على طريقة الكثير من الأنظمة التي سلكت المسار الديمقراطي في البداية ثم "خلّلت" في الحكم، استولت مجموعة من الضباط العسكريين، الأربعاء الماضي، على السلطة في الغابون، بعد دقائق عدة على إعلان فوز الرئيس المخلوع علي بونغو بفترة رئاسية ثالثة.
هذا الانقلاب سبقه آخر قبل شهرين في دولة النيجر التي أطاح عسكريوها بالرئيس محمد بازوم، وخرجوا إلى شاشات التلفزيون لشرعنة انقلابهم بالقول: إنه جاء نتيجة فساد ورشاوى وتدهور الوضع الأمني وسوء الأداء الحكومي.
خارطة الانقلابات في القارة الإفريقية كثيرة وتتجاوز المائة منذ خمسينيات القرن الماضي، والسبب يتعلق بعوامل كثيرة، أبرزها التركيبة السياسية والعسكرية للبلاد، وضعف وغياب الديمقراطية، وتداخل السلطتين التشريعية والتنفيذية، والتعدي على المال العام.
العامل الأهم يتصل بتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وغياب الأمن والأمان، وتحول الكثير من الدول الإفريقية إلى حواضن لتنامي الحركات المتمردة، يتبع ذلك عدم قدرة الحكومات على تأمين الحد المعقول من الاحتياجات المطلوبة لمواطنيها.
ومع كثرة هذه الانقلابات، بدا أنها مختومة باسم القارة الإفريقية، وبدا أن شعوب هذه القارة
متصالحة مع مسألة الانقلابات والتمردات العسكرية، خصوصاً أنها تلمس الضعف في الحكومات القائمة، ومرحبة لفكرة التغيير من أي باب يأتي.
وعلى الرغم من توقيع الدول الإفريقية على بروتوكول العام 2002، يُمكّن الاتحاد الإفريقي من التدخل للجم الحركات الانقلابية، إلا أنه لم يكن فعّالاً بالشكل الكبير، وحتى هذه اللحظة لم يتمكن الاتحاد الإفريقي من فعل أي شيء في النيجر سوى تعليق عضويته ورفض أي تدخل دولي خارجي.
في هذا الإطار ثمة مقاييس قد تبدو غير منطقية بالنسبة للغرب، لكنها كافية ومقنعة بالنسبة للكثير من الشعوب الإفريقية. الدول الأوروبية مثلاً ترى أن السبيل الوحيد لتعزيز الديمقراطية عبر التداول السلمي والفصل بين السلطات. وتجد في التطاول على الديمقراطية غياباً لكل مظاهر الأمن والذهاب نحو الدولة الفاشلة ولا تسامح مع العابثين والمتمردين مهما حصل. في الجهة الأخرى تتفق الشعوب الإفريقية مع الغرب على أن الديمقراطية هي الخيار الأمثل لتحقيق الأمن والرخاء السياسي والاقتصادي.
لكن برأي الشعوب الإفريقية أن التمسك بالسلطة إلى أجل غير معلوم، وتزوير إرادة الشعب بنتائج انتخابات مزيفة، والأهم ذهاب الكثير من المواطنين إلى قاع الفقر السحيق، كل ذلك يجعل التمرد على السلطة الحاكمة أمراً مقبولاً لدى تلك الشعوب وحتى من جانب الكثير من النخب السياسية الإفريقية.
هذا لا يعني أن الغابون وقبلها النيجر وبوركينا فاسو وغينيا التي حصلت فيها انقلابات عسكرية خلال العامين الماضيين ستحقق الأمن والأمان، وستعيد البلاد فوراً إلى المسار الديمقراطي، إلا أنها حققت الشرط الرئيس لدى الشعوب الإفريقية بمسألة تغيير الأنظمة السياسية المُجرّبة.
بالتأكيد إصبع الاتهام دائماً موجه إلى الدول الاستعمارية، وتحديداً فرنسا التي استنزفت وتستنزف إلى هذا اليوم كل خيرات الدول الإفريقية التي استعمرتها من قبل، وقادة الانقلاب في النيجر وبوركينافاسو تحدثوا من قبل عن الدور الفرنسي حتى هذه اللحظة في سرقة ثروات دولهم.
كذلك لا تعفى روسيا من دورها الخفي في دعم الحركات الانقلابية وسط وغرب إفريقيا، ويلحظ أنها تحاول تعظيم دورها في القارة السمراء على حساب النفوذ الفرنسي، وهذا مرتبط بالصراع الجاري بين روسيا وأوكرانيا والتدخل الأوروبي في المسألة الأوكرانية.
الغابون ليست الدولة الأخيرة التي يستولي فيها العسكر على مقاليد الحكم، إذ من غير المستبعد أن تشهد القارة الإفريقية تمردات جديدة على السلطة، في إطار موجة استفادة الحركات الانقلابية من السخط الشعبي على الأنظمة الحاكمة.
أساساً أحد أهم مظاهر نجاح الحركات الانقلابية يتصل بممارسة الأدوات الإكراهية أو ركوب موجة الغضب الشعبي من الأنظمة السلطوية الحاكمة، وما تشهده دول القارة السمراء هو ترحيب المواطنين بأي نتائج تزيح قادة الحكم عن بيوتهم العاجية.
وبصرف النظر عن ممارسة هذه الأدوات، واعتبارها غير شرعية ودستورية، ينبغي التأكيد على أن أي نظام حكم مولود من رحم الديمقراطية لا يعترف بأحقية المواطن الإفريقي في التنعم بثروات بلاده وتحقيق الشفافية والعدالة الاقتصادية، ولا يحترم الآخر ويقبل بالتداول السلمي للسلطة، هو نظام فاشل، ومصيره مرتبط بما يجري الآن على الساحة الإفريقية.
موسم الانقلابات في إفريقيا لن ينتهي في ظل غياب القانون والفوارق الطبقية، ومصادرة ثروات الشعوب على حساب فئات ضيقة، وهو لن ينتهي مع عدم الاهتمام الدولي بالتنمية الشاملة في القارة السمراء ومساعدتها على تجاوز العثرات الاقتصادية تحديداً.
كذلك لن ينتهي مع روسيا الدولة الطامحة لتوسيع نفوذها في القارة الإفريقية، والتي تستفيد من السمعة السيئة للحقبة الاستعمارية الأوروبية على القارة السمراء، وستفعل موسكو المستحيل لشيطنة الدول الغربية وإضافة أصدقاء أفارقة إلى خارطة نفوذها الدولي.
(الأيام الفلسطينية)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الغابون النيجر النيجر أفريقيا الغابون مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القارة الإفریقیة الشعوب الإفریقیة القارة السمراء الکثیر من فی القارة
إقرأ أيضاً:
نعم للترانسفير.. انهيار الديمقراطية وصعود خطاب الإبادة الدينية بإسرائيل
القدس المحتلة- قبل عقدين من الزمن، وضع الحاخام يتسحاق غينزبورغ، الأب الروحي لحركة "شبيبة التلال" الاستيطانية، تصورا أيديولوجيا يسعى إلى تقويض النظام الديمقراطي في إسرائيل، وإقامة حكم ديني يستند إلى تفوق اليهود على كامل أرض فلسطين التاريخية، وتهجير الفلسطينيين بالقوة.
الآن، وبعد "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتصاعد نفوذ التيار الديني القومي المتطرف داخل إسرائيل، يبدو أن هذه الرؤية أصبحت أقرب من أي وقت مضى إلى التحقق، وفق ما كشفه تحقيق موسع نشرته صحيفة هآرتس.
ويشير التحقيق إلى أن التحولات التي شهدتها إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 تعكس تقدما ملحوظا في تنفيذ مشروع إقصائي متطرف، تتجلى ملامحه في مختلف مؤسسات الدولة.
بأوامر التوراةففي المشهد الإعلامي، تخلَّت المؤسسات الإسرائيلية عن مبادئ "التوازن المهني"، وتبنت خطابًا تحريضيًا قائمًا على الانتقام، مما رسخ مشاعر الكراهية والتحريض على العنف.
في حين لعب القضاء دورا فعالا في إضفاء الشرعية القانونية على سياسات حرب الإبادة في غزة، إذ صادق قضاة -ينتمي بعضهم إلى المستوطنين وتيار الصهيونية الدينية- على قرارات تمنع إدخال المساعدات الإنسانية، وذهبوا إلى حد وصف العدوان بأنه "حرب توراتية".
إعلانوفي قطاع التعليم، تزايدت مؤشرات التوجه نحو خطاب قومي ديني متشدد، ويتم فصل المعلمين الداعين إلى المساواة، ويلقن الطلاب مفاهيم تقوم على التطهير العرقي وتبرير الإبادة الجماعية.
وأعد التحقيق شاي حيزكاني، أستاذ التاريخ والدراسات اليهودية في جامعة ميريلاند، وتامير سوريك، أستاذ التاريخ في جامعة ولاية بنسلفانيا، ويتكامل عمل الباحثين في هذا التحقيق ليقدما قراءة جديدة ومتكاملة لحقبة مفصلية من التاريخ الفلسطيني، تجمع بين التحليل الوثائقي والتأريخ.
واعتمد التحقيق على استطلاع رأي أُجري في مارس/آذار الماضي، لصالح جامعة ولاية بنسلفانيا، وشمل عينة تمثيلية من 1005 يهود إسرائيليين، وأظهرت النتائج تحولا مقلقا نحو دعم خطاب ديني متطرف يدعو إلى التهجير والعنف الجماعي ضد الفلسطينيين.
وحسب نتائج الاستطلاع، فإن 82% من المشاركين أيدوا الترحيل القسري لسكان قطاع غزة، و56% أيدوا طرد الفلسطينيين من داخل أراضي 1948، و47% وافقوا على تكرار ما تعرف بـ"مجزرة أريحا التوراتية" عبر تنفيذ إبادة جماعية عند اقتحام المدن الفلسطينية.
ويظهر الاستطلاع أن 65% قالوا إن هناك "تجسيدا معاصرا" للعدو التوراتي المعروف بـ"العماليق"، و93% من هؤلاء أكدوا أن وصية "محو العماليق" لا تزال سارية حتى اليوم.
تفكيك القشورولم يكن خطاب الحاخام غينزبورغ منذ البداية تنظيريا فقط، فمنذ عام 2005، دعا علنا إلى تفكيك ما سماها "قشور الدولة"، أي المؤسسات العلمانية الإسرائيلية، باعتبارها عوائق أمام تطور "الشعب اليهودي" في أرضه.
واستلهم غينزبورغ من "القبلانية" (القبالة)، وهي معتقدات وشروحات روحانية فلسفية تفسر الحياة والكون والربانيات، تصنيفا روحانيا يقسم الدولة إلى 4 "قشور" أو طبقات يجب كسرها، وهي الإعلام، والقضاء، والحكومة، والجيش.
إعلانويؤمن أن الثلاثة الأولى يجب تدميرها بالكامل، أما الجيش، فهو "قشرة صالحة للأكل"، يمكن إصلاحه عبر التخلص من "القيم غير اليهودية" التي تمنعه من ممارسة القتل وفق التوراة.
وقدم غينزبورغ مبررات دينية واضحة للقتل الجماعي، مشيدا بمرتكبي مذابح مثل باروخ غولدشتاين، الذي نفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل.
واعتبر أن الوقت قد حان لظهور "كسارة البندق"، وهو شخص يهودي بسيط تقوده رغبة بدائية في الانتقام، غير مقيد بالقيم الأخلاقية أو القوانين، سينفذ إبادة كاملة بحق غير اليهود، وخاصة الفلسطينيين.
وبالنسبة للحاخام غينزبورغ، جاءت لحظة "السابع من أكتوبر/تشرين الأول" لتكون فرصة تاريخية لتسريع تنفيذ رؤيته، ففي إحدى نشراته بعد الهجوم، كتب أن "وحشية العماليق" تستوجب إبادة كاملة دون تردد، بل واعتبر أن التضحية بالأسرى الإسرائيليين في غزة ثمن مقبول في سبيل تحقيق "النصر الكامل".
ويبدو أن أفكاره لم تعد محصورة في الهامش، فقد أظهر استطلاع مارس/آذار 2024 أن النسبة الداعمة للتطهير العرقي والإبادة ارتفعت بشكل حاد، مقارنة بعام 2003 حين أيد 45% فقط ترحيل سكان غزة، و31% طرد الفلسطينيين في الداخل.
وتعكس نتائج استطلاعات الرأي -يقول سوريك- "هذا التوجه المتصاعد الداعم للترانسفير والإبادة"، إذ يظهر الجيل الشاب في إسرائيل دعما أكبر لسياسات التهجير الجماعي والعنف ضد الفلسطينيين، مقارنة بجيل آبائهم، وتعكس هذه المعطيات تصاعد النزعة الفاشية داخل المجتمع الإسرائيلي، وانتقالها من هامش الخطاب إلى صلب السياسات الرسمية والمؤسساتية.
واللافت أكثر، يضيف سوريك "هو تغلغل هذا الخطاب المتطرف حتى بين الإسرائيليين العلمانيين"، إذ أيد 69% من العلمانيين -حسب الاستطلاع- الترحيل الجماعي لسكان غزة، و31% أيدوا الإبادة الجماعية استنادا إلى رواية أريحا التوراتية.
إعلانوهذا يعكس، بحسب سوريك، غياب بديل حقيقي داخل التيار العلماني للصهيونية المسيحانية، إذ لم يقدم التيار العلماني منظومة متماسكة قائمة على حقوق الإنسان بوصفها خيارا بديلا، فبات الخطاب الديني المتطرف هو المهيمن، حتى على الفئات التي يفترض بها مقاومته.
هدم كل العوائق
واستعرض التحقيق كيف تهاوت القشور الأربع؛ حيث تخلَّى الإعلام عن المهنية واحتضن خطاب الانتقام والطرد، والقضاء تحوَّل إلى أداة شرعنة للعنف.
أما الجيش، فتم اختراقه أيديولوجيا، وأغلب المجندين لم يرفضوا سياسات القتل والطرد، فقط 9% من الرجال تحت سن 40 رفضوا هذه الأفكار.
وشهد التعليم تحولًا جذريا في العقدين الأخيرين، مع تزايد تأييد التطهير العرقي لدى خريجي المدارس، إذ أيد 66% ممن هم تحت 40 عاما طرد الفلسطينيين من الداخل.
ولا تقتصر رؤية غينزبورغ على الهيمنة الدينية بل تسعى إلى هدم فكرة الدولة ذاتها، إذ صرح بأنه "تجب الإطاحة بأي حكومة، حتى تلك التي تقام وفق التوراة، في حال لم تخدم هذا المشروع". ويبدو أن الانقسامات السياسية، وتكرار الانتخابات، وتراجع سلطة القانون، كلها تصب في اتجاه تحقيق هذه الرؤية.
والتحول الأخير ليس مجرد رد فعل على "العنف" الفلسطيني أو هجوم حماس، يقول شاي حيزكاني، "بل نتيجة تراكمات عقود من تغذية الفكر الاستيطاني في المناهج والإعلام والنظام السياسي والصهيونية، باعتبارها حركة استعمار استيطاني، تنطوي في جوهرها على إمكانية التطهير العرقي والإبادة"، كما حدث بتجارب استيطانية أخرى حول العالم.
ورغم خطورة هذا المسار -يتابع حيزكاني- فإنه ليس حتميا، وإن وقف انزلاق إسرائيل نحو نظام أبارتايد ديني "يتطلب رفضا كاملا لمبدأ التفوق اليهودي، سواء أكان دينيا أو علمانيا، وإعادة تخيل الهوية الإسرائيلية بوصفها هوية قائمة على المساواة بين البحر والنهر، وليس على الامتياز الديني والعرقي".
إعلان