أنساغ.. «أنت رجل شائق»: الجندر والإمبراطورية والرغبة في فيلم «لورنس العرب» «6»
تاريخ النشر: 8th, October 2023 GMT
لقد وصف روبرت بولت استراتيجيَّته في كتابة السِّيناريو بأنها «الوجود على الأقل في مدى الحقيقة الفعليَّة... والوجود كذلك في مدى الحقيقة الفعليَّة عن الرجل نفسه» (34). وهكذا فإن النَّتيجة النهائيَّة لتلك «الاستراتيجيَّة» هي هويَّة جنسيَّة مُبْهَمَة وإشكاليَّة تضيف المزيد من نكهات الغموض، والضَّبابيَّة، والانسحار بـ«فاشيٍّ رومانسيٍّ» كما يصفُ بولت نفسه لورَنس (35).
بيدَ أنه ينبغي التَّوكيد على أن اهتمامي بالمثليَّة الجنسيَّة هنا إنَّما يتعلق بما هو موجود في الواقع السردي (diegetic) في الفيلم، وليس بالمعنى البيوغرافي/ التَّاريخي في حياة لورَنس العرب؛ فما يجعل الإحالات إلى المثليَّة الجنسيَّة ضروريَّةً هو حقيقة أن الفيلم يَسْتَوضِعُ أسئلة تخص الرَّغبة، والذُّكوريَّة، والاستيهام، والأنثويَّة. وفي هذا السِّياق يذهب مارك دي جوردَن Mark D. Jordan إلى هذه المحاججة: «لأن الذُّكورة مَقُولَةٌ من مقولات الجَنْدَر وليست من مقولات الجنسانيَّة، فإن مقولة «المثليَّة الجنسيَّة» تعمل على مستوى الجَنْدَر وليس الجنسانيَّة على الرغم من أنها تتظاهر بأنها مقولة للجنسانيَّة» (36). إن المثليَّة الجنسيَّة، والدَّورَ، والرَّغبة، والهويَّة كلها مُخَلَّقة في الفيلم بوصفها أداءً، وتحديدا هي أداء للجمهور الغربي المتعطِّش لهكذا تجريبيَّات. والحقيقة هي أن الجنرال أللنبي Allenby General يقبض على جوهر هذا المظهر المُحدَّد من ثيماتِيَّات الفيلم في لقائه الأول بلورَنس بأن يعلِّق على غطاء رأسه (الحطَّة والعقال) وبقية مكوِّنات زيِّه العربي قائلا: «ما الذي تعنيه بالمجيء إلى هنا مرتديا هذه الثِّياب؟! مَسْرَحَانِيَّاتُ هواة»؟! يجيب لورَنس عن هذا السؤال على نحو له مغزاه: «أوه، نعم، بالكامل»! هذه «المَسْرَحَانِيَّاتُ» إنَّما تكمن في قلب الميكانِزمات التي تنتج التَّمثيل (representation) الاستشراقي.
لقد أصرَّ إدوَارد سعيد على طول الخط أن الاستشراق ليس مجرد «حقلٍ معرفيٍّ» تنجُم عنه التَّمثيلات، ولكن كذلك أن «فكرة التَّمثيل فكرة مسرحيَّة» (37). وعلى الرَّغم من أن هذا يبدو من نافلة القول: إنه يكتسب المزيد من وثاقة الصِّلة بالموضوع والرُّسوخ حين يُطبَّقُ على التَّمثيلات التي تتضمَّن أسئلة تتعلَّق بالسِّياقات السِّياسيَّة والأيديولوجيَّة كما هو الحال في فيلم «لورَنس العَرَب». وحقًّا فإن تومَس إدوَارد لورَنس نفسه، الكولونيل في مكتب الاستخبارات البريطانيَّة في القيادة العامَّة في القاهرة، كان دقيقا بصورة واعية، ومُحَدَّدة، حول الهويَّة المَسْرَحَانِيَّة. لقد ألَّف الكولونيل لورَنس، على سبيل المثال، دليلا ميدانيًّا لزملائه من الضُّباط السِّياسيِّين البريطانيِّين العاملين في الشرق الأوسط حول كيفيَّة التَّعامل مع العرب عنوانه «سبعة وعشرون بندا». فلنقرأ بعض النَّصائح التي يزجيها لورَنس في ذلك الدَّليل: إن «التَّعامل... فَنٌّ وليس عِلما». وانطلاقا من هذا الحذق في التَّمييز فإنه ينصح زملاءه الضُّباط هكذا: «إذا ما استطعت أن ترتدي زيَّا من الطَّقم العربي عندما تكون مع القبائل فإنك ستظفر بثقتِهم وحميميَّتهم إلى درجة يستحيل التَّأتي عليها فيما لو كنت مرتديا زيَّك العسكري... ستكون مثل ممثِّل في مسرح غريب، تؤدي دورا ليل نهار على مدى شهور بلا استراحة لأجل غَرَضٍ توَّاق... إذا ما ارتديتَ ثيابا عربيَّة على الإطلاق فاذهب إلى آخر الطَّريق بارتداء كامل الزِّي العربي من قمَّة الرأس إلى أخمص القدمين. اترك أصدقاءك وأزياءك الإنجليزيَّة على الشاطئ وانغمِس في العادات العربيَّة بالكامل. إن من الممكن للأوروبي، بدءا من هذا المستوى، أن يغلب العرب في لعبتهم» (38).
سيكون من نافلة القول إن نصيحة لورَنس لأقرانه من ضُبَّاط الاستخبارات البريطانيَّة العاملين في المنطقة العربيَّة، إضافة إلى خبثها الطَّافح، مكتوبة بلغة كولونياليَّة، وإمبرياليَّة، وعنصريَّة، واستشراقيَّة جليَّة. وفوق ذلك فإنها تفيض بـ«المسرحانيَّة». لكن قد يكون من المفيد هنا تذكُّر أن فيلم «لورَنس العَرَب» يؤكِّد بكل الطُّرق الممكنة الصِّراع والالتباس اللذين يَخبِرهما لورَنس في رحلته الحَرفيَّة، والوجوديَّة، والسِّياسيَّة، والأيروسيَّة. ولا شك أنه من المفيد، أيضا، استحضار أن لورَنس قد خبِرَ في الحياة الفعليَّة تصارعا واضحا في الهويَّة بحيث إن أحد زملائه في المكتب العربي في القيادة البريطانيَّة العامَّة في القاهرة، وهو هاري سينت جون بي فِلبي Harry St. John B. Philby، وصفه بأنَّه «خليط مثير للفضول من حساسية امرأة ورجولة ذَكر» (39). والحقيقة هي أن هناك صورة نادرة لِلورنَس نراه فيها مرتديا ثياب امرأة عربيَّة. ويقول تعليق تلك الصُّورة: «يتنكَّر لورَنس أحيانا في هيئة امرأة غجريَّة من سوريا» (40).
هكذا فإن رحلة لورَنس في الفيلم تتمرأى بوصفها مجازا لاستكشاف الذَّات والبحث عن هويَّة. وهذه الثَّيمة مألوفة جدا في الأدب والسِّينما الكولونياليَّين والاستشراقيَّين، حيث يُباحُ بفضاء الآخر بوصفه شاشة مُتاحَة ينعكس عليها قلق الذَّات، وفنتازيَّاتها، ومكبوتاتها، ورُهاباتها، ورغباتها، وعُقَدها. في هذا السِّياق فإن الفيلم يُرينا لورَنس بوصفه مأسورا في طَوْرٍ أوديبيٍّ دائم، غير قادر على حسمه أبدا (41).
--------------------
تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:
(34): Robert Bolt, quoted in Gary Crowdus, Lawrence of Arabia: The Cinematic (Re)Writing of History, Cineaste 17, no. 2 (1989): 17.
(35): Robert Bolt, quoted in Alain Silver and James Urisini, David Lean and His Films (Los Angeles, Silman-James, 1992), 154.
(36): Mark D. Jordan, «Making the Homophile Manifest,» in Swinging Single: Representing Sexuality in the 1960s, ed., Hilary Radner and Moya Luckett, 200.
(37): Edward Said, Orientalism, (New York, Vintage, 1979), 63.
(38): T. E. Lawrence, The Essential T. E. Lawrence: A Selection of His Finest Writings (New York: Oxford University Press, 1992), 136, 139-49.
(39): Harry St. John B. Philby, quoted in Robert D. Kaplan, The Arabists: The Romance of an American Elite (New York: Free Press, 1995), 51.
(40): تلك الصُّورة مُتَضَمَّنَة في هذه المادة، وقد نشرت للمرة الأولى في:
Lowell Thomas, With Lawrence in Arabia (New York: Century, 1924), facing 251.
من نافلة القول إنني لا أتوافر على وسيلة تجعلني أؤكد أو أنفي مصداقيَّة هذه الصُّورة بعد مرور قرن من الزَّمان على التقاطها.
(41): «وفقا لِسِجمُند فرويد Sigmond Freud فإن عقدة أوديب يمكن أن تُحَلَّ بعدد من الطُّرق، وما لم تُحل فإنه يمكن لذلك أن تكون له عواقب وخيمة». أنظر:
Malcolm Bowie, Bisexuality, in Feminism and Psychanalysis: A Critical Dictionary, ed., Elizabeth Wright (Oxford: Blackwell, 1996), 28.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ة الجنسی
إقرأ أيضاً:
قمة بغداد .. والقادة الأوغاد
اجتمع العرب في قمة بغداد، في غياب الكثير منهم، حيث حضر من يمثلهم من الصف الثاني والثالث، اجتمعوا ليصدروا بيانات التنديد والشجب والاستنكار، والمطالبة بإيقاف العدوان على غزة وإنهاء الحصار، ولا أعلم من يطالبون؟! ومن يناشدون؟! وهم أنفسهم جزء من المؤامرة التي تحاك ضد القضية الفلسطينية، والكثير منهم شركاء في العدوان والحصار على غزة بصورة مباشرة أو غير مباشرة .
اجتمع العرب ليشكروا ترامب على تفضله وتكرمه برفع العقوبات عن سوريا الشرع وهيئة تحرير الشام، اجتمع العرب لاستعراض بلاغة كلماتهم التي يقرأونها دونما إدراك لماهيتها، والتي باتت أشبه بالتقليد المتعارف عليه، والذي لا بد منه عند انعقاد القمم العربية، التي باتت مدعاة للسخرية والاستهزاء، وباتت مخرجاتها مجلبة للعار .
اجتمع القادة العرب في بغداد ولم يقدموا لغزة وفلسطين دولارا واحدا، رغم حاجتهم الماسة للسنت الواحد، لم يكلفوا أنفسهم ولو من جانب إنساني تقديم مساعدات عاجلة لإنقاذ أهالي غزة من شبح المجاعة الذي يخيم عليهم في ظل انعدام أبسط مقومات الحياة نتيجة منع كيان العدو الصهيوني إدخال المساعدات، ومواصلته لحرب الإبادة الجماعية .
جاء ترامب فتسابق قادة العرب، ملوك وشيوخ أنظمة البترودولار على كسب وده والحصول على رضاه، هذا قدم طائرة بـ 400 مليون دولار، وذاك قدم تريلون وآخر زاد على التلريون من أجل عيون الشقراء (إيفانكا) ووالدها الأشقر، ليخرج ترامب بعد زيارة الحصاد بقرابة 4 تريليونات دولار، وهي حصيلة هائلة جدا لم يكن ترامب يحلم بأن يصل إليها، والبعض لم يكتفوا بالمال، بل ساقوا إليه النساء يتمايلن ويتراقصن أمامه، ليشعر بالسعادة والفرح في رحاب ملوك الدياثة والعهر.
ظننت وكل الظن إثم ، بأنني سأستمع على هامش قمة بغداد كلمة لقائد عربي ينتقد فيها كرم وسخاء صهاينة العرب المفرط جدا مع ترامب، وتجاهلهم لمعاناة أطفال ونساء غزة، ليطالبهم بالتبرع ولو بربع ولو حتى عشر ما قدموه لترامب دعما لغزة، من أجل إنقاذها من شبح المجاعة الذي يخيم عليها، ويخفف من حجم المعاناة التي يكابدها أطفالها، الذين يصارعون الموت جوعا في مشهدية تبعث على الحسرة والأسى، مشهدية يندى لها جبين الإنسانية جمعاء، ولكنني للأسف الشديد لم أستمع سوى لببغاوات من العملاء المأجورين، من وصلوا للسلطة بمباركة أمريكية وبريطانية و صهيونية، من باعوا أنفسهم وأوطانهم وشعوبهم ومقدساتهم للشيطان الأكبر وأزلامه .
قادة لم يعد في مواقفهم، وقراراتهم، وسياساتهم، وتوجهاتهم، ما يدلل على عروبتهم، أو يمت لها بأدنى صلة، تجردوا من كل شيء، وباعوا أنفسهم للشيطان، الذي وجد نفسه في حيرة، وهو يرى حالة المسخ التي هم عليها، والتي لم يكن يتوقعها، فأصابوه بالحرج وأشعروه بالغثيان، فقد تفوقوا عليه وبات يستعيذ منهم، وليس بمستغرب أن يصدر هذا من إبليس الرجيم.
قادة تصهينوا أكثر من الصهاينة، ، وتأمركوا أكثر من الأمريكيين، قادة تجمعهم الخيانة والعمالة، والخسة والنذالة، قادة باتوا يعبدون أمريكا ويسبحون بحمد ترامب، لم يعد لديهم من القيم والمبادئ والأخلاق ما يمنحهم أقل فرصة لتجميل صورهم القبيحة، وتلميع مواقفهم المخزية والمذلة والمهينة، يتوددون لترامب، يتبركون به، ويرون في ذلك سياسة وذكاء وحنكة وفطنة وفراسة ودهاء، وليته رضي عنهم، أو تعامل معهم بذرة احترام، بل على العكس من ذلك تماما، فكلما دفعوا له الجزية، كلما ازداد إهانة واحتقارا وازدراء لهم، فهذا يقول له بأنه لولا أمريكا لما تمكنت دولته من البقاء لمدة أسبوعين، وذاك يقول له لولا أمريكا لما كان لدولته أي وجود على الخارطة، وهلم جراً من الإهانات التي يتقبلها هؤلاء بكل رحابة صدر، ويقابلونها بابتسامات الذل والهوان.
خلاصة الخلاصة: لا عروبة ولا عرب، ولا إسلام ولا مسلمين، ما دامت غزة تئن، وما دام أطفالها يتضورون جوعا، ويموتون عطشا، وأمة الملياري مسلم عاجزة عن إنقاذ حياة مليوني مسلم في غزة لا حول لهم ولا قوة، يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء وأعينهم شاخصة إلى رب السماء، تشكو خذلان إخوة لهم، تنكروا لعروبتهم وإسلامهم وقدسهم، وتسابقوا على إرضاء نتنياهو، والقيام بواجب الضيافة لترامب .
والعاقبة للمتقين.