د. هبة عيد تكتب: نعيب زماننا والعيب فينا
تاريخ النشر: 13th, December 2025 GMT
نعيب زماننا والعيب فينا.. جملة تبدو للوهلة الأولى شكوى عابرة، لكنها في الحقيقة مفتاح لفهم الكثير من الفوضى التي نعيشها. نحن نميل دائمًا لأن نُخرج أنفسنا من دائرة المسؤولية، فنلوم الزمن والناس والظروف، ونتجاهل أن كثيرًا مما نُعاتب عليه الأيام هو في الأصل صدى لقرارات صنعناها نحن، ولمواقف سكتنا عنها، ولوجوه عرفنا زيفها ولم نواجهها.
ومن أكثر ما نشكو منه اليوم هو النفاق… ذلك الوجه الذي يتلوّن كالماء، ينساب في كل اتجاه، ويبحث عن المنافع لا عن المبادئ. نراه في بعض المكاتب، في العلاقات، في المجاملات، وفي المواقف التي تتبدّل بسرعة البرق. نرى من يبتسم اليوم لمن كان بالأمس موضع سخرية، ومن يرفع راية الولاء لمن تولّى فقط لأن "المشهد تغيّر". ونسمع دائمًا ما يشبه المسرحية القديمة: "عاش الملك… مات الملك".
مواقف تتغير لا بدافع فهم جديد، ولا ضوء ظهر، بل بدافع المصلحة الخالصة، التي ما إن تتبدّل حتى يتبدّل معها وجه أصحابها.
والأغرب… أن كثيرًا ممن يمارسون هذا التلوّن هم أوّل من يهاجم النفاق في كلامهم! ينتقدونه في المجالس، ويشجبونه في أحاديثهم، وكأنهم غير معنيين به، وكأن العيب في الزمن نفسه لا فيهم.
لكن…ورغم هذا كله، ورغم ضجيج الوجوه المتعددة، فإن الخير لم يغِب. الخير ما زال موجودًا، يلمع في النفوس التي لم يفسدها التقلّب، وفي القلوب التي ترفض الكذب مهما كان مغريًا، وفي الذين لا يغيرون مبادئهم بتغيّر الناس. الخير ما زال في أمة محمد ﷺ، باقٍ كما وعد الله ورسوله، حتى وإن خفتَ صوته أمام ضوضاء المصالح.
هناك من يختار الثبات، حتى لو سار وحده. هناك من يرفض أن يقف مع "الناس الخطأ" حتى لو كان صفهم أطول. هناك من يعرف أن الحق أحيانًا يحتاج إلى من يحمله، لا إلى من يُصفّق له.
ونحن حين نلوم الزمن، ننسى أن الزمن لا فعل له… الزمن لا يتآمر، ولا يخطط، ولا يتلوّن. الناس هي التي تتغير، والقلوب هي التي تنقلب، والمواقف هي التي تضعف أو تقوى.
وما الزمن إلا مرآة… تعيد لنا ما وضعناه أمامها.
ولو امتلك كل واحد منا شجاعة الاعتراف، لبدأ التغيير من أقرب نقطة: من الداخل. من تلك المساحة التي لا يراها أحد إلا الله والضمير.
حينها نكتشف أن كثيرًا مما نشتكي منه اليوم ليس خطأ الدنيا، بل خطأ التهاون، وخطأ الصمت، وخطأ المجاملة في مواقف كان يجب أن نقول فيها "لا". ونكتشف أيضًا… أن الخير أقوى مما نظن، لكنه فقط أقل صخبًا.
ولأن الصدق لا يعلو صوته، لكنه لا يسقط… يبقى أثره، ويبقى معه وعدٌ جميل بأن الحق لا يضيع ما دام له أهل يحملونه.
وفي النهاية، لا توجد كلمات تختم هذه الحقيقة أجمل من أبيات الإمام الشافعي التي صاغ بها خلاصة الحكمة كلها:
نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا
وما لزمانِنا عيبٌ سِوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغيرِ ذنبٍ
ولو نطقَ الزمانُ لنا هجانا
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الحقيقة الفوضى المسؤولية قرارات
إقرأ أيضاً:
اسماء عبدالعظيم تكتب: «حين سبقنا التطوير.. ونسينا الإنسان»
في السنوات الأخيرة تغيّر شكل التعليم عندنا، تبدّلت المناهج، وتقدّمت التكنولوجيا، وظهر ما يسمّى بالمنظومة الحديثة، لكن شيئًا واحدًا لم يتغير… الإنسان. فالطفل الذي لم يُهَيّأ، والمعلم الذي لم يُدرَّب، ووليّ الأمر الذي فوجئ بما لا يفهمه، جميعهم وجدوا أنفسهم داخل تجربة أكبر منهم، تجربة تبدو متطورة على الورق لكنها متعبة على الأرض.
أردنا أن ندخل التعليم عصر الحداثة قبل أن نُدخل الإنسان نفسه في التجربة. أردنا أن نلحق بالعالم بينما نسينا أن الخطوة الأولى تبدأ من الداخل، من النفس، من التربية، من الوعي الذي يسبق كل تطور. وهكذا أصبح المشهد مضطربًا، كمن يبني بيتًا بأدوات ذهبية على أرض غير ممهدة… فيبدو البيت جديدًا، لكنه لا يصمد.
لم تكن المشكلة في الكتب ولا في الامتحانات ولا في شكل الفصول. المشكلة كانت في الفلسفة. يوم قررنا أن نغيّر طريقة التعليم بينما تركنا التربية تتآكل بصمت. المعلم الذي كان قدوة أصبح منهكًا، يواجه نظامًا لا يعرف كيف يحتويه. والطالب الذي كان يدخل المدرسة ليبحث عن معنى أصبح يدخلها ليواجه قلقًا لا يعرف سببه. ووليّ الأمر الذي كان سندًا أصبح يسير في طريق لا يرى بدايته ولا نهايته.
سقطت التربية قبل أن يسقط الدرس، وتاه التعليم لأنه فقد بوصلته. فما قيمة العلم إذا غابت عنه الروح؟ وما فائدة التطوير إذا دخل الطفل المدرسة حاملًا خوفًا بدلًا من شغف؟ وما جدوى المنظومة الحديثة إذا كان الإنسان القديم لم يُعَدّ لها بعد؟
التعليم ليس سباقًا في تغيير المناهج، ولا استعراضًا للأجهزة، ولا ضوءًا يلمع فوق منصة. التعليم هو الإنسان، وهو القلب الذي يحتضن الفكرة قبل أن تصل إلى العقل، وهو السلوك الذي يتربى قبل أن تُفتح أول صفحة في الكتاب. التعليم رحلة أخلاقية قبل أن يكون رحلة معرفية، وهو بناء للضمير قبل بناء الدروس.
إن خسارتنا الكبرى اليوم ليست في مستوى التحصيل ولا شكل الامتحان، بل في أننا نُخرج جيلًا يعرف الكثير ولا يشعر بشيء. جيلًا يحفظ المعلومات لكنه لا يعرف كيف يضعها داخل ضمير حي، ولا كيف يرى الإنسان قبل المادة، ولا كيف يفهم أن العلم رسالة وليس عبئًا.
وبداية الإصلاح لن تأتي من تعديل المناهج، بل من إعادة الروح إلى الإنسان نفسه: معلم يشعر بقيمته قبل أن يُطلب منه العطاء، وطفل يجد من يفهمه قبل أن يحاسبه، ووليّ أمر يعرف الطريق بدلًا من أن يسير فيه معصوب العينين. نريد مدرسة تُعيد تشكيل النفس قبل شرح الدرس، وتزرع الأخلاق قبل أن تقدّم المعلومة، وتُعيد للتربية مكانتها التي كانت أصل كل شيء.
وعندها فقط… حين يعود الإنسان إلى قلب العملية التعليمية، سيصبح الطريق واضحًا، وسيعود التعليم كما يجب أن يكون: بناءً للعقل، وتزكيةً للروح، وتأهيلًا لجيل يعرف أين يقف… وإلى أين يسير.