جريدة الرؤية العمانية:
2025-12-13@16:04:13 GMT

لا توجد منطقةٌ وسطى

تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT

لا توجد منطقةٌ وسطى

 

د. صالح الفهدي

رفضتْ الخارطة بحجّة أن لا حلّ لنقطةٍ محدّدة، استسهل المهندس المشرف رفضها دون أن يلتقي بصاحبِ المصلحة فيناقش معه الحلول الوسطى فيها لكي يتم اعتمادها، فكان الرفض هو الأفضل عن "صداع الرأس"، لكن صاحب المصلحة حين نظر إلى الخارطة وجد لها حلّا فأشار للمهندس المشرف به، فقبِل به، وتم اعتماد الخارطة! هنا تساءل صاحب المصلحة في نفسه: ألم يكن المهندس المشرف قادرًا على مناقشتي والوصول إلى الحل الذي وصلت إليه وحدي؟ ألم يكن المهندس المشرف قادرًا- لو أنه أمعن النظر في الخارطة- برؤية الحلِّ الذي رأيته وأنا لست متخصصًا في الأمور الهندسية؟

في  جهةٍ أخرى يقف مستثمرٌ على رأس موظف لينهي إجراءات استثماره، لكن الموظف يأبى القيام بذلك بحجّة أن "النظام معطّل"، يلحّ عليه المستثمر: طيب، خذ الأوراق وانهِ الإجراءات، فأنا على أهبةِ سفر، غير أنه لا يجد سوى جوابٍ واحدٍ أبتر من الموظف: "هذا نظامنا إذا عاجبنّك أهلا وسهلًا وإذا ما عاجبنك مع السلامة".

.!

مرة أخرى لا توجد منطقة وسطى. إِذن ما السبب؟!

السبب في نظري هو أن عقليات البعض قد برمجت بين لونين هما: الأسود والأبيض ليس بينهما لونٌ آخر!، ولو أن هذه العقليات قد أمعنت الفكر لتوصّلت إلى أن الأبيض ليس لونًا واحدًا وإنّما يتدرّج في عدّة ألوان كلّها أبيض، والأسود كذلك، إذن هناك متّسع للمناورة حتى في اللونين: الأبيضِ والأسود.

لقد سار هؤلاءِ -ظاهريًا- على سياق ما قاله أبوفراس الحمداني:

ونحن أناسٌ لا توسّط عِندنا // لنا الصدر دون العالمين أوِ القبر

لكنه  الشاعر قاله في سياق الإعتداد بالنفس، والشجاعةِ، والنخوة، ولم يقله في سياق خدمة الناس، وتسهيل مصالحهم، والتيسير عليهم!

في المقابلِ وعلى عكسِ المثالين السابقين، تنظر جهة ثالثة بفكرٍ مرنٍ إلى "المنطقة الوسطى" وتبحث مع صاحب المصلحة الذي يطلب ترخيصًا للمضي قدمًا في مشروعه الذي يخشى عليه من التعطّل والتأخر، ومع أنّ لديها ملاحظات عليه، إلا أنها تمنحه "ترخيصًا مؤقتًا" ومهلةً معيّنة ليعالج الملاحظات.

نقف هنا بين  أكثرية تعمل وفق منطق "لا يوجد حل وسط" وبين أقلية تعمل وفق منطق "هناك دائمًا حل وسط" ونجد أنّ الأولى لم تسع في الأصل للبحث عن الحلِّ الوسط، لأنها لا تريد ذلك، بل تريد إعاقة مصالح الناس، ولا تريد إشغال نفسها وإجهادها في البحث عن المنطقة الوسطى التي يقع فيها الحل لأن ذلك يعني أنها ستبذل وقتًا أكثر، وتتحمّل مسؤولية إزاء ذلك، لهذا فإنها تؤثر منطق "الأبيض أو الأسود" ولا حلّ غيرهما. يقال "إذا خلصت النيّة وضح الطريق" ما يعني أنه لو كانت نيتها خالصة لخدمة مصالح الناس، ومساعدتهم لوجدت الطريق واضحًا كما وجدت الجهة الأخرى التي منحت الترخيص المؤقت مع وجود الملاحظات.

النيّة الخالصة هي الوسيلة التي تخرج "الحل الوسط"، وهذا ما يؤكد القرآن الكريم في سورة النساء (الآية 35) في قول الحق سبحانه وتعالى "وإِنْ خِفْتمْ شِقاق بيْنِهِما فابْعثوا حكمًا مِّنْ أهْلِهِ وحكمًا مِّنْ أهْلِها إِن يرِيدا إِصْلاحًا يوفِّقِ اللّه بيْنهما ۗ إِنّ اللّه كان علِيمًا خبِيرًا" إذ نرى تجلِّى النيّة الخالصة للبحث عن حل وسط في "إِن يرِيدا إِصْلاحًا" أي الحكمين، يصلان حينها إلى الحل الوسط "يوفِّقِ اللّه بيْنهما".

الحل الوسط هو إحدى المشكلات التي يعاني منها المتعاملون مع بعض الجهات الخدمية، فهي تؤثر الرفض على الحل الوسط الذي فيه سعة ورخصة، وهنا نتساءل: إذا كان الله قد أعطى لعباده السعة في العبادة، فكيف لا يعطي العباد لبعضهم البعض السعة في المعاملات؟!

في نظري يعود الأمر إلى عدّة أمور: دينية، وأخلاقية، ووظيفية. فالدينية منها أن الموظف لا يعي أن "الدين المعاملة" فيقصره على الصلوات، ولا يعي ما قاله نبيه الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام:"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا فليتقنه" وأن راتبه الذي يتقاضاه لا يحلّ إلا بالإِخلاص لوجب عليه أن يجتهد في تقديم الحل الوسط بدلًا عن الرفض لأية معاملة. أما الاجتماعية فإنه لو شعر بأن طالب المصلحة إنما هو فردٌ من أسرة المجتمع الذي ينتمي إليه فإنه سيشعر بمعاناة الرفض والمماطلة والتسويف التي سبّبها له، والمسلمون كما قال نبينا الأكرم عليه السلام كالجسد الواحد إذ اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". أما الوظيفية: فإنه وجد في وظيفته لخدمة الناس، والخدمة تقتضي العمل بكل وسيلة للتيسير على مصالحهم، ودفع جهودها قدمًا وليس إعاقتها. كما أنه لو تمت مراقبته ومساءلته ومحاسبته لما قدّم الرفض على الحل الوسط في أكثر المصالح التي تقع بين يديه.

العقليات الجامدة التي لا ترى الحل الوسط في قضاء مصالح الناس إنّما هي عقليات معطِّلة للنمو والتقدم في الوطن، وهذه لا يمكن لأي وطن الاعتماد عليها في حركته لأنها تعيده إلى الخلف ألف خطوةِ كلّما تقدم خطوة!، أما العقليات التي تبحث دائمًا عن الحل الوسط الذي يصبّ في مصلحة الوطن فهي الأنسب والأصلح لنماء الوطن.

 

 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ضرورة الحل الشامل للأزمة في السودان

ضرورة الحل الشامل للأزمة في السودان

تاج السر عثمان بابو

1

بعد انقلاب 30 يونيو 1989 الذي نفذه الإسلاميون، ازدادت نيران الحرب اشتعالا.. بعد أن توصلت الحركة السياسية السودانية إلى اتفاقية السلام أو اتفاق الميرغني – قرنق، وتم التوجه للسلام في إطار وحدة البلاد، والاتفاق على عقد المؤتمر الدستوري، اتسع نطاق الحرب ليشمل دارفور وجنوب النيل الأزرق وجبال النوبا، وحدثت الابادة الجماعية في دارفور بعد أن كون نظام الانقاذ الجنجويد، حتى اصبح البشير ومن معه مطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية ويجب تسليمهم بعد محاكمة علي كوشيب. حتى تم توقيع اتفاقية نيفاشا، التي تم بعدها انفصال الجنوب.

2

بعد انفصال جنوب السودان ازدادت الأزمة الوطنية في البلاد عمقا، واشتدت حدة الضائقة المعيشية والمجاعة في اطراف البلاد، والارتفاع الجنوني في الأسعار بعد تخفيض قيمة الجنية السوداني. ومصادرة حرية الصحافة والتعبير، وتجددت الحرب في المناطق الثلاث: جنوب كردفان والنيل الأزرق وابيي اضافة للحرب التي كانت مشتعلة في دارفور، وارتفاع صوت الخطاب العنصري الذي فتح الباب لحروب الابادة في تلك المناطق. وتوتر العلاقة بين دولتي الشمال والجنوب والتي وصلت ذروتها بعد أزمة احتلال هجليج. وتطورت الأحداث حتى انفجار ثورة ديسمبر التي أطاحت بالبشير لكن انقلاب اللجنة الأمنية قطع الطريق أمامها، وتمت مجزرة فض اعتصام القيادة العامة وبعدها تم التراجع عن ميثاق قوى الحرية والتغيير الذي تم التوقيع عليه في يناير 2019، وتم استبداله بالتوقيع على الوثيقة الدستورية التي قننت الشراكة مع العسكر والدعم السريع دستوريا، وتم التوقيع على اتفاق جوبا الذي تحول إلى مناصب ومحاصصات في السلطة، وحتى الوثيقة الدستورية تم خرقها إلى أن تم الانقضاض عليها بانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي اعاد التمكين للإسلاميين وقاد للحرب اللعينة الجارية حاليا التي تهدد بتقسيم البلاد مرة أخرى.

3

ولا شك أن انفصال الجنوب كان له تداعيات خطيرة داخليا واقليميا، وهو يعبر عن فشل المؤتمر الوطني في حل المشكلة والتي زادها تعقيدا بعد انقلاب 30 يونيو 1989م، والحرب الجهادية والدينية التي كان لها نتائج ضارة عمقّت جراحات الوطن. وبعد أن فشل النظام في الحل العسكري، وقّع تحت الضغوط المحلية والعالمية اتفاقية نيفاشا التي اوقفت الحرب التي دارت لمدة 21 عاما. استندت الاتفاقية علي قاعدة سودان واحد بنظامين، وكانت الاتفاقية ثنائية وتحمل في طياتها جرثومة الانفصال كما يتضح من التقسيم الشمولي للسلطة بين الشريكين في الشمال والجنوب، فضلا عن أن المؤتمر الوطني لا يمثل الشمال والحركة الشعبية لاتمثل الجنوب، وقسمة عائدات البترول التي ازكت النزعة الانفصالية، ونظام مصرفي بنافذتين، وتقسيم البلاد علي أساس ديني. وجاءت حصيلة ممارسة الست سنوات الماضية لتكرس الصراع بين الشريكين، بعد الفشل في انجاز التحول الديمقراطي، وقيام دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن الدين أو اللون أو العرق، وتحقيق التنمية وتحسين الاوضاع المعيشية في الشمال والجنوب، وتكريس الفوارق الطبقية والفساد، اضافة الي عدم توفير مقومات الاستفتاء والتي تتلخص في قيام انتخابات حرة نزيهة تشرف عليها لجنة انتخابات مستقلة ومحايدة، تنتج عنها حكومة ذات قاعدة واسعة هي التي تشرف علي الاستفتاء علي تقرير المصير مما يجعل الوحدة في النهاية هي الراجحة في النهاية، ولكن ذلك لم يتم ، وكان تزوير الانتخابات، والتي رفضت نتائجها القوي السياسية في الشمال والجنوب، اضافة الي تأخير ترسيم الحدود وعدم تكوين لجنة استفتاء ابيي ، وعدم تطبيق الاتفاقية فيما يختص بمنطقتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق مما ادي لعودة الحرب فيهما.

4

لقد اكدت تجربة اتفاقية نيفاشا فشل الحل الثنائي المفروض من الخارج والذي استبعد القوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ويبقي ضرورة الاستفادة من تلك التجربة ومنع حدوثها

حتى لا تتكرر تجربة انفصال جنوب السودان وتمرير مخطط تمزيق السودان الي دويلات وخاصة بعد احتلال الدعم السريع الفاشر وبابنوسة وهجليج التي لها النفط مما يعزز خطوات الانفصال.

وهذا يتطلب الاتفاق على موقف وطني موحد يجنب البلاد شر ذلك المصير. ولشعب السودان تجربة كبيرة في الوصول لحلول لمشاكله الداخلية كما حدث في تجربة الاستقلال عام 1956م عندما ثواثقت القوي السياسية والنقابية علي دستور السودان الانتقالي الذي كفل الحقوق والحريات الأساسية وكان استقلال السودان بعيدا عن الاحلاف العسكرية والارتباط بالخارج. وكذلك عندما اشتدت الأزمة الوطنية العامة في أخر سنوات ديكتاتورية عبود بعد أن اشتد اوار حرب الجنوب والضائقة المعيشية وأزمة الحريات الديمقراطية، توحد شعب السودان خلف جبهة الهيئات التي قادت الاضراب السياسي العام والعصيان المدني ضد النظام حتي تمت الاطاحة به في ثورة اكتوبر 1964م واستعادة الديمقراطية ودستور السودان الانتقالي المعدل لعام 1964م. وتوحد شعب السودان مرة ثالثة ضد نظام مايو الديكتاتوري في التجمع الوطني لانقاذ الوطن الذي قاد انتفاضة مارس- ابريل 1985م التي اطاحت بحكم الديكتاتور نميري واستعادة الديمقراطية. وشعب السودان قادر علي استلهام تلك التجارب مع أخذ الظروف الجديدة لاسقاط الحكومتين غير الشرعيتين في بورتسودان ونيالا. وقطع الطريق أمام حل ثنائي آخر مفروض من الخارج والذي قد يكرّس تفتيت ماتبقي من الوطن.

5

وبالتالي من المهم قيام أوسع جبهة جماهيرية من أجل وقف الحرب واسترداد الثورة وقيام الحكم المدني الديمقراطي، وخروج العسكر والدعم السريع والمليشيات من السياسة والاقتصاد، وعدم الإفلات من العقاب. وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية والصحية والتعليمية والأمنية، والترتيبات الأمنية لحل كل المليشيات وجيوش الحركات وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية، وقيام دولة المواطنة التي تحترم التعدد الديني والثقافي والعرقي واحترام حقوق الانسان وسيادة حكم القانون ولضمان وحدة ما تبقى من الوطن،  وقيام المؤتمر الدستوري الشامل الذي يرسم خريطة الطريق للمخرج من النفق المظلم الذي دخلت فيه البلاد، وتحقيق التنمية المتوازنة، والتوزيع العادل للثروة والسلطة.

الوسوماتفاق الميرغني- قرنق الإبادة الجماعية الإسلاميون السودان انقلاب 25 اكتوبر 2021 انقلاب 30 يونيو 1989 تاج السر عثمان بابو جبال النوبة جنوب السودان حرب 15 ابريل 2023م دارفور نيفاشا

مقالات مشابهة

  • العودة لـورقة الكاظمي البيضاء.. نائب سابق: لا حكومة تقرها ولا توجد موازنة
  • للحد من التلوث.. أعمال تنظيف لمجرى نهر الليطاني في منطقة المرج ـ الحوض الأعلى
  • حكم الدين في عدم الإنجاب.. أزهري: الشخص الذي يرفض النعمة عليه الذهاب لطبيب نفسي
  • تزايد معدلات العنف.. ما الحل؟
  • ضرورة الحل الشامل للأزمة في السودان
  • د.حماد عبدالله يكتب: الاستثمار هو الحل !!!
  • مبعوث ترمب يحذر من انزلاق العراق نحو التفكك وعزلة دولية: الحل بأيديكم
  • رويترز: الولايات المتحدة تستعد لاعتراض السفن التي تنقل النفط الفنزويلي
  • ما الدول التي يفضل «ترامب» استقبال المهاجرين منها؟
  • القضاء يتراجع عن قراره بتكميم الأفواه وحرية التعبير بعد الرفض الشعبي لكونه مخالف للدستور وحمل موظف “مسوؤلية”الكناب