فريق برّي يرد على المعارضين: ماذا جنوا من معاكسة الحوار؟
تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT
كتب ابراهيم بيرم في "النهار": لا ينكر أعضاء من الفريق السياسي والإعلامي المرابط في عين التينة أن الرئيس بري يختزن شعوراً بـ"المرارة والخيبة"، ليس بفعل واقعة أن هناك من وجد فرصته لكي يتباهى بأنه هو من بدّد جهود بري وعطّل مبادرته الحواربة التي قدمها الى الرأي العام على نحو مدروس بعناية في مهرجان الإمام الصدر في 31 آب المنصرم.
فعند الرئيس بري، وفق المصدر في فريقه، إن مبادرته طُرحت بالأصل لتبقى وتستمر، لذا فهو يقيم على قدر من الاطمئنان الى أنها ما انفكت حيّة قادرة على التكيّف والتفاعل في انتظار لحظة أخذها الى دائرة التنفيذ في ميقات معيّن حتى وإن فرضت التطورات تأخرها لبعض الوقت. لذا فإن مصدر "الخيبة والمرارة" عنده، هو من مكان آخر أبعد، ينطلق من حسابات مختلفة، إذ لم يكن الرئيس بري حسب المصدر عينه، في وارد ملء الفراغ وتزجية الوقت أو حشر الآخرين، عندما قرر إطلاق مبادرته المحددة آلياتها وزمانها، فهو كان يسعى جدياً الى مخرج يفضي الى طيّ صفحة الشغور الرئاسي المفتوح منذ نحو 11 شهراً واستطراداً تلافي ما يتصل به من مخاطر وتحاشي ما ينتج عنه من احتمالات سلبية.
وبمعنى آخر، يضيف المصدر نفسه، كانت مبادرة بري بمثابة باب الفرج الموصد بإحكام أمام الجميع وهم يعاينون بالعين المجردة انحلال الدولة وتفككها يوماً تلو آخر، ويعانون في الوقت عينه من عجز وقصور عن أي فعل حاسم يمكن أن يبادروا إليه فيجنحون نحو "نهج" المكايدة وتسجيل النقاط كل فريق على الفريق الآخر.
وعندما بادر بري الى تظهير مبادرته بنسختها الاخيرة، وفق المصدر ذاته، إنما كان يبادر الى عملية "ربط زمني" محكم وجلي بين طرحين متناقضين يرفع كل فريق لواء واحد منهما. فهو حدّد زمن الحوار بسبعة أيام أي جعل له سقفاً زمنياً محدوداً، يُفترض أن يدخل جميع المدعوون إليه بعد انقضائه، وبصرف النظر عن نتائجه، مباشرة ومن دون أي فاصل زمني الى جلسات الانتخاب المفتوحة في مجلس النواب التي يتعيّن أن تنتهي بظهور الدخان الأبيض وفق التعبير الذي توسّله الرئيس بري نفسه تشبّهاً منه بجلسات انتخاب البابوات في الفاتيكان.
ويضيف المصدر نفسه: "إن هؤلاء يروّجون أخيراً لخسارة مدوّية لحقت بالرئيس بري بفعل إحباط مبادرته، ولكن سؤالنا الملح لهم: ما الذي كسبوه هم من وضعهم للعصيّ في دواليب الحوار؟ ونريد هذه المرة أن نكون صريحين الى أقصى الحدود وليعذرونا على صراحتنا. فعلى المستوى المسيحي، نرى أن ثمة معادلة ترسّخت فيه تحاكي الى حد بعيد معادلة كانت ارتسمت عشية انفتاح باب الصراع المسلح في تلك البقعة في المرحلة التي سبقت حوار اتفاق الطائف بين الجيش بقيادة العماد عون و"القوات الللنانية بقيادة سمير جعجع. والآن ثمة صراع بين الفريقين لكنه صراع سياسي". ويخلص المصدر الى تكرار الاستنتاج الذي ورد على لسان الرئيس بري وقال فيه "ثمة من يعتقد أن الكنيسة القريبة لا تحقق نعمة الشفاء ونحن نضيف الى هذا قولاً آخر للسيد المسيح وهو: اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لايدرون ما يفعلون، لأن الكيدية أعمت أبصارهم وأفئدتهم".
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: الرئیس بری
إقرأ أيضاً:
جهنم الهلع.. قراءة قصص وقت قصير للهلع ليحيى سلام
هلع القراءة:
قراءة العنوان أوحت لي أن مجموعة وقت قصير للهلع هي قصص عن شخصيات مصابة بالهلع، بينما لا توجد قصة، من القصص الثلاث التي تشكل المجموعة، بالعنوان نفسه ولا حتى مفردة الهلع، بينما شعرت بعد قراءة المجموعة أن الوقت القصير للهلع قد يكون وقت القراءة نفسه، وأن الهلع هو ما يصيب القارئ، أو هذا ما انعكس من قراءتي للمجموعة، ووجدت أشباه ذلك فيما كتب من مراجعات عن المجموعة، والتي كتب عنها هدى حمد، ومنى حبراس، ومحمود الرحبي، وفوزية الفهدية، فوجدت الإشارات تتفق بشكل عام، على الخوف الذي ينبع من هذه القصص.
أثناء القراءة نفسها ظل يلح عليّ سؤال الشخصيات، ما بال شخصيات هذه المجموعة؟ أقرأ قصصها ويزداد استغرابي، هذه القصص حدثت هنا والآن، وهذه الشخصيات أعرفها، قابلت نماذج كثيرة لها، لكنها تبدو لي واقعة في مأزق عصيب، حالتها النفسية، هلعها ووساوسها، ليست إلا قمة رأس جبلي وسط البحر، وكأن النص يريدنا أن ننتبه لما تحت السطح.
متلازمة الهلع:
ظاهريًا تبدو شخصيات المجموعة القصصية للقارئ شخصيات وسواسية، قلقة ومضطربة، لكن المثير للقلق أكثر أنها تبدو كذلك مستلبة، شبه عدمية، ومع أن لديها توجسًا كبيرًا، متضخمًا، من العالم، لكنها كالمسرنمة، تمضي مستسلمة نحو هاويتها، تسير إراديًا نحو المقصلة مباشرة، قد تتمنع قليلًا بدافع هلعها وخوفها ووساوسها، لكنها ممانعة داخلية، لا مظهر حقيقيا لها عدا الكلام الداخلي مع النفس، فهي بالتالي ممانعة ضعيفة، مستكينة، مستسلمة سلفًا، مثل حلم بطل قصة الأصبع ص١٠:
«تذكر كابوسًا مؤلمًا راوده مرارًا، أفعى تطارده في نهر لونه أسود، ورغم قدرته على السباحة تعب واستسلم لأنيابها» ص١٠
إنها حالة كان نيتشه يدعوها أخلاق العبيد، لكن ما السبب لإصابة هذه الشخصيات بمتلازمة الهلع هذه، ودون أدنى نزوع للتغيير، وكأنها عديمة القدرة على تغيير المصير، الكل واقع في مصيدة مسارات محسومة سلفًا لا فكاك منها، والتغيير يحدث لحياتهم من خارجهم، كأنهم بلا أمل في أنفسهم، بينما يفترض العكس.
بدت لي شخصيات المجموعة مصابة بكساح ذهني، كأنها تعرضت لنوع من غسيل الأدمغة، في عملية طويلة من الترويض المتتابع سلبها قدرتها على التقرير والتغيير؛ لا أقول إننا ندخل إلى أجواء قصص كافكا أو صادق هدايت، لكنها أجواء قريبة، فهذه المجموعة تأخذنا لأجواء غريبة تذكرنا بهم، ولا تكمن غرابتها في مفارقتها للواقع، بل بالعكس في مطابقتها المفزعة له، فمشهد مواقف السيارات الممتلئة أمام البنايات السكنية، يتحول لمشهد مرعب:
«أوقفت سيارتي، ولاحظت ازدحامًا يثير الكآبة في النفس، وكأن الدنيا على وشك الاختفاء، أعداد غفيرة من البشر يهرولون ناحية جبال شاهقة متراصة صنعت من إسمنت وحديد، تحولت إلى كهوف غامضة، تاركين سياراتهم وراءهم. عم يبحثون؟ فقط يبحثون، لا يهم ما يبحثون عنه، المهم يبحثون عبثًا لعلهم يستطيعون إنقاذ أرواحهم من وهم اللا شيء» ص٥٨
القراءة تضعنا في موضع تأمل، الاكتشاف قد يبدو مخيفًا، لكن القراءة تسمح لنا بتأمل المخيف، وحين نتأمل المشهد مجددًا، نرى أفضل، فها هي العبارة المكتوبة في النص السابق نفسه، تحمل شكوى الروح التي اصطادها الخواء، فهل يكون هذا هو السبب لكل تلك الانعكاسات المتعددة؟ ربما لكني كقارئ لا أستطيع النفي ولا التأكيد.
علاقات هلعة:
من الوجوه المهمة التي تطرحها هذه المجموعة، والتي ركز عليها كذلك كل من هدى حمد ومحمود الرحبي، هو محاولة الاقتراب من الآخر، المقيم، الوافد، الكتلة البشرية المسحوقة، كتلة العمال البسطاء، العبودية الجديدة بتعبير اشيل مبيمبي صاحب نقد العقل الزنجي، وتمثل مشاعرها وقلقها ووساوسها وأحلامها وحياتها، وقد عودتنا قصص المنذري ذلك منذ بداياتها، لكننا هنا، في القصة الثانية تحديدًا، نجد العامل القارئ، وللمصادفة المقبولة جدًا، يكون الكتاب الذي يقرؤه العامل البنجالي هو المجموعة القصصية «بيت وحيد في الصحراء» بترجمته الانجليزية، مع كل إشارات تلك المجموعة التي كتبت عنها منى حبراس في مقالها.
هذا الكسر للنمطية، وتحطيم الأفكار المسبقة منعش، يفتح أفقًا في علاقة ظلت محكومة بالتنافر، وإذا شئنا استخدام تعابير الكتاب، فهي علاقة ظلت محكومة بالهلع والريبة المتبادلة، ولا أدل على ذلك من الرواية الشهيرة للهندي بنيامين (أيام الماعز) بكل مبالغاتها، لكن القارئ يجد أن تلك العلاقة في قصص المنذري تتحرر من عزلتها المفروضة، فالنص نفسه يصبح جسرًا بيننا وبين العمال وحياتهم، وفي هذه القصة نتابع مسرد يوميات لا يخلو من التشويق، وإن كان فقدان البطل نفسه نهاية القصة يصيبنا كما هو متوقع بالهلع، فقد اختفى البطل، القارئ البنجالي، بينما البطل الثانوي، القارئ العماني لا يجد مزاجًا ولا دافعًا للبحث عنه أكثر، إنه بطل بديل لكنه بطل مهزوم، يجد نفسه في غير منطقته الحيوية، معزولًا، ورهينة لمزاج رئيس عمال (فورمن) ماكر، يتلاعب بالشخصيات كما يتلاعب بالعمال في مواقع العمل، وهكذا بعد المحاولة الأولى للعثور على البنجالي صاحب اليوميات الذي كان يكتب يومياته على مجموعة قصصية لكاتب عماني، تنهار المحاول ونجد أنفسنا في خلاء والغبار يتطاير حولنا من سيارة مالك المنزل القادمة كما وصفها القارئ البنجالي:
«تأتي سيارته داخل غيمة تراب، تعفر المنطقة. وهذا حال العمانيين يبنون أينما يُمنحون، ولديهم قدرة خارقة على الانتظار، انتظار كل ما هو مجهول.» ص٢٨
عمانيون ينتظرون المجهول ويصيبهم الهلع منه، هل هؤلاء أبطال المجموعة القصصية أم قرّاؤها؟ لا لسنا نشاهد فيلمًا لهيتشكوك القائل مرة «الحياة لا تعتبر حياة إن لم تكن مليئة بالأخطار»، لكن فكرة التوجس من الأخطار فكرة حققها هيتشكوك بصريًا، وهذه المجموعة تحققها سرديًا، والهاجس الملح للخوف له جاذبية تجعله يصطدم بأشد ما يخافه، ولا شك أن كل تصرف تحت تأثير الهلع مرتبك، ولا يساعد على النجاة بقدر ما يهدد بالهلاك.
شخصيات الهلع شخصيات غارقة في تيار ضخم، يشعرها التيار بأنه لا حول لها ولا قوة، ولا ينجو من المصير الأسود المرسوم سلفًا من شخصيات المجموعة غير النحلة ماري، عاملة المنزل في بيت عائشة وزوجها أبي زهران، الذي لا نعرف اسمه من القصة، مع أنه السارد، تنجو ماري من مصيرها كعاملة منزل لتتحول إلى فاشنيستا، وليست مجرد نجمة موقع تواصل، بل مغنية، في مخرج فني، يخرجها بعيدًا عن مشهد (تكويم) العاملات بانتظار الطلب في مكاتب العمالة؛ هكذا أخيرًا نجد في قصة صندوق المفاجآت الملونة، وهي آخر قصص المجموعة، نوعًا من التنفيس بنجاة ماري، يخفت الهلع نوعًا ما، بنجاة صغيرة للبطلة، وكأن نجاتها صنعت ثقبًا وتنفيسًا صغيرًا وسط ضغط الهلع المرتفع.
عالم الهلع:
لا تفصح شخصيات هذه القصص عن وساوسها صراحة لمن حولها، ويزداد قلقها في بيئة غير صحية، فهو قلق مكتوم، وهي وساوس مسكوت وغير معبّر عنها، في اضطرام داخلي لا يجد مخرجًا، فكل شخصية داخل وحدة داخلية جافة كما يعبر عنها بطل قصة الأصبع: «الوحدة تحول الإنسان إلى كرة يتقاذفها جداران بينهما مسافة قصيرة، هل تعرف هذه الممرضة معني الوحدة؟ سأخبرها بأن الوحدة هي أن تكون محاطًا بالجفاف، وتسكن في شقة دون امرأة تحبك، ودون أولاد يغمرونك بالحنان وينتظرون قدومك بشوق في كل مرة تغيب عنهم» ص١٣
إن تلك الوحدة المحرومة من الحنان والمشاعر الطبيعية تقع فريسة ذاتها، فكل تماس لها مع الخارج يحكمه خطاب متربص، متصيّد للأخطاء أو يخاف الوقوع فيها، وتحمل داخلها نظرة غريبة، بفعل وضعها الغريب، تجاه العالم، وهي ليست شخصيات متصالحة مع عالمها، بل تناصبه العداء، مع أنها مضطرة للخضوع والاستسلام له، هكذا نجد تلك المشاعر المكتومة تخرج لحظة الغضب، كما في قول إحدى شخصيات قصة غليان الشاي: «داهمتني نوبة غضب على هذا العالم. عالم منفوخ بالشر لا جدوى منه. يستحق الحرق، شعرت برغبة في تكسير الكراسي والطاولات وحرق الكتب، لكنني أتراجع وأعترف بأنه نزق عابر، وتفكير عدواني.» إنه غضب مكتوم، يتم التراجع عنه، رغم أنه عنيف بالداخل، لكن يجري تبريره بسرعة بوصفه نزقًا، فهل هو نزق فعلًا؟ أم ذلك مجرد مخرج سهل لتكريس السلبية، أو الاحتماء بها، فيما يبدو أنها الحصانة الوحيدة التي تتوخاها هذه الشخصيات لإبقاء الوضع على ما هو عليه، بوصفه أقل الضررين رغم ما يتناهشها من الهلع؟
هكذا لا نستغرب أن نجد الشخصية الأولى في قصة الإصبع تتمنى الحصول على قنبلة: «تمنى لو يحصل على قنبلة ليزرعها في قلب المستشفى.» ص١٠ إن العلاقة مع العالم الذي تعيش فيه الشخصيات هي بلا شك علاقة مضطربة، ولا توجد انسيابية في علاقتها البينية بمحيطها الخاص، فهي علاقة ريبة، وتلك العلاقة المستريبة تطغى على تصرف الشخصيات، حتى في المشهد الأول من القصة الثالثة، وهو مشهد غريب على القارئ، أعني مشهد وصول العمال بالصندوق وهم ينزلونه من الشاحنة، حيث تطغى وساوس البطل وهلعه ومخاوفه على المشهد، لكن المثير للغرابة هو أن الصندوق ليس صندوقًا حقيقيًا، وهو ما يتعرف عليه القارئ حين يكتشف وجود النحلة داخله في نهاية الفصل الأول من القصة، ما يؤكد أنه صندوق رمزي، والحسم بشأن ذلك الصندوق غير واضح، وأقرب ما استطعت قوله أنه يرمز للبيت، وأن العمال الذين ينزلون الصندوق هم عمّال البناء، مع أن القرائن في النص على تأكيد ذلك باهتة وقابلة للنقض.
رغم ذلك فإن المخاوف التي تنتاب الشخصيات وإن بدت لنا أنها وساوس خيالية، أو جرى وصفها بالنزق، فإنها لا تبدو كذلك، ذلك أنها مخاوف حقيقية، فهي طريقة لرؤية العالم والشك فيه، وهي بذلك تذكرنا بشخصية الطبيب اندريه يفيميتش في عنبر رقم ٦، لتشيخوف:
«على مقربة من سور المستشفى، على بعد مائة ذراع لا أكثر قام منزل أبيض عال، محاط بجدار حجري، كان ذلك مبنى السجن. وفكر اندريه يفيميتش: «هذا هو الواقع!» وأحس بالرعب.»
تشيخوف، عنبر رقم ٦
إنها شخصيات مقاربة لتلك الأجواء، شبيهة بها، فيها شيء يذكرنا بمثيلاتها، مثل شخصية تيدي في فيلم مارتن سكورسيزي جزيرة شاتر Shutter Island، فالواقع مثير للريبة، ويقودنا إن لم يكن للجنون فإلى درجة أخف منه تدعى الارتياب، وكأن الارتياب يفضي بنا للتعامل مع ذواتنا بوصفها مجرد أشياء صماء مستلبة الإرادة، مثلما نجد ذلك في التعاطف الذي يبديه بطل قصة (غليان الشاي) مع المكيف المتهالك، فنجده يرى نفسه في المكيف، وبما أنه مهموم بالغد، ويبدو كمن ينام بانتظاره، فإنه يرى في المكيف القديم صورة الشيخوخة الصعبة المجبرة على العمل رغم قساوة الظروف وشدتها، لكن لا مفر أمام المكيف سوى العمل حتى الموت، والبطل نفسه يريد من اليوم أن يمر سريعًا ويريد أن ينام، وكل هذه مؤشرات رغبة في الموت لا مؤشرات حياة، إنها الحياة المقبورة سلفًا، وليس على من يعيش فيها غير أن يتآكله القلق والوساوس والأفكار المدمرة، والندم على كل ما فقده، وما يفقده الآن باستسلامه لوحش الخوف.
تبدو شخصيات الهلع محكومة بعالم الخوف، وهي مستسلمة وخاضعة للخوف المعشش داخلها، والذي يقتات عليها حتى يفتك بها ويجعلها تختفي فجأة، وهذا الخوف والهلع يتسلل للقارئ ويستشعره، يتحسسه داخله، ويكتشف تدريجيًا أن نفس الصوت الذي يتحدث داخل الشخصيات قريب من صوته هو، وأنه يكلمه بنفس الأفكار، ومع أن القارئ ليس شخصية من شخصيات الهلع، لكنه يجد نفسه في عالمها، وما الذي يدريه أن لم يكن هو الآخر واقعًا تحت قبضة ثقافة الخوف، وهي مغروسة داخله منذ نعومة أظافره؟
كل هذا الهلع المحيط والخوف بدرجاته المختلفة يصبح مثل جهنم مضطرمة تحترق فيها حياة الإنسان المعاصر، في عصره «العلمي» المحكوم ليعيش بذلة أمام مخاوفه، تلك الذلة التي كان عنترة يصفها في معلقته «الجاهلية» مرة معلنًا رفضه لماء الحياة ما دام مشوبًا بذلة، ويردف:
ماء الحياة بذلةٍ كجهنمٍ وجهنمٌ بالعزّ أطيب منزل.