الأسبوع:
2025-10-16@13:42:04 GMT

من رمزية الحرب إلى مقاهي التفاهة

تاريخ النشر: 11th, October 2025 GMT

من رمزية الحرب إلى مقاهي التفاهة

من رمزية الحرب إلى مقاهي التفاهة

بقلم: محمد سعد عبد اللطيف

كلما أطلّ علينا نتنياهو بوجهه المتجهم، محتميًا بآيات من «سفر المزامير» لتبرير دمارٍ جديد، تذكّرتُ كيف يمكن لنصٍّ دينيٍّ كُتب ليواسي جماعةً مضطهدة أن يتحول في يد السياسي إلى تصريحٍ بقتل الأبرياء. ليست هذه المرة الأولى التي يُستدعى فيها المقدّس إلى ميدان النار.

فالتاريخ في شرقنا القديم، حيث يلتقي الله والسياسة على رقعة واحدة، يفيض بأمثلة عن أنبياءٍ يتحولون إلى جنرالات، وعن كلماتٍ تتبدّل معانيها حين تمر عبر مكبّر الصوت العسكري.

نتنياهو ليس قارئًا متأملًا للتوراة بقدر ما هو موظف في شركة التاريخ الإسرائيلي، يستخرج من النصوص ما يلزم لتبرير الغزو، كما يستخرج محاسب بندًا قانونيًّا من دفترٍ قديم. غير أن المشكلة الأعمق ليست في نصوصهم وحدها، بل في عجزنا نحن عن قراءة نصّنا، أو حتى عن قراءة واقعنا. فبينما يُسخّرون الرمز الديني لبناء خطاب القوة، نحول نحن كل نقاش إلى معركة “بوست” و“لايك”، وكل فكرة إلى شجارٍ افتراضي على مقهى رقميٍّ عابر.

من "الحرب المقدسة" إلى "المنشور المقدس"

العدو هناك يُجنّد التاريخ والرمز والذاكرة في حربٍ شاملة، ونحن هنا نجند بعضنا البعض في حروبٍ من نوعٍ آخر — حروب التفاهة.

في تل أبيب تُدار غرف العمليات بين جنرالاتٍ يقرؤون خرائط القوة والضعف، وفي شوارعنا الإلكترونية تُدار معارك بين “مفكرين” من أصحاب المقاهي الافتراضية، كل منهم يملك فنجان قهوة و"واي فاي" وفتوى إلكترونية.

تحوّل الفيسبوك إلى كنيسةٍ صغيرة، ومجموعة الواتساب إلى منبر خطبة، ومواطنٌ عاديٌّ إلى "إمامٍ ميتافيزيقي" يوزّع صكوك الجنة والنار.

يمنح البركة بمنشور، ويدخل الآخرين النار بتعليق، يسبّ من شاء، ويغفر لمن شاء، ثم ينام راضيًا على وسادته لأنه انتصر في معركة اللاشيء.

لقد صارت السوشيال ميديا مسرحًا للبطولات المجانية، ودفترًا مفتوحًا لتصفية الحسابات الفكرية. الجميع يصرخ، ولا أحد يسمع، والجميع يظن نفسه نبيًّا يحمل رسالة، بينما لا يملك سوى هاتفٍ مكسور وذاكرةٍ منقولة.

ثقافة المقاعد والفرجة

نعيش زمنًا صارت فيه المعرفة وجبة سريعة تُقدَّم على طاولة “التريند”.

تسأل أحدهم عن رأيه في نتنياهو، فيقول لك بثقة: «أنا قريت بوست مهم جدًّا بيقول اليهود دول.. .»، ثم يشرع في تلاوة حكمته المستنسخة من صفحةٍ مجهولة.

تسأله عن طه حسين، فيخبرك أنه “كان عميد فرقة موسيقية”، وعن السد العالي فيقول “ده كوبري”، وعن التاريخ يجيبك بذاكرةٍ تلفزيونيةٍ لا تعرف سوى المسلسلات.

لقد صار الجهل مزهوًّا بنفسه، يرتدي ثوب المثقف الثائر.

يخرج إلينا من تحت أعمدة النور في الشوارع، وعلى مصاطب الزقاق، يتحدث في الفلسفة والسياسة والنقد الأدبي، وكأنه أستاذ جامعي من جامعة السوربون.

يتحدث عن الحرية وهو لا يملك حرية التفكير، وينظّر عن الأخلاق وهو لا يعرف أبجدياتها.

أمّا المثقف الحقيقي، فقد انسحب في صمت. لم يعد له مكان في هذا الضجيج، لأن صوته لا يناسب خوارق "التريند" ولا سرعة البث المباشر. صار الغياب فعل مقاومةٍ هادئ، والكتابة محاولة لإنقاذ ما تبقى من المعنى وسط طوفان التفاهة.

الفارق بين من يقرأ النص ومن يستهلكه

بينما يقرأ الإسرائيلي نصَّه ليصنع واقعًا على الأرض، نقرأ نحن منشوراتنا لنصنع وهمًا في الهواء.

هم يصوغون خطابًا يبرر حربًا حقيقية، ونحن نصوغ حروبًا كلامية حول من يدخل الجنة أولًا: صاحب اللحية أم صاحب الجيتار؟

تتقاتل مجتمعاتنا على فتات الرموز، كل فريقٍ يظن أن الله وُجد فقط في صفّه، وأن الخلاص يمرّ عبر صفحته الشخصية.

لقد انقلبت المعادلة: صار الدين وسيلةً للتهكم، والفكر مسرحًا للشتائم، والسياسة ساحةً للثرثرة.

في حين يستدعي نتنياهو نصوصًا ليبني خطاب القوة، نستدعي نحن التفاهة لنهدم ما تبقى من العقل.

الفلسفة في زمن السخرية

تحدث بول ريكور عن “انحراف الرمز”، لكننا ابتكرنا ما هو أخطر: انحراف الوعي.

لم نعد نحرف النصوص فحسب، بل نحرف عقولنا عن التفكير في أصلها.

نحوّل كل معنى إلى هزل، وكل رمزية إلى نكتة، وكل مأساة إلى “ميم” يتداوله الناس وهم يضحكون، غير مدركين أن الضحك صار غطاءً للخواء.

صرنا أسرى شاشة تبرمجنا دون أن نشعر.

نتألم على الفقراء ثم نمرر الخبر بلمسة إصبع، نكتب عن الحرية ونحن عبيد للموجة، نحارب الظلم بمنشور، وننام قريري العين كأننا أنقذنا العالم.

نمارس البطولة على مستوى التعليق، ونُهزم في ميدان الفعل.

أفيقوا أيها الجالسون على مقاعد العالم الافتراضي

ليس العدو الذي يقصفنا أخطر ممن يجعلنا نضحك على جراحنا.

فمن يملك النص يملك الذاكرة، ومن يملك الذاكرة يملك المستقبل.

أما نحن، فقد تنازلنا عن الاثنين، ورضينا أن نكون متفرجين في عرضٍ طويلٍ من التفاهة.

نحارب بعضنا تحت أعمدة النور، وننتصر على أعدائنا الوهميين على مصاطب الزقاق، بينما يواصل الآخر كتابة تاريخه على جدرانٍ من نار.

يا للعجب، كيف نحارب أنفسنا بجدٍّ، ولا نحارب عدوّنا إلا بالنكات!

-- حرب الرموز والفرجة

الحرب لم تعد اليوم سلاحًا وصواريخ فقط، بل حرب لغةٍ ورمز.

أحيانًا تكون “هاشتاغ” أو “تعليقًا ساخرًا” يقتل المعنى أكثر مما يقتل الجسد.

اليوم لا يخاف الأعداء من جيوشنا بقدر ما يضحكون من منشوراتنا.

لقد تحوّلنا من أمةٍ كتبت الفلسفة وابتكرت البيان، إلى أمةٍ تتفرج على ذاتها وهي تسقط ببطء أمام شاشةٍ مضيئة.

فهل نعيد قراءة نصّنا كما ينبغي؟

أم نظل نحارب في المقاهي وعلى الهواتف، بينما يكتب الآخرون التاريخ باسم الله.. .وبدمنا؟

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

المصدر: الأسبوع

إقرأ أيضاً:

تاشريفت يشرف على إطلاق قافلة رمزية بـ20 ألف علم وطني لتشجيع الخضر

أشرف وزير المجاهدين وذوي الحقوق، عبد المالك تاشريفت، مساء اليوم الثلاثاء 13 أكتوبر 2025، على انطلاق قافلة رمزية محمّلة بـعشرين ألف (20.000) علم وطني من مقر الوزارة، باتجاه ملعب “المجاهد الرمز حسين آيت أحمد” بولاية تيزي وزو.

و تأتي هذه المبادرة الوطنية من طرف وزارة المجاهدين وذوي الحقوق، تزامنًا مع المباراة التي ستجمع يوم غدٍ بين منتخبنا الوطني ونظيره الأوغندي، ضمن الجولة الأخيرة من تصفيات كأس العالم 2026.
وحسب بيان وزارة المجاهدين، فإنه سيتم توزيع الأعلام الوطنية على الجماهير والمناصرين داخل المدرجات، في خطوة رمزية تهدف إلى تعزيز الشعور الوطني لدى الشباب، والتعبير عن الفرحة بتحقيق التأهل إلى كأس العالم، بما يعكس وحدة الجماهير وتلاحمها خلف الفريق الوطني في هذا الاستحقاق.
وتندرج هذه المبادرة، أيضًا في سياق الذاكرة الوطنية، وتعكس الامتداد التاريخي بين جيل نوفمبر المجيد، وأبناء الجزائر اليوم، حيث تلتقي روح الثورة التحريرية مع الروح الرياضية التي تجمع الجزائريين في لحظات الفخر والانتصار.
وأكد المصدر ذاته، أن الراية الوطنية التي ارتفعت في سماء الحرية بدماء الشهداء، ستُرفرف بفخر في مدرجات ملعب “المجاهد الرمز حسين آيت أحمد”، في لحظة وطنية تعبّر عن فرحة الشعب الجزائري وتطلّعه إلى مواصلة الانتصارات والرفعة والسؤدد، ودعمه المستمر لفرسان الجزائر في مختلف الاستحقاقات الدولية.

مقالات مشابهة

  • يانيك فيريرا: نحارب الشائعات ضد الزمالك وأثق في اللاعبين
  • كريم ذكري: شيكابالا اعتزل مجبرًا والزمالك لا يملك بديلًا لدوره
  • مصادر أمريكية و اسرائيلية : تسليم حماس جثة “عميل متنكر” خطوة رمزية لا تمثل خرقاً للاتفاق
  • الجندي يفسر سر اختيار الذهب لوصف نعيم الجنة ويدلل على رمزية اللون الأخضر
  • ‎«الفردة» لكرستينا ملاك.. رمزية الصراع على الحق في محل أحذية صغير
  • دعاء زهران: قمة شرم الشيخ ستُذكر في التاريخ بوصفها نقطة تحول نحو سلامٍ حقيقي في المنطقة
  • حاتم باشات: قمة شرم الشيخ ووثيقة إنهاء الحرب ستسجلان في التاريخ كنقطة تحول في الشرق الأوسط
  • تاشريفت يشرف على إطلاق قافلة رمزية بـ20 ألف علم وطني لتشجيع الخُضر
  • رئيس وزراء باكستان: الاتفاق على إحلال السلام بغزة هو أعظم يوم في التاريخ الحديث
  • تاشريفت يشرف على إطلاق قافلة رمزية بـ20 ألف علم وطني لتشجيع الخضر