى تحليل المناهج المدرسية للعام الدراسي 2025/2024.

وأكد الفايز أن الكتاب يشكل إضافة نوعية لمعالجة الفجوة في مهارات التفكير المضاد للتطرف والإرهاب في وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي، ويدعم الاستراتيجية الوطنية الأردنية لمكافحة الإرهاب والتطرف.

وأشار الفايز إلى أن الكتاب يمثل مشروعًا وطنيًا وفكريًا يقدم أدوات عملية قابلة للتطبيق في التعليم والمجتمع لمواجهة التطرف والإرهاب، ومساعدة الشباب على كشف زيف الخطابات المتطرفة والتصدي لها بالفكر المستنير والمنهجيات العلمية والعملية، داعيًا المؤسسات الثقافية والمجتمع المدني إلى تعزيز قيم الحياة والتمسك بالقيم النبيلة بعيدًا عن العنف والتطرف.

من جانبه، أكد المقدم عمر الخلايلة، مدير الأمن والسلم المجتمعي في مديرية الأمن العام، أن المخاطر الإلكترونية التي تواجه المجتمع اليوم، لا سيما الشباب، تتطلب معالجة واعية، مشيرًا إلى أن ما يواجهه الأردن ليس مجرد حرب عسكرية، بل حرب فكرية تستلزم التوعية والتثقيف.

وأضاف أن مركز مكافحة الفكر المتطرف والإرهاب، الذي تأسس عام 2015، نجح في تعزيز وعي المجتمع ومعالجة الفكر السلبي قبل الوصول إلى أي عقوبة.

كما أشار عميد كلية العلوم التربوية في الجامعة الأردنية، الدكتور محمد صايل الزيود، إلى أن الكتاب يقدم محتوى غنيًا حول كيفية وصول الرسائل الرقمية إلى وعي الأفراد بشكل مؤثر.

مؤكدًا أن وسائل الإعلام الحديثة أصبحت منظومات تأثير فكري وسلوكي تتطلب بناء المناعة الفكرية والقدرة على التمييز بين الحقيقة والتضليل.

وأوضحت مؤلفة الكتاب، الدكتورة سونيا الزغول، أن هذا العمل يمثل ابتكارًا علميًا عربيًا أصيلًا في مجال تحصين الشباب ضد الأفكار الهدامة، ويقدم أدوات عملية لكل أفراد المجتمع الأردني للحد من تأثير التطرف العنيف والإرهاب في الفضاء الرقمي، مع التركيز على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتجارب دولية متنوعة، بهدف تطبيقها في العالم العربي.

واختتم الحفل بحوار تفاعلي أدارته الإعلامي سمير مصاروة، سلط الضوء على محاور الكتاب ومضامينه الفكرية والاجتماعية، واستعرض سيرة المؤلفة ومسيرتها الأكاديمية، كما تضمن مشاركة المتحدثين والضيوف في مناقشة أهمية الوعي الرقمي ودور المؤسسات الوطنية في دعم المبادرات الثقافية والفكرية الهادفة.

مقالات مشابهة

  • بعد إعلانه تمثيل منتخب أمريكا| كيشو يتمرد واتحاد المصارعة يصدمه.. إيه الحكاية؟
  • "تقدَّموا".. مانيفِستو فلسطين يتحدّى الإبادة في كتاب جديد لسميح القاسم من القاهرة
  • ورشة عن «مبادئ التعليق الصوتي» في «كتاب الرياض»
  • سر مؤجل لسنوات.. أبو الغيط يكشف كواليس غامضة عن تأخر نشر كتابَيه
  • ما حقيقة تحذير ترامب في كتاب نُشره قبل 11 سبتمبر من أسامة بن لادن؟
  • مصر بلدى ..كتاب جديد للأطفال للدكتورة رانيا يحيى بالعربية والإيطالية
  • فيصل الفايز يرعى إشهار كتاب “كيف يصلون إليك”
  • من العراق إلى تونس.. قراءة معمقة في بنية الاستبداد العربي.. كتاب جديد
  • لافتات الوهم.. العراق يغرق في سباق انتخابي يبيع الأحلام بالدولار قبل نوفمبر