تضايف الإيمان والعقل في رواية كلارا والشمس
تاريخ النشر: 16th, October 2023 GMT
هناك كتابات فلسفية وأدبية كثيرة وأعمال درامية عديدة يجتمع أصحابها على التحذير من مغبة الانسياق وراء التطور التكنولوجي وهم يُنكِرون على المُبشِّرين بفتوحات العوالم الرقمية والافتراضية، المتحدثين عن خوارق الذكاء الاصطناعي، تغاضيهم عما أصبح للأدوات التكنولوجية من سطوة في حياة الإنسان وسكوتهم عما أصبحت تنتجه هذه الأدوات من أضرار نفسية ومجتمعية جسيمة.
يبرز وسط جملة الأعمال التي تحاول أن تتنبأ بمستقبل الإنسانية على ضوء شواهد الواقع ودلائله عمل مبهر، هو عبارة عن رواية استطاع صاحبها أن يختلق حكاية تحرك مشاعر القراء وتستحثهم على التدبر ليس في مستقبل العلاقة بين الآلة والإنسان فحسب، بل كذلك في معنى أن يكون الإنسان إنسانا ذا عقل وقلب ونفس، يضطره المرض والعجز للاستقواء بالآلة، هذه الآلة التي يحاول أن ينفخ فيها من روحه، كما نفخ الله روحه فيه هو. هذا العمل الروائي المبهر هو "كلارا والشمس" (Klara and the Sun) للكاتب البريطاني ذي الأصول اليابانية كازو إيشيغورو الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 2017.
نجد في رواية "كلارا والشمس" تجسيدا للفن الأدبي في أرقى صوره. ففضلا عن كونها رواية تمثل ضربا من ضروب الإبداع السهل الممتنع الذي يجمع بين بساطة اللغة وسلاستها وعمق الفكرة ودقتها، نجد فيها تمثلا صحيحا لروح العصر وما يعتمل فيه من مشاعر وأفكار. لقد توفّق إيشيغورو كثيرا في تسمية ظواهر وأشياء نلمسها ونشعر بوجودها ولكننا لا نقوى على العثور على الأسماء والتعابير لوصفها.
ترسم الرواية عالما ملتبسا تُطمس فيه الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال؛ إذ إن كلارا (الرّاوِيَة) ليست إنسانا، بل آلة في صفة إنسان، معروضة للبيع في أحد المتاجر. لقد بُرمِجت هي وأشباهها لتكون صديقة اصطناعية (AF: Artificial Friend) لأطفال يعيشون نوعا من العزلة المجتمعية. ظلت كلارا تراقب العالم الخارجي عبر النافذة إلى أن جاء اليوم الذي تم فيه اقتناؤها كي تصبح رفيقة الفتاة جوزي، التي خضعت لعملية تعديل وراثي كي تكون من المتفوقين في مسارها الدراسي، والتي تعاني مرضا مزمنا.
إن الذين يقرؤون الرواية يشعرون بأن إيشيغورو لم يختر أن يروي حكايتها على لسان الروبوت كلارا هكذا عبثا، بل إن لاختياره هذا دلالات كثيرة، منها أن الآلة قد أصبحت، بفضل القابلية للتعلم، قادرة على كتابة سردية الإنسان من وجهة نظر جديدة. صحيح أن كلارا ساذجة في فهمها للواقع واستيعاب تعقيداته، غير أن وجهة نظرها للأمور تمكننا من الوقوف عند معان عجيبة، تتجاوز أو تختلف عن المعاني التي يعطيها الإنسان للأحداث.
رأت كلارا، وهي تنظر إلى الخارج من النافذة، شخصا متسولا توقف عن الحركة فظنته قد مات، لكنها رأت الحياة تنبعث فيه مع طلوع شمس اليوم الجديد. وهكذا ترسخت لديها قناعة مفادها أن الشمس تستطيع أن تحيي الموتى من الآدميين. على سذاجتها، تضعنا كلارا أمام معان توسع فهمنا للأشياء. فالموت، على سبيل المثال، ليس الموت الذي تقررت معانيه عندنا مجتمعيا، بل للموت معان أخرى. أليس مَيِّتا من يتجمد عن الحركة على قارعة الطريق؟ لماذا لا يكترث المارة بتحريك إنسان متسول يفترش الأرض ويلتحف السماء؟ من وجهة نظر كلارا، لا شيء يعيد الحياة لهذا الإنسان الذي يدخل في عداد الموتى سوى الشمس. وكأننا بالمجتمع لا يعبأ بالفرد أكان حيا أم ميّتا.
وقفت بعد انتهائي من قراءة "كلارا والشمس" وقفة تأمل، أسأل كيف يستطيع إيشيغورو أن يدخل القارئ في حالة وجدانية يشعر عندها بالتعاطف والتقدير تجاه آلة
تعيش أم الفتاة جوزي في خوف دائم من أن يخطف الموت ابنتها المريضة في أي لحظة، كما سبق وأن خطف شقيقتها الكبرى. وهذا ما دفعها للطلب من كلارا أن تختزن في ذاكرتها كل حركات وسكنات جوزي، وأن تنفذ إلى أعماقها ما أمكنها ذلك، حتى إذا حصل وأن ماتت البنت، وجدت الأم العزاء في حضور الروبوت القادر على محاكاة الإنسان. وبالطبع لم تبد كلارا أي ممانعة أو تلكأ، بل انصاعت لرغبة الأم، فجعلت تحصي كل صغيرة وكبيرة من أفعال جوزي وانفعالاتها.
حين تدخل الأم في حالة من التردد وهي لا تدري أتقدم على فكرة استنساخ ابنتها أم تحجم عنها، يحاول كابالدي، الرجل غريب الأطوار المكلف بهذا الاستنساخ، أن يقنعها برجاحة الفكرة وصوابها. فيلح عليها قائلا: "لا شيء هناك. لا شيء بداخل جوزي تَعْجِز أمثال كلارا في هذا العالم عن مواصلته. لن تكون جوزي الثانية نسخة. بل ستكون هي نفسها وسيكون من حقك أن تحبيها كما تحبين جوزي الآن. ليس الإيمان هو ما تحتاجينه الآن. أنت في حاجة إلى التحلي بالعقلانية فقط".
تضعنا رواية كلارا والشمس أمام جدلية الإيمان والعقل في علاقتهما بالتكنولوجيا. نفهم من كلام كابالدي أن الآلة لا تعجز عن سبر أغوار الإنسان ما دام هذا الإنسان أصبح مختزلا في بعده العقلاني، أي كائنا مجردا من عوالق الوجدان. بل إن الآلة بإمكانها أن تبلغ بهذا الإنسان مراتب الكمال. إذ إن كابالدي يعد الأم بأن كلارا ستكون جوزي وأكثر.
في الرواية مقاطع تجلي لنا أن الآلة أصبحت قادرة على تمثل الوجدان الإنساني عقلا. حين تغامر كلارا بالابتعاد عن المنزل تشعر بالخوف من أن يغطيها العشب فيحول دونها وإيجاد طريق العودة. تقول: "كان العشب يصل إلى كتفي، وعندها تسرب خوف إلى عقلي من أن أفقد الاتجاه". فكلارا تخاف كذلك، لكن خوفها ليس خوف غزيرة، بل خوفا يتسرب إلى العقل. يقوم مثل هذا الكلام ليكون دليلا على أن للآلة وجدانا، لكنه وجدان "مُعَقْلَن".
يظهر هذا جليا من خلال تمثل كلارا للعلاقة بين جوزي وصديق طفولتها ريكي. فهي تقف عاجزة عن تصور نهاية هذه العلاقة، أو تأثرها بحالات وجدانية مع مرور الوقت وتقدم الطفلين في السن. حين قررت أن تتوسل إلى الشمس كي تشفي جوزي، ألحت على ريكي تسأله إن كان صادقا في اختياره البقاء إلى الأبد إلى جوارها. فكلارا لا تفهم أن الإنسان كائن معقد، ذو مزاج متقلب، قد يقطع عهدا على نفسه، ثم يتنكر لعهده.
حين تشفى جوزي وترحل لتواصل دراستها بعيدا عن الأم وكلارا وريكي، يحاول كابالدي أن يستدرج كلارا كي تقبل بأن تَهَب ذاتها، أو عقلها بالأحرى، للمختبر خدمة للتطور التكنولوجي، مؤكدا لها أنه يقف في صفها، أي في صف الأصدقاء الاصطناعيين، ضد من يتوجسون من تطور ذكائهم المطرد: "…كلارا، في الواقع هناك جدل واسع ومتنام حول الأصدقاء الاصطناعيين اليوم. يتساءل القوم كيف أصبحتم أذكياء إلى هذا الحد. إنهم خائفون لأنهم يعجزون عن تتبع ما يحصل بداخلكم. يرون ما تصنعون. يُقِرّون بأن قراراتكم واقتراحاتكم صائبة يمكن الاعتماد عليها، وأنها في جل الحالات صحيحة. لكنهم لا يقبلون أنهم يجهلون كيف تصلون إلى هذه القرارات والاقتراحات".
تتدخل أم جوزي كي تضع حدا للنقاش وتمنع كابالدي من محاولة الحصول على الإذن بتشريح كلارا، تطلب منه أن يدعها وشأنها، أن يتركها تتلاشى بصفة طبيعية مع انتهاء مدة صلاحيتها. وهكذا تنتهي الرواية نهاية تتجيش عندها مشاعر القارئ ويتحرك وجدانه تقديرا وتعاطفا وحبا وإجلالا أمام كلارا، الآلة الإنسان، وهي تمضي إلى سبيل حالها والتلاشي يتربص بها كما يتربص الموت بالإنسان.
وقفت بعد انتهائي من قراءة "كلارا والشمس" وقفة تأمل، أسأل كيف يستطيع إيشيغورو أن يدخل القارئ في حالة وجدانية يشعر عندها بالتعاطف والتقدير تجاه آلة. وجدت أن منشأ هذا التعاطف وهذا التقدير هو في تمثلنا لذواتنا في كلارا، هذا الكائن الآلي الذي نريده أن يكون امتدادا لنا، أن يبلغ بنا المنتهى في استعمال العقل. فالقارئ لا يلبث أن يدرك أن كلارا هي على الحقيقة صورة للإنسان المبتور، المختزل في بعده العقلي الواحد، هذا الإنسان الذي يظل مثيرا للشفقة بالنظر إلى عجزه عن استيعاب حقيقة الحياة والموت.
إن رواية كلارا والشمس تستحثنا على التفكير في الإنسان بوصفه كائنا تجتمع فيه معاني الروح الشاسعة ومعنى العقل الضيق. لقد توفق إيشيغورو في هذه الرواية أن يبلغ جملة أفكار عميقة، لعل أهمها هي الفكرة التي تقول بوجود علاقة تراحم بين الإنسان في بعده الروحي، والإنسان في بعده العقلي، لا علاقة تنافر كما يذهب إلى القول بذلك من يسعون إلى بتر هذا الإنسان من أحد هذين البعدين.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: هذا الإنسان فی بعده
إقرأ أيضاً:
وقفة للتأمل
قال تعالى في كتابه الكريم: (وخلق الإنسان ضعيفًا)
من هنا تعلمت وأدركت أن الإنسان هو أضعف كائن حي، وهذه هي الطبيعة البشرية التي جُبِلت على الوهن والضعف، مهما كابرت تلك الأنفس وتعالت وتعاظم شأنها، فهي في حقيقة الأمر ما هي إلا أنفس ضعيفة واهنة لا تقوى إلا على ما يناسبها ويشاكلها.
علمتني هذه الحياة خلال تلك التجارب التي خضتها على مدار خمس وعشرين سنة من الركض المستمر واللهاث المضني في أروقة المستشفيات المختلفةوغرف العناية المركزة وغرف الإنعاش في ذلك الوقت مع رفيق العمر زوجي الراحل رحمه الله.
تعلمت خلال تلك السنوات الطويلة الكثير، وخرجت بكم هائل من الدروس والعبر البليغة في تلك الأروقة وفي تلك الغرف كنت أرى وأسمع أنين وتوجع المرضى، وأحيانًا أرى من فارق الحياة أمامي، ولكم أن تتخيلوا مدى صعوبة ذلك الأمر على أي شخص، وهو أن يرى شخصًا آخر يلفظ أنفاسه الأخيرة أمامه.
كنت أقف وحيدة في تلك الأروقة وبين تلك الأسرة التي يرقد عليها المرضى، ورأيت من خلال تلك المناظر ما جعلني أزهد الدنيا بكبرها.
لم أجد حولي في أحلك الظروف التي مررت بها من يساندني في تلك المواقف، لا إخوة، ولا صديقات، ولا أقارب، ولا معارف.
كنت أقف كالشجرة الثابتة في قيعان الأرض، تهزني رياح الصعاب والمحن من كل اتجاه، ومن كثرة عصف كل تلك الصعاب والمحن المتتالية كدت يومًا أن أُقتلع من جذوري، لولا لطف الله بي وعونه ومساندته ورحمته فقط حينها، وفي تلك اللحظات، أدركت أن المحن هي من تزيح الستار وتكشف لك عن حقيقة معادن من هم حولك، وخاصة في محن المرض، أو الموت وهي من المحن التي يحتاج الإنسان فيها إلى الدعم والمساندة والمؤازرة.
مع الأسف، هذا الوقت الذي نعيش فيه أصبح وجود الأشخاص الحقيقيين حولنا نادراً جدا وهو اشبه بمن يبحث عن إبرة في كومة قش. مع الأسف، لم يعد هناك مشاعر متبادلة، ولا عطف متبادل، ولم يعد الأشخاص يحبذون الخير لبعضهم البعض. لم يعد هناك من تُسره مسراتك، ولا تُحزنه أحزانك، لم تعد هناك مشاركات وجدانية في هذا الزمان،.
لم يعد هناك ملاذ يلجأ إليه الفرد منا وقت شدته وضيقه سوى خالقه سبحانه، وهو أجل وأرحم وألطف من سائر البشر، فالجأوا إليه فقط.
ولأنني مررت بمحن كثيرة خلال فترة مرض “رفيق العمر” رحمه الله، دارت في عقلي تلك الأفكار عن تأثير وجود المعادن الأصيلة والحقيقية من الناس حولك، فقد يساعد ذلك بشكل أو بآخر على التغلب على الصعاب التي تواجهها، ولو بشكل بسيط.
وأخيرًا، هي دعوة للاهتمام بمن حولكم، اهتموا بمن باعدت بينكم وبينهم مشاغل الحياة، لأن الأشخاص الأوفياء النادرون اذا وجدو فهم كنز لا يفنى، فاحرصوا ألا يضيع، فقيمته وقدره يزيد مع الزمن.
وهي دعوة ايضا ووقفة للتأمل في هذه الحياة التي لا تساوي أن نتنازع عليها لحظة، ولا أن نركض وراءها برهة، فهي متاع زائل، فلنغسل قلوبنا من الحقد والغل والحسد، ونتقرب إلى الله بأعمالنا الصالحة وبالتقوى.