غزة .. أنقاض تصرخ بالحياة وكرامة شعب لا تنتهي!
تاريخ النشر: 26th, October 2025 GMT
في غزة، عندما يختلط الغبار بأنين الناجين من هول الحرب والموت وعذابهما، تصحو المدينة على صوت الركام قبل أن يظهر أول خيوط النهار عليها، وتكتب الحجارة فصلا جديدًا من حكايةٍ لم تنتهِ بعد، رغم ما جاء من تباشير سلام ظن الغزيوين أنها نهاية المأساة والمعاناة، فمن تحت الأنقاض تخرج الهمسات ثقيلةً كأنها تنهيدة الأرض، ومن بين الغيوم المتخمة بالدخان ترتفع الأصوات لتقول: إن غزة، رغم الألم، ما زالت على قيد الروح والحياة، هناك فقط، لا يعلو صوت فوق صوت الدمار، ولا رائحة تفوح غير رائحة البارود وفي العيون ضوء صغير لا ينطفئ.
وجع العمر المهدور
«دمار، دمار لا يوصف» تقول علا كساب الأرملة وهي تمسك طرف وشاحها الممزق كأنها تحاول أن تضمَّ ما تبقّى من عمرها، تقف أمام بيتٍ صار رمادا بعد أن كان ملاذا من تعب الأيام، ورهق المعاش والحياة، وتتحدث عن آمال ضاعت فضلا عن أرواح قتلت، وكيف أن مدَّخر العمر صار ذكرى عابرة في رمادٍ لا ينتهي.
تضيف خلال حديثها لـ«عُمان»: «قصارانا في بناء دارنا، ودارنا قد سويت بالأرض»، تقولها هكذا كلمات وكأنها تحاكم السماء، لم يعد لها مأوى غير خيمة تنتظرها في العراء، ولا تدري كيف يقيمون بها وهم أسرة كبيرة، ولا سند سوى وجه الله «أنا أرملة، وليس لي أحد، فأين نذهب؟»، حرقة وألم وتسأل والدمع يسيل هطالا من عينيها، كان البيت عالمها، واليوم العالم كله صار خرابا.
الناجون من تحت الخراب
عمر أسامة، من حيّ الصبرة شرق غزة، لقد كتب الله له عمرا جديدا بعد أن أخرج محمولا على الأمل بعد أن ظنه الجميع شهيدا، يقول بصوتٍ واهنٍ ولكنه مفعم بالإيمان: «خرجت أسدا من تحت الحطام، وقالوا استُشهد، ولكن الله كتب لي عمرا جديدا» إذ لم يتبقَّ جدارٌ قائم في هذا الحي المنكوب.
يروي قصته بحزن شديد لـ«عُمان»: «كنت أنا وزوجتي وتسعة من أولادي، انهار السقف علينا، وانقطع النفس، لكن الله نجانا».
ثم يضيف: «الحمد لله على كل حال، إننا ما زلنا ثابتين، لا شيء يكسر عزيمتنا؛ لأن الغزي لا يُكسر، حتى لو دفنوه ألف مرة».
مدينة النزوح الذي لا ينتهي
في شوارع الزوايدة، تتكرر المشاهد نفسها. النساء يحملن بقايا الأثاث على أكتافهن، والأطفال يجرّون ألعابا بلا أذرع. تقول خلود عاشور سيدة خمسينية وهي تتكئ على عصاها: «نزحنا غير مرة، وذهبنا إلى البحر، وحطموا الخيام، فلا مأوى».
تصف النزوح وكأنه رحلة في داخل دائرة مغلقة؛ كل طريقٍ يؤدي إلى دمارٍ جديد. ولا عزاء لأحد «حاولنا؛ لكي نلقى مكانا آمنا، ولكن عبثا، الأرض كلها وجع وألم ومعاناة واحدة»، تقولها لـ«عُمان» وهي تحدق إلى الأفق كمن يبحث عن ملاذ في السماء.
وفي غزة لم يعد ثمة مكان يوصف بأنه مكان ويمكن وصفه بـ«المنزل»، بل سلسلة من الممارِّ المؤقتة، بيوت من خيام، وأحلام معلقة على خيط الرجاء. ولسان حالهم يقول: يا وجعي، ويا وجع الحياة حينما تكابدها المحن!!!.
الذاكرة المحروقة
البيوت التي كانت أحلاما صارت اليوم أطلالا. والشوارع التي ضجّت بالحياة صارت مقابر صامتة. هكذا كل شيء تغير في عزة. وتقول ابتسام سمير إحدى الناجيات: «صُدمنا إذ رجعنا بعد الهدنة، بل وجدنا الحياة معدومة. لم نصدق أعيننا. الدمار بكل زاوية».
في بيتها الذي صار كومة حجارة، تبحث عن ذكرى، عن صورة أو قطعة ثوب لطفل لم يعد. تقول: «صرنا نحفر بأيدينا في الحجارة، لعلنا نجد ما يذكرنا بما كنا عليه».
ذلك البحث العبثي عن شيءٍ من الماضي ليس إلا محاولة لإنقاذ الذاكرة من الموت، لأن الذاكرة في غزة هي آخر ما يمكن أن يُقصف. فهنا حياةٌ تولد من الرماد رغم كل شيء، الحياة في غزة لا تعرف الاستسلام. الأطفال يجمعون الحجارة ليصنعوا منها ملعبا، والنساء يزرعن فوق الركام نبتة نعناعٍ صغيرة كأنها إعلان تحدٍّ صامت.
يقول أشرف فاضل: «نزرع لأطفال غزة، نزرع لعجائزها، نزرع للغزيين العُزل، لأننا نؤمن أن البذرة تكسر الحديد»، ويثبت الله أهل غزة بالقول الثابت. هذا الإصرار على الحياة وسط الدمار هو المعجزة اليومية التي تجعل غزة تختلف عن أي مكان في العالم.
فيها الموت عابر، لكن الكرامة مقيمة بين الألم والإيمان. كل مشهدٍ في غزة يحكي تناقضا بين اليأس والرجاء. الناجون يحملون صور أحبّتهم تحت الردم، والعيون تمتلئ بالدموع، لكن الألسنة لا تكف عن قول: «الحمد لله».
«نحن الشهداء الأحياء»، يقول أشرف. ثم يضيف: «ونحن الأموات، لكن نسأل الله أن يصبرنا حتى نكمل طريقهم». في هذه الكلمات تلخيص لفلسفة الغزيين في مواجهة المستحيل؛ فهم لا يعيشون ليبقوا فقط، بل ليشهدوا أن الكرامة أغلى من السلام الزائف. إن ما يجري في غزة ليس حدثا محليا، بل اختبارٌ لأخلاق العالم، ولضمير أمة لطالما ادعت الانتماء إلى العدل.
كل قذيفة تسقط.. يسقط معها قناع الصمت
وفي كل مرة تنهض المدينة من تحت الركام، تذكر العالم بأن البقاء ليس مصادفة، بل إيمان متجذر في ترابٍ لم يعرف الخنوع.
«غزة ليست وحدها»، يؤكد مصعب أبو جزر ثم يضيف لـ«عُمان»: «كل من بقي له قلب، فهو فيها، يحيا بحياتها ويموت لأجلها، إنها غزة الأبية».
حين يصبح الصبر وطنا
غزة لا تموت لأنها لا تحيا بحرق البيوت ودمارها، وفي النهاية، لا يمكن عدها بعدد البيوت المهدمة، ولا بعدد الشهداء، بل بعدد القلوب التي ما زالت تنبض رغم الألم والخراب والدمار لأن كل زاوية من هذه المدينة تروي شهادة من دم وصبر وأمل لا يكسر.
في غزة، يتعلم الناس أن الحياة لا تمنح، بل تنتزع من بين أنياب المستحيل. قد تدك البيوت، ويسوى بها الأرض، وقد تضيع المدن، لكن الكرامة تبقى عنوانا ثابتا على بوابة البحر. هنا في قلب الدمار، ولدت الحياة مجددا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لـ ع مان من تحت فی غزة
إقرأ أيضاً:
خلافات قديمة تنتهي بجريمة قتل في كفر البتانون بالمنوفية
شهدت قرية كفر البتانون التابعة لمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية، جريمة قتل مأساوية راح ضحيتها شاب يبلغ من العمر 17 عامًا، إثر مشاجرة مع زميله فى العمل بسبب خلافات سابقة بينهما.
تلقى اللواء علاء الجاحر، مدير أمن المنوفية، إخطارًا من مأمور مركز شرطة شبين الكوم يفيد بمصرع الشاب "أ.م.ا" 17 سنة، بعد تلقيه طعنة بخنجر في البطن على يد زميله فى ورشة يعملان بها.
وعقب تقنين الإجراءات، نجحت وحدة مباحث شبين الكوم في ضبط المتهم والسلاح المستخدم في الجريمة، كما تم القبض على نجل عم المتهم لمشاركته في الواقعة، وبمواجهته، أقر المتهم بارتكاب الجريمة بسبب خلافات سابقة بينهما، وتم تحرير المحضر اللازم بالواقعة، وأُخطرت النيابة العامة التي تولت التحقيقات.