صدى البلد:
2025-10-25@13:21:27 GMT

د.هبة عيد تكتب: لا تعاتب الأقدار فكل منع هو حماية

تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT

هناك لحظة يصل إليها الإنسان بعد كثير من السير والتجربة والصمت، يفهم فيها ما لم يكن يفهمه من قبل. يكتشف أن ما ظنه خسارة لم يكن إلا حماية خفية، وما اعتبره ألمًا كان تمهيدًا لطريق جديد، وأن الأقدار وإن بدت غامضة في لحظتها فهي منسوجة بدقة لا تخطئ. لا شيء يحدث عبثًا، ولا تفلت من يد الله تفاصيل العمر مهما ظننا أننا نتحكم بها.

نحن فقط نسير بين ما كان وما سيكون، نحمل من الماضي درسًا، ومن الحاضر اختبارًا، ومن المستقبل يقينًا يتشكل ببطء.

الماضي لا يرحل تمامًا، بل يبقى فينا بقدر ما نتعلم منه. تعود ذكرياته بين الحين والآخر لا لتؤلمنا فقط، بل لتذكّرنا بالطريق الذي قطعناه. في علم النفس تُسمى هذه العودة بالعقل العاطفي، حيث تعود الذكريات مصحوبة بمشاعر أكثر من كونها أحداثًا. ليس الهدف أن نهرب من الماضي أو نمحوه، فذلك غير ممكن، بل أن نفهمه حتى لا يعيد نفسه بأشكال أخرى. فمن تصالح مع ماضيه تحرر، ومن دفنه حيًا عاد إليه في صورة قيد داخلي لا يراه إلا حين يتعثر في خطوات الحاضر.

أما الحاضر فهو اللحظة التي نملكها فعلًا، لكنه أكثر زمن نهمله عندما ننشغل بالبكاء على ما مضى أو الخوف مما سيأتي، فنعبر أيامًا كاملة دون أن نعيشها حقًا. ولكن الحقيقة أن الرضا بالحاضر ليس انسحابًا من السعي ولا تبرير للعجز، بل هو وعي عميق بأن ما نملكه الآن هو ما يناسب مرحلة تكويننا الحالية. علينا أن نؤمن بأن لو كان الخير في غير ما نحن عليه الآن، لكان تغيّر منذ زمن. فالرضا لا يعني قبول الألم، بل تقبله حتى نفهم رسالته. والعمل على تغييره إن كان تغييره ممكنًا. فهو شجاعة صامتة لا ضجيج فيها، وهو الباب الأول إلى سلام النفس وطمأنينتها، لأن من رضي بأقدار الله لم يعد يخاف الغد، ولم يعد يحمل همًّا إلا أن يكون في موضع يحبه الله منه.

وعندما  نرفع أعيننا نحو المستقبل،  الذي نحمله كثيراً فوق طاقته من توقعات. ننسى أن المستقبل ليس وعدًا ينتظرنا، بل نتيجة نصنعها من قرارات اليوم. لا أحد يصل إلى ما يتمنى دون طريق، ولا أحد يحصد دون أن يزرع، ولا أحد يخلق مصيره وهو جالس في مكانه. لكن مع ذلك، علينا أن نترك لله مساحة التشكيل؛ فالأماني وحدها لا تكفي، والأسباب وحدها لا تكفي، وإنما يتحقق الخير حين يتلاقى السعي مع القَدَر في نقطة اسمها “الوقت المناسب”.

وحين نتأمل ما نمر به من منع وتأخير وفقد، ندرك أنه لم يكن حرمانًا دائمًا، بل حماية مؤقتة. تأخرت أشياء كنا نظن أن سعادتنا فيها، ولو جاءت في وقتها لكسرتنا. ابتعد أشخاص تخيلنا أننا لا نقدر على العيش بدونهم، فاكتشفنا أن الله أزالهم ليحمينا من ألم أكبر. أُغلقت أبواب بأيدينا عليها دموع، ثم شكرنا الله بعدها لأن تلك الأبواب كانت تؤدي إلى طرق مظلمة. الزمن يكشف، والأقدار ترشد، والقلب حين يهدأ يفهم.

نحن لا نخسر حين نرضى، بل نخسر حين نُقاوم ما لا نستطيع تغييره. من يؤمن بأن كل ما كتبه الله خير، فإنه يعيش مطمئنًا حتى في قلب العاصفة. ليس لأنه لا يشعر بالألم، بل لأنه يعرف أن وراء الألم معنى، ووراء التأخير ترتيب، ووراء كل قدر يد الله. لذلك لا تعاتب الأقدار، فهي ليست ضدك، بل تعمل من أجلك حتى إن لم تفهم الآن. خذ بالأسباب، وامشِ بثبات، واسعَ بصدق، واترك النتيجة لمن يعلم خفايا القلوب.

فالرضا بأقدار الله دواء القلوب المتعبة، والدعاء هو اليد التي تطرق باب السماء لتفتح الأقدار، فلا يمنع القدر إلا الدعاء، ولا يبدّل الحال إلا يقين المؤمن بأن ما عند الله خير دائمًا، وإن تأخر.

طباعة شارك الإنسان السير والتجربة والصمت خسارة حماية العقل العاطفي

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الإنسان خسارة حماية

إقرأ أيضاً:

من التعاون إلى الشراكة الاستراتيجية| مصر تكتب فصلاً جديدًا في العلاقات مع أوروبا.. حصاد زيارة الرئيس التاريخية لبروكسل

في قاعة بروكسل الفاخرة، حيث الأضواء البيضاء تعكس برودة البروتوكول الأوروبي، وحيث الكلمات تُقاس بالحروف لا بالعواطف، دخلت مصر إلى المشهد الدبلوماسي الأوروبي هذه المرة بثقة مختلفة. لم تكن القاهرة تجلس إلى الطاولة طلبًا للمساعدات أو التفاهمات، بل لتكتب مع القارة العجوز فصلًا جديدًا من العلاقات الدولية عنوانه: "شراكة بثقة.. لا مساعدات بشروط".

كانت تلك اللحظة أكثر من مجرد قمة سياسية؛ كانت تعبيرًا عن تحوّل عميق في موقع مصر على الخريطة الدولية، وتحولٍ في نظرة أوروبا إليها من دولة تحتاج إلى الدعم إلى دولة لا يمكن الاستغناء عنها في معادلة الاستقرار الإقليمي.

من التعاون إلى الشراكة الاستراتيجية

أبرز ما خرجت به القمة هو الإعلان عن تحول العلاقة بين مصر والاتحاد الأوروبي من "تعاون" إلى "شراكة استراتيجية". هذا المصطلح، رغم بساطته الظاهرية، يحمل في جوهره تحولًا نوعيًا في مكانة مصر السياسية والاقتصادية.

فالقاهرة لم تعد مجرد شريك اقتصادي محدود في ملفات الطاقة أو التجارة، بل أصبحت ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ووسيطًا موثوقًا في ملفات معقدة تتعلق بالأمن والهجرة ومكافحة الإرهاب.

وقد عبّر عن هذا التحول رئيس المجلس الأوروبي، أنطونيو كوستا، حين أكد أن "مصر تلعب دورًا محوريًا في تحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية"، وهي شهادة تُترجم تقدير أوروبا لجهود القاهرة خلال السنوات الماضية في إدارة ملفات إقليمية حساسة، أبرزها الوساطة في حرب غزة، وتأمين الحدود الجنوبية، والتصدي للتنظيمات المتطرفة في سيناء والساحل الإفريقي.

4 مليارات يورو.. بين الدعم والاستثمار

من أبرز نتائج القمة أيضًا، الإعلان عن حزمة مالية ضخمة تبلغ 4 مليارات يورو موجهة لدعم الاقتصاد المصري وتعزيز الاستقرار المالي.
لكن هذه الحزمة أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية: هل هي مجرد دعم مالي تقدمه أوروبا لمصر؟ أم أنها استثمار استراتيجي في شريك تراه أوروبا ضروريًا لاستقرار المتوسط؟

البيان المصري كان واضحًا: التمويلات لن تكون منحًا بلا مقابل، بل تُوجَّه إلى مشروعات تنموية محددة مثل الطاقة النظيفة، والهيدروجين الأخضر، والبنية التحتية، وهي قطاعات تخدم الطرفين على حد سواء.
فالطاقة النظيفة تمثل مستقبل القارة الأوروبية، بينما تحتاج مصر إلى استثمارات ضخمة في هذا المجال لتحقيق رؤيتها الاقتصادية حتى عام 2030.

ولعلّ أهم ما يميز هذه الحزمة أنها ثمرة مفاوضات فنية هادئة امتدت لأكثر من عام، استطاعت خلالها الحكومة المصرية أن تضمن عدم ربط التمويل بأي شروط سياسية أو اقتصادية تمس السيادة الوطنية، وهو ما يعكس صلابة الموقف المصري واستقلال قراره.

الإعلام بين زاويتين.. رؤية أوروبية ومقاربة مصرية

الإعلام الأوروبي تناول القمة من منظور مختلف تمامًا عن الإعلام المصري.
ففي حين ركزت الصحف الأوروبية مثل The Brussels Times وThe National على الجانب الاقتصادي ووصفت الحزمة المالية بأنها "صفقة تعاون استراتيجية"، حاولت أخرى كـHeinrich Böll Stiftung تقديم صورة أكثر توازنًا حين قالت إن الهدف هو "تشجيع الإصلاحات ومواجهة الهجرة غير الشرعية".

أما الإعلام المصري فقد ركز على المعنى السياسي للقمة أكثر من الأرقام والمبالغ، مسلطًا الضوء على الاعتراف الأوروبي المتزايد بمكانة مصر الإقليمية والدولية، ونجاحها في فرض حضورها كصوت عقلاني في منطقة مضطربة.

ومع ذلك، يبقى التحدي أمام الإعلام المحلي هو الانتقال من نقل الخبر إلى تحليل الحدث، فالقمة ليست مجرد اجتماع بروتوكولي بل مؤشر على مرحلة جديدة من العلاقات الدولية، تُظهر كيف أصبحت أوروبا بحاجة إلى مصر بقدر حاجة مصر إلى أوروبا، وربما أكثر.

مصر في معادلة الأمن الإقليمي

لم تكن القمة اقتصادية فقط؛ فقد تطرق الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته إلى مفهوم الأمن الإقليمي، مؤكدًا أن "مصر ستظل تعمل من أجل أمن واستقرار المنطقة، انطلاقًا من مسؤوليتها التاريخية تجاه محيطها العربي والإفريقي".

هذه الجملة تختصر فلسفة السياسة المصرية الحديثة:
أن تكون فاعلًا لا مفعولًا به.
فمصر اليوم شريك في صناعة القرار الإقليمي، وليست مجرد طرف متأثر بالأحداث.

وتُدرك أوروبا أن دور القاهرة في ملفات مثل الوساطة بين الفصائل الفلسطينية، وإدارة ملف الهجرة من إفريقيا إلى المتوسط، وتأمين خطوط الغاز والطاقة في شرق المتوسط، يجعل من مصر حجر زاوية في أمن القارة الأوروبية ذاتها.
ومن هنا جاء مفهوم “الشراكة الاستراتيجية” كإطار دائم، وليس اتفاقًا مرحليًا.

مصر الجديدة.. تحول في الخطاب الأوروبي

اللافت في خطاب القادة الأوروبيين خلال القمة كان غياب نغمة الإملاءات التي اعتادت أوروبا استخدامها في الماضي عند الحديث عن ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
هذه المرة تحدث الأوروبيون بلغة أكثر احترامًا وتفاهمًا، وهو ما يُعد نتيجة مباشرة للخطوات الاستباقية التي اتخذتها الدولة المصرية.

فحين أطلق الرئيس السيسي الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان عام 2021، ووجّه الحكومة لدمجها في جميع السياسات الوطنية، كان ذلك جزءًا من رؤية شاملة تُظهر للعالم أن الإصلاح الداخلي مكون أصيل في مشروع الدولة، لا استجابة لضغوط خارجية.

اليوم، تتحدث أوروبا عن “ثقة متبادلة” و“احترام متبادل للمصالح”، وهي عبارات لم تكن تُستخدم في القاموس الدبلوماسي مع القاهرة من قبل.
إنها ثمرة دبلوماسية هادئة لكنها حازمة، نجحت في تحويل لغة الحوار من “وصاية” إلى “تفاهم”، ومن “شروط” إلى “مصالح مشتركة”.

الطاقة والمناخ.. محور جديد للتعاون

في ضوء التحول نحو الطاقة النظيفة، تمثل الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر محورًا رئيسيًا في الاتفاق الجديد بين مصر وأوروبا.
فمصر، بفضل موقعها الجغرافي واتساع أراضيها المشمسة، تملك مقومات أن تكون مركزًا إقليميًا لإنتاج وتصدير الطاقة النظيفة إلى أوروبا التي تبحث عن بدائل لمصادرها التقليدية بعد الحرب الأوكرانية.

ولذلك، تضمّنت الشراكة تمويل مشروعات كبرى للطاقة المستدامة في منطقة قناة السويس والساحل الشمالي، إضافة إلى دعم مشروعات المياه والبنية التحتية التي تخدم النمو الصناعي المستدام.

هذه المشروعات لا تعني فقط استثمارات أجنبية جديدة، بل تحوّل نوعي في الاقتصاد المصري من اقتصاد يعتمد على الموارد التقليدية إلى اقتصاد يعتمد على التكنولوجيا والطاقة المتجددة.

بين الجنوب والشمال.. توازن جديد في العلاقات

قمة بروكسل عكست إدراكًا أوروبيًا متأخرًا بأن الجنوب لم يعد بحاجة إلى المساعدات بقدر ما يحتاج إلى الشراكات، وأن استقرار الشمال بات مرهونًا باستقرار الجنوب.
من هنا جاء الحضور المصري واثقًا ومتماسكًا، يعرض رؤيته من موقع الندّية لا التبعية.

وقد أكد الرئيس السيسي أن العلاقات بين مصر وأوروبا يجب أن تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، مشيرًا إلى أن مصر ليست مجرد بوابة للأسواق الإفريقية والعربية، بل شريك حقيقي لأوروبا في ملفات الأمن والطاقة والتنمية.

شراكة بثمن العزّة

قمة بروكسل لم تكن حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل إعلان ميلاد مرحلة جديدة في العلاقات بين القاهرة وبروكسل. مرحلة تعي فيها أوروبا أن مصر ليست متلقية للدعم، بل صانعة للاستقرار، وأن الحديث معها لم يعد بلغة “المعونات” بل بلغة “المصالح”.

ومع كل ما تحمله الاتفاقيات من تفاصيل مالية وسياسية، يبقى جوهر ما حدث هو تأكيد مبدأ الندية والاستقلال الوطني.
فمصر، بتاريخها وثقلها وموقعها، لم ولن تكون ورقة في يد أحد. إنها دولة تصنع الأحداث وتحدد اتجاهاتها بنفسها، دولة تسير بثقة في طريقها نحو المستقبل، حاملة شعارها الثابت:
"الشراكة بالعزّة.. لا المساعدات بالشروط."

طباعة شارك مصر الاتحاد الأوروبي القاهرة غزة استثمار

مقالات مشابهة

  • من التعاون إلى الشراكة الاستراتيجية| مصر تكتب فصلاً جديدًا في العلاقات مع أوروبا.. حصاد زيارة الرئيس التاريخية لبروكسل
  • ياسمين عبده تكتب: ماذا قال الرئيس السيسي في لحظة الاختبار الأوروبي؟
  • نجاة عبد الرحمن تكتب: مصر في بروكسل.. حين تتحدث الدولة بلسان القوة والعقل
  • منار عبد العظيم تكتب: مصر والرئيس السيسي.. قيادة لا تساوم على المبادئ ولا تتخلى عن الأشقاء
  • خطبة الجمعة غدًا.. حماية الطبيعة عبادة وسلوك حياة
  • العدل: 276 عقوبة بديلة خلال أيلول الماضي
  • من التعاون إلى الشراكة الاستراتيجية.. مصر تكتب فصلًا جديدًا في علاقاتها مع أوروبا
  • هند عصام تكتب: الملك حريحور
  • منى أحمد تكتب: أنوار ولي النعم