صدى البلد:
2025-12-13@16:47:16 GMT

د.هبة عيد تكتب: لا تعاتب الأقدار فكل منع هو حماية

تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT

هناك لحظة يصل إليها الإنسان بعد كثير من السير والتجربة والصمت، يفهم فيها ما لم يكن يفهمه من قبل. يكتشف أن ما ظنه خسارة لم يكن إلا حماية خفية، وما اعتبره ألمًا كان تمهيدًا لطريق جديد، وأن الأقدار وإن بدت غامضة في لحظتها فهي منسوجة بدقة لا تخطئ. لا شيء يحدث عبثًا، ولا تفلت من يد الله تفاصيل العمر مهما ظننا أننا نتحكم بها.

نحن فقط نسير بين ما كان وما سيكون، نحمل من الماضي درسًا، ومن الحاضر اختبارًا، ومن المستقبل يقينًا يتشكل ببطء.

الماضي لا يرحل تمامًا، بل يبقى فينا بقدر ما نتعلم منه. تعود ذكرياته بين الحين والآخر لا لتؤلمنا فقط، بل لتذكّرنا بالطريق الذي قطعناه. في علم النفس تُسمى هذه العودة بالعقل العاطفي، حيث تعود الذكريات مصحوبة بمشاعر أكثر من كونها أحداثًا. ليس الهدف أن نهرب من الماضي أو نمحوه، فذلك غير ممكن، بل أن نفهمه حتى لا يعيد نفسه بأشكال أخرى. فمن تصالح مع ماضيه تحرر، ومن دفنه حيًا عاد إليه في صورة قيد داخلي لا يراه إلا حين يتعثر في خطوات الحاضر.

أما الحاضر فهو اللحظة التي نملكها فعلًا، لكنه أكثر زمن نهمله عندما ننشغل بالبكاء على ما مضى أو الخوف مما سيأتي، فنعبر أيامًا كاملة دون أن نعيشها حقًا. ولكن الحقيقة أن الرضا بالحاضر ليس انسحابًا من السعي ولا تبرير للعجز، بل هو وعي عميق بأن ما نملكه الآن هو ما يناسب مرحلة تكويننا الحالية. علينا أن نؤمن بأن لو كان الخير في غير ما نحن عليه الآن، لكان تغيّر منذ زمن. فالرضا لا يعني قبول الألم، بل تقبله حتى نفهم رسالته. والعمل على تغييره إن كان تغييره ممكنًا. فهو شجاعة صامتة لا ضجيج فيها، وهو الباب الأول إلى سلام النفس وطمأنينتها، لأن من رضي بأقدار الله لم يعد يخاف الغد، ولم يعد يحمل همًّا إلا أن يكون في موضع يحبه الله منه.

وعندما  نرفع أعيننا نحو المستقبل،  الذي نحمله كثيراً فوق طاقته من توقعات. ننسى أن المستقبل ليس وعدًا ينتظرنا، بل نتيجة نصنعها من قرارات اليوم. لا أحد يصل إلى ما يتمنى دون طريق، ولا أحد يحصد دون أن يزرع، ولا أحد يخلق مصيره وهو جالس في مكانه. لكن مع ذلك، علينا أن نترك لله مساحة التشكيل؛ فالأماني وحدها لا تكفي، والأسباب وحدها لا تكفي، وإنما يتحقق الخير حين يتلاقى السعي مع القَدَر في نقطة اسمها “الوقت المناسب”.

وحين نتأمل ما نمر به من منع وتأخير وفقد، ندرك أنه لم يكن حرمانًا دائمًا، بل حماية مؤقتة. تأخرت أشياء كنا نظن أن سعادتنا فيها، ولو جاءت في وقتها لكسرتنا. ابتعد أشخاص تخيلنا أننا لا نقدر على العيش بدونهم، فاكتشفنا أن الله أزالهم ليحمينا من ألم أكبر. أُغلقت أبواب بأيدينا عليها دموع، ثم شكرنا الله بعدها لأن تلك الأبواب كانت تؤدي إلى طرق مظلمة. الزمن يكشف، والأقدار ترشد، والقلب حين يهدأ يفهم.

نحن لا نخسر حين نرضى، بل نخسر حين نُقاوم ما لا نستطيع تغييره. من يؤمن بأن كل ما كتبه الله خير، فإنه يعيش مطمئنًا حتى في قلب العاصفة. ليس لأنه لا يشعر بالألم، بل لأنه يعرف أن وراء الألم معنى، ووراء التأخير ترتيب، ووراء كل قدر يد الله. لذلك لا تعاتب الأقدار، فهي ليست ضدك، بل تعمل من أجلك حتى إن لم تفهم الآن. خذ بالأسباب، وامشِ بثبات، واسعَ بصدق، واترك النتيجة لمن يعلم خفايا القلوب.

فالرضا بأقدار الله دواء القلوب المتعبة، والدعاء هو اليد التي تطرق باب السماء لتفتح الأقدار، فلا يمنع القدر إلا الدعاء، ولا يبدّل الحال إلا يقين المؤمن بأن ما عند الله خير دائمًا، وإن تأخر.

طباعة شارك الإنسان السير والتجربة والصمت خسارة حماية العقل العاطفي

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الإنسان خسارة حماية

إقرأ أيضاً:

انتصار الحبسية.. فنانة تنسج حكايات الماضي في صورة

تتجه عدسة المصوّرة الفوتوغرافية العُمانية إنتصار الحبسية إلى عيون الناس، تبحث عن الحكايات في نظراتهم، عن تاريخ حافل بالذكريات، وكأنها تريد أن تروي سيرة إنسان من خلال تفاصيل حياته اليومية، عاداتهم، تقاليدهم، وموروثهم المادي وغير المادي.

كلُّ لقطة تصنعها ليست مجرد صورة عابرة تُنشر في صفحاتها الافتراضية فحسب، بل تكون بمثابة شهادة على حياة بسيطة، مليئة بالذكريات، وبالقصص التي تحكي حضارة شعب.

انتظار لحظة الالتقاط، اختيار الزاوية، ترتيب المشهد أو التقاطه عفويًا، كلها عناصر ترافقها في رحلتها اليومية مع آلة التصوير التي لا تتوقف عن العطاء، ولو أخذت فترة من الاستراحة.

تقول انتصار: "بعض المشاهد عفوية فعلا، ولكن لا غنى عن صناعة المشاهد، خاصة تلك التي تُحاكي أيام الأسلاف الغابرة والتي عفا عليها الزمن، نصنع المشهد لنوثق برؤيتنا الفنية قدر الإمكان، لنقول: هكذا كانت حياتنا البسيطة الجميلة، وهكذا كانت أمهاتُنا يلبسن، وأطفالنا يتزينون، هكذا كانت البيوت والجدران ذات يوم مضى".

بدأت إنتصار الحبسية رحلتها مع التصوير منذ أيام المدرسة، حين كانت تلتقط الصور باستخدام الهاتف المحمول آنذاك.

تقول مصوّرتنا: "بعد أن اشترت لي والدتي آلة تصوير، بدأت أصوّر حياة الناس والأطفال بشكل خاص، ومع الوقت تعمّقت في هذا مجال التصوير الضوئي وشاركت في مسابقات ومعارض محلية ودولية".

ومع مرور الوقت، قررت أن تحوّل شغفها إلى مهنة حقيقية وتستثمر في موهبتها وشغفها: "من ثم قررت أن أدخل عالم الأعمال لأطوّر نفسي أكثر فأكثر، والحمد لله نسعى دوما لإبراز قدراتنا، وإثبات أنفسنا أمام الآخرين بأن تجاربنا الضوئية تصنع لهم الذكرى الجميلة".

كانت أول تجربة لها بالتصوير الاحترافي في سوق مطرح، حيث شدّها حيوية الناس ومحلات سوق مطرح التقليدية الباقية إلى اليوم، وحَرّك بداخلها شعور بأن لديها ما تُصوّره وتوثقه، في بيئة غنية بالتفاصيل المكانية والحيوية، من تفاصيل معمارية وحياة الناس.

تقول: "كانت أول تجربة لي في سوق مطرح، حيث لفت انتباهي حيوية الناس والأسواق القديمة، وشعرت حينها أنني أريد أن أسجّل هذه اللحظات التي لا تُعَوَّض".

يغلب على انتصار الحبسية ميولها نحو تصوير الحياة اليومية، خصوصا المشاهد المرتبطة بالبساطة والماضي العُماني، لأنها تمنح الصور صدقًا ودفئًا إنسانيًا. تقول: "اللحظات اليومية تكون طبيعية وغير مصطنعة، والناس فيها يكونون على حقيقتهم، هذا يعطي الصورة إحساسًا حيًا وقريبًا للقلب ويحكي قصتهم وثقافتنا العُمانية".

يمكن للمتابع من خلال صورها أن يرى الأم التي تمشط شعر ابنتها خصلة تلو الأخرى، لتتشكل جديلة متقنة تزين رأس الفتاة، أو الحِرَفيةَ القديمة التي ما زالت بعض النساء يفخرن بها وهي تغزل الخيوط، وكل ذلك يصنع لدى المشاهد إحساسًا بالألفة والحنين للماضي الجميل.

تركز إنتصار الحبسية وتصبّ تركيزها على ملامح الأشخاص وتعابير وجوههم، فهي ترى في كل ابتسامة أو عبوس أو نظرة قصصًا كاملة: "أبحث عن ملامحهم وتعابيرهم وقصصهم ومشاعرهم، كل تفصيلة في الوجه تحكي جانبًا من حياتهم". هكذا تعلّل انتصار سبب تركيزها بالملامح. اختيارها بين اللقطة العفوية والمعدّة مسبقًا يعتمد على طبيعة المكان والأشخاص، إذ تقول: "يعتمد الأمر على المكان والأشخاص، بعض اللقطات تكون عفوية وبعضها أصنع تكوينها لأجل المشهد المناسب".

تعتمد إنتصار في أعمالها على كاميرا نيكون 850 وعدسة 24-70، لكنها تؤكد أن الأدوات ليست كل شيء، قائلة: "المهم هو كيف يستخدم الشخص المعدات، فالإبداع لا يقتصر على التكنولوجيا".

يمكن للأداة الجيدة أن تساعد، لكنها لا تستطيع نقل الإحساس والتقنية والعمق البصري الذي يصنعه الفنان بيده وروحه وعينه الحساسة للفن.

مسيرة مصوّرتنا انتصار الحبسية مليئة بالإنجازات، وعضويتُها في الجمعية العمانية للفنون فتحت لها آفاق المشاركات الدولية والمحلية، ونالت عدة جوائز على المستويين، إضافة إلى تكريم من وزارة الثقافة والرياضة والشباب بمناسبة يوم الشباب العُماني.

وتصف مشاركاتها في المعارض المحلية والدولية بأنها "تعزز الخبرة من خلال التفاعل المباشر مع المصورين والمنافسين، سواء داخل السلطنة أو خارجها".

قد يجد الفنان نفسه ذات يوم أنه قدم كل ما لديه، فيصاب بنوع من الإحباط، وذلك الأمر ذاته الذي لامس إحساسَ انتصار الحبسية، فانقطعت عن التصوير فترة من الزمن، إلا أن هذا التوقف لم يكن سوى استراحةَ محارب، استراحةَ فنان أخذ من الإجازة وقتا كافيا لإعادة ترتيب أوراقه. ما يثبت أن الشغف المتحالف مع انتصار لا يزال باقيًا ومشتعلًا، مُتَوقدا بحرارة لا تهدأ، وهو المحرك الحقيقي في رحلتها، فهو يجمع بين الرغبة في التعبير، تحدي النفس، تطوير المهارة، والاحتفاظ بالذكريات.

تقول: "الاهتمام والتفاعل الإيجابي مع التصوير، والفرص الإبداعية المتعددة، والشعور بالإنجاز، كل هذا يسهم في الحفاظ على استمرارية شغفي بالتصوير".

بهذا المزج بين الحس الإنساني والعمق البصري، تحوّل إنتصار الحبسية تفاصيلَ الحياة اليومية إلى لحظات تنطق بالجمال، وتثبت أن الصورة -إلى جانب تعريفها البسيط بأنها "محتوى بين إطار"- فإنها كذلك وسيلة لرواية الإنسان والزمان والمكان برؤية فنية متفردة.

وفي كل معرض تشارك فيه أو مسابقة تُنظَّم، أو جلسة تصوير تُعِدُّ لها، يظل حضورها دليلا على أن التصوير بالنسبة لها لغة تعكس روح الإنسان وعلاقته بأرضه وتراثه، ولغة وافرة بلا كلمات ولا

صوت.

مقالات مشابهة

  • الوقاية الدينية والصحية.. حماية المجتمع تبدأ من الداخل
  • إلهام أبو الفتح تكتب: المناظرة الكبري
  • د. هبة عيد تكتب: نعيب زماننا والعيب فينا
  • اسماء عبدالعظيم تكتب: «حين سبقنا التطوير.. ونسينا الإنسان»
  • انتصار الحبسية.. فنانة تنسج حكايات الماضي في صورة
  • ياسمين عبد العزيز تعاتب منى الشاذلي: "عايزة أتكلم براحتي
  • د. إيمان شاهين تكتب: اتيكيت التعامل بين الأزواج في الإسلام
  • الدفاع المدني بغزة يُنفذ 270 مهمة خلال الأسبوع الماضي
  • الفنون تكتب مقاومة جديدة للعنف الإلكتروني ضد المرأة
  • شروط نتنياهو تكتب الفشل للمرحلة الثانية في غزة