هل تنجح الجبل الأسود في تحقيق الاستقرار وسط التحولات الجيوسياسية في البلقان؟
تاريخ النشر: 18th, October 2025 GMT
على ضفاف الساحل الأدرياتيكي وبين 3 دوائر نفوذ متشابكة في منطقة البلقان، تقع جمهورية الجبل الأسود (مونتينيغرو) إحدى أصغر دول أوروبا من حيث المساحة والسكان والتي استقلت عن صربيا عام 2006، وانضمت إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2017.
وتعاني هذه الدولة التي تتمتع بموقع إستراتيجي هام في المنطقة، من انقسامات داخلية حادة حول الهوية الوطنية والانتماء الديني، يغذيها التنافس بين الموالين لصربيا، وقادة النّخب الساعين إلى ترسيخ هوية قومية مستقلة تُسهم في تسريع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وكغيرها من الدول الواقعة في الفضاء البلقاني، تأثّرت الجبل الأسود بالحرب الروسية الأوكرانية، حيث تصاعدت حدة الخطاب الاستقطابي، وتعمقت هشاشة البنية السياسية والأمنية للدولة.
وضمن هذا السياق المتأزم بعوامل داخلية وأخرى خارجية، نشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة حول جمهورية الجبل الأسود تساعد في تفكيك وفهم ديناميات الصراع والتوازن في البلقان.
الورقة التي جاءت تحت عنوان "جمهورية الجبل الأسود في بؤرة التحولات الجيوسياسية في البلقان" أعدها الباحث المتخصص في شؤون البلقان وأوروبا الشرقية كريم الماجري، وحاول فيها استشراف مستقبل البلاد ضمن بيئة إقليمية مضطربة، وأفق دولي يتسم بإعادة رسم الخرائط والتحالفات.
إشكالية الهويةلعدة قرون من الزمن، كانت البلاد منطقة تماسّ وصراع بين النفوذين العثماني والروسي، ثم لاحقا بين التطلعات القومية الصربية والهوية المونتينيغرية المستقلة.
فخلال الحقبة العثمانية تمتعت الجبل الأسود بنوع من الحكم الذاتي، وحاربت قياداتها القومية ثقافة التتريك، واحتفظت بنوع من الاستقلال الإداري والعسكري، مما شكّل أساسا لخطاب قومي يستلهم رموزه من قادة مقاومة الهيمنة العثمانية والهوية الشرقية الإسلامية.
في المقابل، ظل النفوذ الروسي حاضرا بقوة في المجالين السياسي والديني، ولا سيما عبر الكنيسة الأرثوذكسية التي لعبت دورا محوريا في تشكيل الوعي القومي المونتينيغري.
إعلانمع تفكك الإمبراطورية العثمانية وبروز الحركات القومية في البلقان، انخرطت الجبل الأسود في مشروع يوغسلافيا الكبرى، فتوحدت مع صربيا ومناطق أخرى لتشكيل مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين، عام 1918، ثم جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي أعقاب تفكك يوغسلافيا في التسعينيات من القرن العشرين، شكلت الجبل الأسود آخر حليف اتحادي لصربيا، ضمن ما سُمي وقتها بـ"جمهورية يوغسلافيا الجديدة" ثم "اتحاد صربيا والجبل الأسود"، لكن هذا الاتحاد كان هشا منذ بدايته.
ومع صعود تيار قومي مستقل بقيادة ميلو دجوكانوفيتش، بدأت النخبة السياسية في العاصمة بودجوريكا بتوجيه البلاد نحو خيار الاستقلال الكامل، وقد تُوج ذلك باستفتاء عام 2006؛ حيث صوت حوالي 55.5% من السكان لصالح الاستقلال عن صربيا.
أمام هذا الإرث التاريخي، تجد الجبل الأسود نفسها اليوم في وضع متشابك، فهي دولة فتية من حيث الاستقلال، لكنها ذات تاريخ عريق في مقاومة الاحتلال الأجنبي، وفي الوقت نفسه هي حبيسة انقسامات الهوية والموروثات السياسية التي لمّا تُحسم.
بين الغرب والشرقفي عام 2006، دخلت دولة الجبل الأسود مرحلة جديدة باستقلالها عن صربيا وبدأت في الانفتاح على الغرب، وقطع الروابط التاريخية مع بلغراد وموسكو.
وتزامنا مع ذلك، تشكلت النخبة الحاكمة من تحالف يقوده الحزب الديمقراطي الاشتراكي برئاسة ميلو دجوكانوفيتش الذي لعب دورا محوريا في مسيرة الاستقلال والانفتاح على المحيط الغربي.
في السنوات الأخيرة، شهدت البلاد تحولا مؤسساتيا تدريجيا، تَمثل في إصلاح النظام الانتخابي، وتحديث الجهاز القضائي، وتوسيع هامش الحريات السياسية، غير أن هذه العملية ظلت مثقلة باتهامات الفساد والمحسوبية وتسييس القضاء؛ مما حدّ من مصداقية نخبة الحكم الجديدة أمام مواطنيها وأمام المؤسسات الأوروبية، لكن ذلك لم يمنعها من تحقيق نجاح دبلوماسي كبير بانضمامها إلى الناتو عام 2017.
أثارت هذه الخطوة غضب روسيا وامتعاض صربيا، وتزامنت مع محاولات اختراق أمني مكشوفة، أبرزها محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، التي اتُهمت فيها عناصر موالية لموسكو وبلغراد بالتخطيط لإسقاط الحكومة عشية الانتخابات ومنع انضمامها إلى الحلف.
وعلى الصعيد الأمني، سعت الدولة إلى بناء جيش محترف صغير الحجم متوافق مع معايير حلف الناتو، وأولت أهمية متزايدة لمكافحة التهديدات السيبرانية والإعلامية التي يُعتقد أن مصدرها روسيا أو وكلاؤها المحليون.
أما على صعيد العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، فقد كانت الجبل الأسود من الدول المرشحة الأبرز للانضمام منذ عام 2010، وفتحت مفاوضات رسمية في 2012، إلا أن عملية الانضمام شهدت تباطؤا واضحا منذ 2019 بسبب التوترات السياسية الداخلية.
وانعكست الحرب بين روسيا وأوكرانيا على الجبل الأسود، حيث عزّزت الانقسام السياسي والجيوثقافي، وأحيت الأدوار التاريخية للنفوذ الروسي الصربي في البلاد.
اقتصاديا، مثّلت العقوبات المفروضة على روسيا، والانقطاع الجزئي عن بعض الأسواق التقليدية، تحديا اقتصاديا مزدوجا لبودجوريكا، التي تعتمد بشكل كبير على السياحة والتحويلات والاستثمارات الخارجية.
التداخل الجيوثقافي والتنافس الجيوسياسيتصنف العلاقة بين الجبل الأسود وصربيا ضمن أكثر العلاقات تعقيدا وتشابكا، حيث حافظت بلغراد على نفوذ ثقافي وديني قوي في البلاد، مبررة ذلك بوجود أقلية صربية في الدولة التي ظلت جزءا منها لفترات طويلة.
إعلانوهكذا فإن العلاقة بين البلدين ليست علاقة عداء تقليدي ولا تحالف معلن، بل هي مزيج متقلب من التنافس والتداخل والانقسام الداخلي، وتكمن خطورتها في قدرتها على التأثير العميق على الاستقرار السياسي والاجتماعي.
وفي هذا السياق، أصبح موقع الجبل الأسود بالنسبة للدول الكبرى مكانا إستراتيجيا وهدفا لمشاريع النفوذ الغربي والروسي، مع بروز أدوار جديدة لقوى شرق أوسطية وآسيوية تسعى لملء الفراغات.
من جانبها، استخدمت روسيا الطاقة والاقتصاد كوسيلتي ضغط، عبر استثمارات في قطاعات النقل والعقارات، وتحفيز النخب السياسية المناوئة للغرب، أما الاتحاد الأوروبي فيستخدم ورقة الانضمام إليه في أن تكون البلاد الشريك الأول له.
وكانت الولايات المتحدة ترجمت اهتمامها بالبلاد عبر بوابة حلف الشمال الأطلسي الذي انضمت إليه عام 2017، واعتبرته إنجازا جيوسياسيا مهما لواشنطن في وجه موسكو.
وفي ظل التنافس على هذه البلاد وموقعها الإستراتيجي، شكلت الصين حضورها عبر البنية التحتية، كما كثفت تركيا من حضورها في مجالات الثقافة والتعليم والدين.
تُشكّل التحديات الداخلية التي تواجه جمهورية الجبل الأسود قلب المعضلات التي تعوق تقدمها واستقرارها، وأبرز هذه التحديات: الانقسامات العرقية والدينية التي تتوزع بين صرب ومونتينيغريين، وأقليات أخرى مثل الألبان والبوشناق والكروات، إضافة إلى التعددية الطائفية والدينية التي تشمل الأرثوذكس والمسلمين والكاثوليك.
على الجانب الاقتصادي، تعاني البلاد من بطء النمو، وارتفاع معدلات البطالة، واعتماد كبير على قطاعات متقلبة مثل السياحة والتحويلات المالية من الخارج، وتفاقمت هذه الأوضاع مع تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، التي أثّرت على تدفق الاستثمارات والأسواق التقليدية.
في هذا السياق، يُعد التعدد الديني والطائفي في الجبل الأسود عاملا مركزيا في دينامية تشكل الهوية الوطنية، فالكنائس والمساجد، وكذلك الجمعيات الدينية، تشكل أقطابا مهمة في التفاعل الاجتماعي والسياسي.
سيناريوهات مواجهة التحدياتاستنادا إلى هذه المعطيات واستقراء للمتغيرات، يمكن طرح 3 سيناريوهات لمستقبل البلاد لمواجهة التحديات المستقبلية، وهذه السيناريوهات هي:
السيناريو الأول: تعميق الاندماج الغربيويتوقف على نجاح النخبة السياسية في الانضمام للاتحاد الأوروبي، وسيساعد هذا المسار على تشكيل هوية وطنية جامعة تعتمد المواطنة والقيم الديمقراطية، مع تقليل حدة الانقسامات العرقية والدينية.
السيناريو الثاني: الانزلاق نحو الاضطرابات الداخليةيفترض هذا السيناريو تفاقم الانقسامات السياسية والاجتماعية، وتصاعد التدخلات الخارجية، خاصة الروسية والصربية، بما يؤدي إلى حالة من الاضطراب الداخلي قد تتطور إلى أزمات سياسية أو أمنية شديدة.
السيناريو الثالث: الحفاظ على الوضع القائموفي هذا الاحتمال، تبقى البلاد في حالة الاستقرار الهش، قد يشهد هذا السيناريو احتواء نسبيا للصراعات عبر موازنات قوى داخلية وخارجية، لكنه في الوقت نفسه يُبقي البلاد في حالة ضعف واستنزاف مستمر، مع غياب رؤية واضحة لمستقبل مستقل ومستقر.
ويبقى نجاح واحد من هذه السيناريوهات بالذات مرتبطا بعدة عوامل أهمها الإدارة السياسية المحلية، والدعم الإقليمي والدولي.
وبينما يحاول الغرب فرض نموذج يراه مناسبا، تسعى قوى أخرى بينها روسيا إلى استغلال نقاط الضعف من أجل التدخل، وهو الأمر الذي يطيل أمد الأزمات ويعيق فرص الحل.
وهكذا تكون جمهورية الجبل الأسود على مفترق طرق بين الاستمرار في رحلة البناء والاستقلال، والانزلاق نحو دوامة الصراعات التي قد تعيد البلاد إلى مشهد العنف والانقسامات.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات دراسات جمهوریة الجبل الأسود فی البلقان عام 2017
إقرأ أيضاً:
سبيس إكس تنجح في إطلاق الجيل الثاني من ستارشيب
في إنجاز جديد يُضاف إلى سجل شركة سبيس إكس، انطلقت مركبة ستارشيب من الجيل الثاني بنجاح من قاعدة ستاربيس في ولاية تكساس، في الثالث عشر من أكتوبر الجاري، محققة جميع الأهداف الرئيسية التي حددتها الشركة لاختبار الطيران الحادي عشر للمركبة الأضخم في تاريخ الرحلات الفضائية.
ويُعد هذا الإطلاق آخر رحلة للجيل الثاني من ستارشيب قبل الانتقال إلى مرحلة التطوير التالية، التي ستركز فيها الشركة على الجيل الثالث من المركبات فائقة الثقل.
ويأتي هذا الإنجاز بعد سلسلة من الاختبارات السابقة التي واجهت فيها سبيس إكس العديد من التحديات التقنية، فقبل الرحلتين الأخيرتين الناجحتين، تعرضت ستارشيب لانفجارات خلال مرحلة الصعود في الاختبارين السابع والثامن، كما فشلت في نشر حمولتها خلال الاختبار التاسع.
وحتى في المراحل الأرضية، واجهت الشركة صعوبات عندما انفجرت إحدى المركبات خلال اختبار روتيني وهي تستعد للرحلة العاشرة. ومع ذلك، لم تُثنِ هذه الإخفاقات فريق سبيس إكس بقيادة إيلون ماسك عن مواصلة التجارب للوصول إلى هذا النجاح المهم.
الرحلة الأخيرة كانت مختلفة في كل تفاصيلها، حيث اشتعلت جميع محركات رابتور البالغ عددها 33 دفعة واحدة لحظة الإقلاع، دون أي فشل أو فقدان في الدفع، وهي خطوة أساسية لنجاح أي إطلاق. كما تمت عملية فصل المراحل بسلاسة تامة، إذ انفصل معزز سوبر هيفي عن المركبة الرئيسية وهبط في المحيط وفق الخطة المعدة مسبقًا، بينما واصلت ستارشيب رحلتها نحو المدار.
وخلال الرحلة، تمكنت المركبة من تنفيذ تجربة مهمة تمثلت في نشر محاكيات حمولات ستارلينك بنجاح، في خطوة تُعتبر الأولى من نوعها في اختبارات الجيل الثاني. وقد أظهرت البيانات أن آلية فصل الحمولات عملت كما هو متوقع، ما يمهد الطريق لاستخدام ستارشيب مستقبلًا في نقل أقمار ستارلينك الجديدة إلى المدار المنخفض حول الأرض.
أما الجزء الأكثر تحديًا في المهمة فكان أثناء إعادة دخول المركبة إلى الغلاف الجوي، حيث قررت سبيس إكس تعريض ستارشيب لاختبارات قاسية لمعرفة مدى قدرة الدرع الحراري على تحمل درجات الحرارة المرتفعة الناتجة عن الاحتكاك الجوي. وتم تنفيذ مناورة انحرافية قبل دقائق قليلة من دخولها الطبقات الكثيفة للغلاف الجوي، لمحاكاة مسارات الهبوط المستقبلية التي ستُستخدم في البعثات العائدة إلى قاعدة ستاربيس.
وبحسب بيان الشركة، فإن الهدف من هذه المناورة هو تحسين قدرة المركبة على التحكم الذاتي أثناء العودة، وهو عنصر أساسي في خطط سبيس إكس لإعادة استخدام ستارشيب بشكل متكرر، مما سيقلل من تكاليف الإطلاق إلى حد كبير.
وأشارت سبيس إكس إلى أن هذه الرحلة الناجحة تمثل نهاية مرحلة تطوير الجيل الثاني من المركبة، وأن الشركة الآن بصدد التركيز على الجيل الثالث من ستارشيب وسوبر هيفي، والذي من المقرر أن يتضمن تحسينات في التصميم، وكفاءة أكبر في المحركات، ونظام حماية حرارية مطور. وتعمل الشركة حاليًا على تجهيز عدة نماذج جديدة من المركبة والمعزز لخوض سلسلة من الاختبارات الأرضية قبل بدء أولى الرحلات المدارية المنتظمة.
ومن المتوقع أن يُستخدم الجيل القادم من ستارشيب في مهام فضائية حقيقية تشمل نقل الأقمار الصناعية التجارية، وتجارب علمية، وربما رحلات مأهولة في المستقبل القريب. ويأتي ذلك ضمن خطة سبيس إكس الطموحة لجعل المركبة حجر الزاوية في مشروع استكشاف الفضاء العميق، بما في ذلك الرحلات المأهولة إلى القمر والمريخ.
ويؤكد خبراء الفضاء أن نجاح هذا الإطلاق يُمثل نقطة تحول في مستقبل النقل الفضائي، إذ تُثبت سبيس إكس مرة أخرى قدرتها على تجاوز العقبات التقنية وتطوير مركبات قابلة لإعادة الاستخدام بالكامل، وهو ما يُعد أحد أهم أهداف صناعة الفضاء الحديثة.
بهذه الرحلة، تكون سبيس إكس قد اختتمت مرحلة مهمة من تجاربها على ستارشيب، واضعة الأساس لمرحلة جديدة أكثر طموحًا، تقرّب البشرية خطوة إضافية نحو الوصول إلى الكواكب البعيدة بتكلفة أقل وكفاءة أعلى.