لجريدة عمان:
2025-05-15@06:14:14 GMT

عن أمل الكتابة الواهن

تاريخ النشر: 31st, October 2023 GMT

عن أمل الكتابة الواهن

ما معنى أن نكتب بعد؟ لم يتوقف هذا السؤال عن مراودتي بشدّة في هذه الأسابيع الماضية وأنا مسمّر أمام جهاز التلفاز الذي أتنقل بين محطاته، من واحدة إلى أخرى، بحثا عن بصيص أمل ولو واهما أو حتى واهنا. لا شيء أمامنا سوى مشاهد الشهداء الأبرياء الذين يتساقطون بالآلاف، لا شيء سوى وحشية الآلة العسكرية الصهيونية التي تفتك بقطاع غزة وتتركه وحيدا أمام مصير يبدو مجهولا حتى الآن.

لا شيء سوى هذا الدمار الرهيب الذي يلف كلّ تفاصيلنا اليومية، والذي يذكّرنا أن حياة كانت هنا، وها هي تختفي تدريجيا بعد أن مرّت عليها جحافل القتلة الذين حوّلوا كلّ شيء إلى رماد.

يطرح علينا سؤال الأدب، في هذه اللحظة بالذات، الكثير من الأسئلة؛ بل بالأحرى كل الثقافة اليوم -ثقافتنا الإنسانية- بحاجة إلى إعادة نظر ونحن نشاهد كيف تُزهق هذه الإنسانية. لا معنى لأي ثقافة إن لم تحمل في طياتها سؤال الإنسان والإنسانية. وما نشاهده اليوم، ثقافة القتل والاحتلال وتحويل الكائن البشري إلى أشلاء، وتحويل العمران إلى أطلال، وتحويل كل شيء إلى ذكرى.

ما معنى أن نكتب بعد، حين الدمار يلفنا من كلّ حدب وصوب؛ حين نعيش في «حقول من القتل» الذي لا يتوقف. مشهد واحد أمامنا تقريبا: دماء تسيل في الشوارع، تُحيل البحار إلى الأحمر، ونحن في مكاننا نتسمّر أمام الشاشات نشاهد عمليات الإعدام والحرق والذبح والقتل والقصف بأحدث الوسائل والتقنيات. أطراف بشرية مُقطعة، ورؤوس تتدحرج على الطرق.

كأن ذلك كلّه، هو المصير الفعلي الذي آلت إليه شعوبنا. لا شيء سوى صورة في صحيفة يومية، أو فيلم قصير التقطته كاميرا الهاتف، تُظهر امرأة تندب أو رجلًا ينوح فوق ركام أو طفلًا يبكي بحثًا عن والديه.

لا شيء أكثر من هذا.

صورة، ومن ثم خبر يضم بعض التفاصيل، ليطلعانا على المأساة، وكلّ لحظة هناك مأساة جديدة؛ لذلك، لا داعي للإطالة ولا داعي لكثير الكلام، ما دامت الكلمات لن تغيّر شيئًا، وما دامت الصورة، لا تثير فينا سوى حزن صغير عابر، ولفترة قصيرة مندثرة كأننا «نُوفر» أحزاننا لأشياء أخرى، نعرف أنها ستأتي. أي نعرف أن مآسي أخرى، ستظهر غدًا وربما في الشهر المقبل أو العقد المقبل وحتى القرن المقبل، لا شيء يقول لنا العكس ولا شيء يقنعنا أن عصر التراجيديات الإغريقية ولّى وانتهى لا يزال حاضرًا فينا، ما زلنا نعيشه.

هذا ما أصبحناه للأسف نقرأ الخبر أو نشاهده ونحاول أن نطرد دمعة على سبيل المثال، أو فكرة أو لعنة على هذا الكون، ما نفع ذلك ما دامت كلّ هذه الأشياء لن تغير في واقع الأمر أي شيء، ما دام القتل يلاحقنا وكأنه المصير المحتم الذي لا يمكن الفكاك منه، أو الهرب منه.

هل استعملت كلمة إنسانية في كلامي هنا؟ قد تكمن المسألة برمتها في هذه الإنسانية التي تشرف على الغروب مثلما يبدو، لنَقُل إن ثمة إنسانية تنتهي اليوم حاملة معها نهايات كثيرة: نهاية تاريخ كان ولا يزال معروفًا إلى الأمس، نهاية فكرة عن تسامح اعتقدنا أنه موجود بيننا، لكنه عمليًّا لم يكن سوى وهم من أوهامنا المتعددة. هي أيضًا نهاية جغرافيات وبلدان وربما اندثار شعوب وقوميات وإثنيات وحتى طوائف ومذاهب، الرعب لم يعد موجودًا في الآخر فقط (على الرغم من كل مشروعية الخوف منه إلى الآن). الرعب الحقيقي ينبع من داخل كل واحد منّا، «نخافنا» أكثر ممّا نخاف من أي شخص آخر.

هل يحمل كلامي أي تشاؤم؟ بالتأكيد لا أخترع شيئًا، فقط أحاول أن أصف، فكلّ التوصيفات محتملة وممكنة، بالأحرى ليست سوى توصيفات حقيقية، وبين ذلك كلّه نحاول، نحن الذين نتعاطى القراءة والكتابة، أن نبحث عن «استراتيجية ثقافية». ثمة سؤال لا بدّ أن نجده ينبثق من ذلك كله: ماذا تعني لنا بعد كلمة ثقافة وفي هذه اللحظة بالذات؟، في هذه اللحظة التي نقف فيها على مفترق الكثير من الأشياء، أقلها الحياة، بمعنى آخر، كيف علينا أن نحدد مفهوم الثقافة؟، ما هي الثقافة التي علينا أن نتحدث عنها؟

ما معنى فعلا أن نناقش في هذه اللحظات كتابا أو شريطا سينمائيا أو حفلا موسيقيا أو لوحة فنية؟ بينما الواقع يأخذنا إلى متاهات أخرى، يأخذنا إلى ما لا يمكن الهروب منه أو على الأقل تناسيه: لا شيء سوى الموت المفروض من قوى مختلفة في هذا العالم التعس والكريه، لا أفكار لديها سوى السيطرة على شعوب وتهجيرها ورميها خارج التاريخ والجغرافيا، من أجل مصالحها الخاصة. هل من معنى فعلا لذلك كله، في لحظة غروب الإنسان الحقيقي وإعادة تشكيله، ليصبح آلة تنفذ أوامر شتى؟

هل يحق لنا أن نحلم بعد بأن تكون الكتابة ملجأ، بينما هناك شعب معزول من أي ملجأ يستطيع أن يقبع فيه، كي لا يفقد حياته؟ لنتخيل هذا المشهد فقط: هذا الإنسان لا يمكنه أن يتوارى في مكان ما ساعة القصف الذي ينهمر عليه. هذا الإنسان الذي لا يستطيع دفن موتاه. وهذا الإنسان الذي جردوه من أبسط حقوقه ككائن بشري. هل تنفع الكتابة عن ذلك كله؟ حتى لو كتبناه، لا أحد يريد أن يصدق إن ذلك يحدث فعلا، ما دامت رواية القوي هي التي تسود، وهي التي تجد متسعا لها في أذهان الآخرين.

كتابتنا اليوم أشبه برسالة يخطها قبطان سفينة تشرف على الغرق، يضعها في قنينة زجاجية، ويرميها في البحر، على أمل أن تصل إلى أحد. هذا هو المشهد بالفعل: ننتظر شيئا، بالأحرى ننتظر أملا واهيا وواهنا. لعل وعسى.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ما دامت ذلک کل فی هذه

إقرأ أيضاً:

ما الذي على ترامب أن يسمعه في الرياض غدًا؟!!

تختلف القمة الخليجية الأمريكية التي يحضرها الرئيس الأمريكي ترامب هذه المرة عن تلك التي حضرها في ولايته الرئاسية الأولى، فالعالم لم يعد هو العالم والشرق الأوسط تغير كثيرا عما كان عليه في عام 2017، حتى أفكار ترامب نفسها تغيرت رغم أن استراتيجية «الصفقة» ما زالت هي التي ترسم تفاصيل المشهد في مجمله.

عودة ترامب إلى المنطقة هذه المرة لا تمثل استئنافا لتحالفات تقليدية ولكنها اختبار لتوازنات جديدة تتشكل بهدوء في شرق العالم وغربه. ولذلك سيكون أمام قادة دول الخليج الذين سيحضرون القمة غدًا مسؤولية كبيرة ليُسمعوا ترامب ما يجب أن يسمعه حول مستقبل الشراكة الخليجية الأمريكية وحدودها وشروطها.

أحد أهم الأفكار التي على ترامب أن يسمعها غدًا في الرياض أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تجاوزت كل الحدود وباتت عبئا أخلاقيا واستراتيجيا على حلفاء واشنطن، وفي مقدمتهم دول الخليج. وإذا كانت دول الخليج لا تستطيع، منطقا، الطلب من أمريكا أن تتخلى عن إسرائيل، فإن عليها في هذه القمة أن تطلب من أمريكا قبل ترامب إعادة تعريف العلاقة معها ضمن إطار يحفظ للمنطقة استقرارها ويكبح جماح السياسات التي تهدد بإشعال صراعات لا يمكن احتواؤها.

ورغم أن الحديث عن التطبيع مع إسرائيل بات مريرا، بعد سلسلة الجرائم التي ارتُكبت في غزة ولبنان وسوريا واليمن خلال الأشهر الماضية، فإن من الضروري أن توضح دول الخليج موقفها للرئيس الأمريكي إذا ما أعاد طرح ملف الاتفاقيات الإبراهيمية وتحيله إلى شروط المبادرة العربية التي تشترط قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، ودون ذلك، إن الدفع باتجاه تطبيع غير مشروط يعكس ما وصفته دراسات غربية بأنه «تسوية وظيفية» لا «تسوية سياسية»، أي بناء علاقات سطحية دون معالجة جذور الصراع، مما يهدد بإعادة تدوير العنف، إضافة إلى أنه تخلٍ واضح عن القضية الفلسطينية.

وفي هذا السياق، فإن ملف الطاقة لا يُمكن فصله عن مفهوم الشراكة الاستراتيجية. فالاستقرار الاقتصادي الذي تسعى إليه واشنطن مرهون باستقرار سياسي لا تصنعه السوق وحدها، بل يضمنه التفاهم العميق مع الحلفاء.

ولا يجب هنا أن يغيب عن بال ترامب أن موازين القوى في الخليج لم تعد أمريكية بالكامل. فالصين بعد الاتفاق النفطي في عام 2023 مع الرياض، أصبحت شريكا موازيا في التجارة والاستثمار، فيما تتقدم الهند كمحور جيو ـ اقتصادي بديل، كما أن المستثمرين الروس، وهم كثر، نقلوا الكثير من ملياراتهم إلى الخليج منذ فبراير 2022 إلى اليوم. وعلى ترامب أن يسمع بوضوح أن الحديث عن «العودة إلى الشرق الأوسط» لا يكفي وعليه أن يعرف جيدا أن الشراكة اليوم لم تعد عمودية، بل أفقية، قائمة على التوازن لا التبعية.

ثمة أمر آخر شديد الأهمية، وهو إشكالية عميقة تراكمت منذ ولاية ترامب الأولى وتتمثل في تداخل المصالح الخاصة مع مصالح الدولة، ومن حق الدول الخليجية أن تسمع إجابة واضحة: هل الشراكات التي أبرمت منذ ولاية ترامب الأولى إلى اليوم هي عميقة مع واشنطن أم مرحلية عمرها الافتراضي لا يتجاوز أربع سنوات!

هذا السؤال وما شابهه من الأسئلة ليست هامشية؛ فالثقة الاستراتيجية تُبنى على مؤسسات، لا على أفراد. والدول الخليجية لا تريد بناء علاقات استراتيجية قائمة على أفراد وإلا فإنها قادرة على البحث عن توازنات جديدة أكثر موثوقية في لحظة مفصلية من لحظات التغير العميق في العالم.

وفيما يخص الطاقة وهو موضوع لا يمكن فصله عن العلاقات الاستراتيجية والاستقرار السياسي فمن المهم أن يسمع ترامب وجهة نظر خليجية قوية مفادها أن ليس في مصلحة أمريكا أن تضعف أصدقاءها وحلفاءها عبر العمل على انهيار أسعار النفط، وكذلك فرض رسوم جمركية تنهار معها اتفاقيات التجارة الحرة بين أمريكا ودول الخليج.. تحتاج دول الخليج إلى أخذ التزامات من واشنطن تضمن استقرار المنطقة سياسيا واقتصاديا.

سيكون على الرئيس الأمريكي، إذا أراد استعادة ثقة حلفائه، أن يُظهر استعدادا للاستماع إلى الكثير من الملاحظات الاستراتيجية وفي مقدمتها أن الخليج بات قادرا على بناء شراكات استراتيجية أمنية واقتصادية مع أقطاب جديدة في العالم، وأن تكلفة دعم إسرائيل باتت عالية سياسيا وأمنيا، وأن الشراكة الاقتصادية لا يمكن أن تغطي على فجوات الثقة.

لن تكون قمة الرياض، إذن، اختبارا لشكل العلاقة مع إدارة ترامب فقط، ولكن للحظة الخليج نفسها: هل ما زالت ترى في أمريكا شريكا حصريا، أم أصبحت شريكا بين شركاء في نظام عالمي يعاد تشكيله بلا قيادة مركزية؟ الجواب لن يظهر في البيان الختامي ولكن في الخيارات الفعلية التي تتخذها العواصم الخليجية بعد القمة.

مقالات مشابهة

  • الصيدلاني الذي لوّن الأنبار.. نايف الآلوسي يحوّل فنه إلى مشروع وهوية (صور)
  • الخليج الذي نُريد
  • «من النقش إلى الكتابة» يعزز التواصل الثقافي مع تركيا
  • وزير الخارجية أسعد الشيباني: نشارك هذا الإنجاز شعبنا السوري الذي ضحّى لأجل إعادة سوريا إلى مكانتها التي تستحق، والآن بدأ العمل نحو سوريا العظيمة، والحمد لله رب العالمين. (تغريدة عبر X)
  • معنى الظلم في دعاء سيدنا يونس .. الإفتاء توضح
  • ابتزاز جديد.. ماذا الذي يريده ترامب من السيسي ..!
  • ما الذي على ترامب أن يسمعه في الرياض غدًا؟!!
  • مطر: الحريات لا تعني استفزاز المعتقدات
  • القاص العمراني: الكتابة القصصية الساخرة نادرة جداً وإقبال الناس على قصصي فاجأني
  • للنار معنى آخر .. في القاموس السياسي ..!