الحروب السردية.. معارك مدوية بلا رصاص.. أدواتها الدعاية والخطاب والإقصاء والسيطرة.. تلعب دورًا إستراتيجيا في الصراعات السياسية والثقافية.. والسوشيال ميديا أبرز ساحاتها
تاريخ النشر: 6th, November 2023 GMT
قالت الدكتورة منى رضوان، أستاذة الإعلام في جامعة عين شمس، ومؤلفة كتاب "التسويق الرقمي عبر السوشيال ميديا" ل" البوابة نيوز ": تستخدم الحروب السردية مجموعة متنوعة من الأدوات والتقنيات، بما في ذلك: أولا..الدعاية واستخدام المعلومات المضللة أو المشوهة لإقناع الجمهور بوجهة نظر معينة، ثانيا..الخطاب واستخدام اللغة المؤثرة لإثارة العواطف والمشاعر لدى الجمهور،ثالثا.
. السرد واستخدام القصص والحكايات لجذب انتباه الجمهور وجعله يتفاعل مع الرسالة.
وأضافت: تلعب الحروب السردية دورًا إستراتيجيا في العديد من الصراعات السياسية والثقافية ويمكن استخدامها لتعزيز الصراع أو للتخفيف منه، ويمكن أن يكون لها تأثير عميق على المواقف والسلوكيات فيما يلي بعض الأمثلة على الحروب السردية، أولا..الحرب الباردة واستخدمت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي الحرب السردية للسيطرة على الرأي العام حول الأيديولوجيات والأنظمة السياسية،ثالثا..الحرب على الإرهاب واستخدمت الولايات المتحدة الحرب السردية لتصوير الإرهاب الإسلامي على أنه تهديد عالمي،الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتستخدم كل من إسرائيل والفلسطينيون الحرب السردية لتعزيز دعم مواقفهم في الصراع.
وأوضحت: في السنوات الأخيرة، أصبح استخدام الحرب السردية أكثر شيوعًا بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. تسمح وسائل التواصل الاجتماعي للجهات الفاعلة في الصراع بنشر رسائلهم مباشرة إلى الجمهور، مما يجعل من الصعب تحديد الحقيقة والتحقق من المعلومات ويمكن أن تكون الحروب السردية أداة قوية للتأثير على الرأي العام. ومع ذلك، من المهم أن تكون على دراية بكيفية استخدامها وأن تكون قادرًا على التمييز بين الحقيقة والرأي.
وإختتمت: فيما يلي بعض النصائح للتعامل مع الحرب السردية، اولا..كن على دراية بمصادر المعلومات الخاصة بك ولا تثق فقط بالمصادر التي تتفق مع وجهة نظرك،ثانيا..تحقق من المعلومات التي تراها أو تسمعها. لا تأخذ أي شيء على أنه مسلم به،ثالثا..فكر بنفسك ولا تسمح للآخرين بتشكيل آرائك، من خلال فهم كيفية عمل الحروب السردية، يمكنك أن تكون أكثر مقاومة لتأثيراتها.
إستراتيجيات مكسب معركة إعلامية من خلال الحرب السردية
قالت الدكتورة رشا عبد الله، أستاذة الإعلام في جامعة المنصورة، ومؤلفة كتاب "إدارة السوشيال ميديا" ل" البوابة نيوز ": إستراتيجيات وخطوات يمكنك القيام بها لتكسب معركة إعلامية من خلال الحروب السردية، اولا..حدد أهدافك من المعركة الإعلامية، هل تريد تغييررأي الجمهور؟ أم إقناعهم باتخاذ إجراء؟ أم ببساطة زيادة الوعي بقضيتك؟،وثانيا..فهم جمهورك من أجل أن تتمكن من التواصل معهم بشكل فعال. ما هي اهتماماتهم؟ ما هي قيمهم؟ ما هي نقاط قوتهم وضعفهم ؟، وثالثا..إستخدم لغة قوية واضحة وقوية لإيصال رسالتك وتجنب المصطلحات الفنية أو المعقدة التي قد لا يفهمها جمهورك، ورابعا..كن متسقًا فى رسالتك عبر جميع قنوات الاتصال فهذا سيساعدك على بناء الثقة مع جمهورك، خامسا..كن مبدعًا واستخدم الإبداع لجذب انتباه جمهورك. ابتكر محتوى مثيرًا للاهتمام وممتعًا يترك انطباعًا، سادسا..كن صبورًا فقد يستغرق الأمر بعض الوقت لكسب معركة إعلامية. لا تستسلم إذا لم ترى النتائج على الفور.
وتكمل: فيما يلي بعض الاستراتيجيات المحددة التي يمكنك استخدامها لتكسب معركة إعلامية: اولا..استخدم القصص لانها طريقة قوية لجذب انتباه الجمهور ومشاركة رسالتك واستخدمها قصصًا واقعية أو خيالية لتوضيح وجهة نظرك،وثانيا..استخدم البيانات: البيانات هي طريقة قوية لإثبات وجهة نظرك وقدم بيانات موثوقة لدعم ادعاءاتك،وثالثا..استخدم الشخصيات المؤثرة الذين يحظون باحترام وتقدير من جمهورك وتعاون مع الشخصيات المؤثرة لنشر رسالتك،رابعا..استخدم وسائل التواصل الاجتماعي لانهاأداة قوية للتواصل مع الجمهور على نطاق واسع استخدم وسائل التواصل الاجتماعي لنشر رسالتك ومشاركة المحتوى الخاص بك.
أدوات قوة الحروب السردية
قال الدكتور عبد الله إبراهيم، أستاذ الأدب والنقد في جامعة القاهرة، ومؤلف كتاب "الحرب السردية في الرواية العربية" ل " البوابة نيوز ": تستخدم الحروب السردية مجموعة متنوعة من الأدوات والتقنيات لتشكيل تصورات الجمهور عن قضية أو حدث وتسعى هذه الأدوات إلى التأثير على الرأي العام وتشكيل الدعم للموقف أو المسار الذي تفضله الجهة التي تمارسها، فيما يلي بعض من أكثر أدوات وتقنيات قوة الحروب السردية شيوعًا في الاستخدام، أولا.. السيطرة على الخطاب واستخدام القوة أو الضغط لمنع التعبير عن وجهات نظر معينة. يمكن أن يؤدي ذلك إلى خلق بيئة لا يمكن فيها مناقشة القضايا أو الأحداث بحرية، ثانيا..الإقصاء والتأكيد على الاختلافات بين الجماعات والأفراد لخلق الانقسام والتوتر ويمكن أن يؤدي الإقصاء إلى جعل الناس أكثر تعاطفًا مع وجهة نظر معينة وأقل تعاطفًا مع وجهة نظر أخرى.
ثالثا..الدعاية واستخدام المعلومات المضللة أو المشوهة لإقناع الجمهور بوجهة نظر معينة. يمكن أن تشمل الدعاية الأخبار الكاذبة، والإشاعات، والخطابات التحريضية، والصور والفيديو المضللة، رابعا..الخطاب استخدام اللغة المؤثرة لإثارة العواطف والمشاعر لدى الجمهور. يمكن للخطاب أن يعزز الشعوربالخوف أوالكراهية أوالغضب،ممايجعل الناس أكثر عرضة للقبول بوجهة نظر معينة، خامسا..السرد: استخدام القصص والحكايات لجذب انتباه الجمهور وجعله يتفاعل مع الرسالة ويمكن للسرد أن يساعد في ربط الحدث أو القضية بقيم وتجارب الجمهور، مما يجعلها أكثر صلة وقابلية للتصديق وتستخدم هذه الأدوات والتقنيات بشكل متكرر معًا لخلق سرد موحد ويمكن أن يكون هذا السرد قويًا جدًا لأنه يمكن أن يؤثر على أفكار ومشاعر الناس دون أن يدركوا ذلك.
وأضاف: فيما يلي بعض الأمثلة على كيفية استخدام هذه الأدوات والتقنيات في الحروب السردية: في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يستخدم كل من إسرائيل والفلسطينيون الدعاية والخطاب والسرد لتعزيز دعم مواقفهم في الصراع والغريب تأكيد إسرائيل على السرد الإسرائيلي للتاريخ والحق، بينما يؤكد الفلسطينيون على السرد الفلسطيني للظلم والقمع، خلال الحرب على الإرهاب، استخدمت الولايات المتحدة الخطاب والسرد لتصوير الإرهاب الإسلامي على أنه تهديد عالمي. ركزت الولايات المتحدة على المشاعر الخوف والغضب من الإرهاب، مما جعل الناس أكثر عرضة للقبول بوجهة نظرها، وخلال الحرب الباردة، استخدمت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي الدعاية لتصوير بعضهما البعض على أنهم تهديدات وجودية. استخدمت الولايات المتحدة الخطاب التحريضي لتصوير الاتحاد السوفيتي على أنه دولة شيوعية عدوانية، بينما استخدم الاتحاد السوفيتي الدعاية المضللة لإظهار أن الولايات المتحدة كانت دولة رأسمالية فاسدة.
وأكد دكتورعبد الله قائلا: في السنوات الأخيرة، أصبح استخدام الحرب السردية أكثر شيوعًا بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. تسمح وسائل التواصل الاجتماعي للجهات الفاعلة في الصراع بنشر رسائلهم مباشرة إلى الجمهور، مما يجعل من الصعب تحديد الحقيقة والتحقق من المعلومات،من المهم أن تكون على دراية بكيفية استخدام الحروب السردية وأن تكون قادرًا على التمييز بين الحقيقة والرأي. فيما يلي بعض النصائح للتعامل مع الحرب السردية:كن على دراية بمصادر المعلومات الخاصة بك ولا تثق فقط بالمصادر التي تتفق مع وجهة نظرك، تحقق من المعلومات التي تراها أو تسمعها. لا تأخذ أي شيء على أنه مسلم به، فكر بنفسك. لا تسمح للآخرين بتشكيل آرائك لك ومن خلال فهم كيفية عمل الحروب السردية، يمكنك أن تكون أكثر مقاومة لتأثيراتها.
ويضيف الدكتور عبد الله إبراهيم: يجب أن تتضمن الحروب السردية معلومات دقيقة أو كاملة. وقد تستخدم ابعض الجهات او الدول لمعلومات المضللة أو المشوهة لتحقيق أهدافها مثل اسرائيل فى. يمكن أن تتضمن الحروب السردية أيضًا التأكيد على الحقائق الجزئية أو تجاهل الحقائق الأخرى.
الغرض من الحرب السردية
وأوضح دكتورعبد الله قائلا: الغرض من الحرب السردية هو تشكيل تصورات الجمهور عن قضية أو حدث. للقيام بذلك، غالبًا ما يتم استخدام السرد والخطاب لإثارة العواطف والمشاعر لدى الجمهور. يمكن أن تكون هذه العواطف قوية جدًا بحيث يمكن أن تؤدي إلى تجاهل الناس للواقع أو التصديق على المعلومات المضللة، فيما يلي بعض الأمثلة على كيفية استخدام المعلومات غير الدقيقة أو المشوهة في الحروب السردية: في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الحرب على الإرهاب وخلال الحرب الباردة، ومن المهم أن تكون على دراية بكيفية استخدام المعلومات غير الدقيقة أو المشوهة في الحروب السردية ويمكن أن يساعدك ذلك على التمييز بين الحقيقة والرأي ومقاومة تأثيرات الحرب السردية.
ونصح دكتور عبد الله مستخدمى الحرب السردية بأن تكون على دراية بمصادر المعلومات الخاصة بك ولا تثق فقط بالمصادر التي تتفق مع وجهة نظرك وتحقق من المعلومات التي تراها أو تسمعها. لا تأخذ أي شيء على أنه مسلم به فكر بنفسك. لا تسمح للآخرين بتشكيل آرائك لك، من خلال فهم كيفية استخدام المعلومات غير الدقيقة أو المشوهة في الحروب السردية، يمكنك أن تكون أكثر مقاومة لتأثيراتها.
الحروب السردية والعقل والمنطق
قالت الدكتورة رشا عبد الله، أستاذة الإعلام في جامعة المنصورة: غالبا ما لا تتفق الحروب السردية مع المنطق والعقل والفلسفة. وهي أداة خطيرة يمكن أن تؤدي إلى نتائج سلبية، يمكن القول أن الحروب السردية تتفق مع المنطق والعقل والفلسفة في بعض الحالات،مثل القصص التي تروي عن الحروب العسكرية وجبهاتها لا تكون دقيقة وحقيقية.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: سوشيال ميديا وسائل التواصل الاجتماعی استخدام المعلومات الولایات المتحدة کیفیة استخدام من المعلومات خلال الحرب فی الصراع فی جامعة عبد الله ویمکن أن یمکن أن على أنه تتفق مع من خلال
إقرأ أيضاً:
الحرب التي أجهزت على السلام كله
لا بد أن يكون أحدكم قد جاوز الأربعين كثيرًا لتكون لديه ذكرى مباشرة لما جرى في تسعينيات القرن الماضي إذ ظن الفلسطينيون والإسرائيليون أنهم توصلوا إلى طريقة ينهون بها قرن الصراع فيما بينهم، كان طائف الأمل الذي طاف بهم عابرا، وأبعد ما يكون عن العمومية، لكنه كان حقيقيًا. لقد طواه النسيان الآن، وبات أقرب إلى أن يعد خدعة، ووهمًا مخاتلًا. والآن، وقد مر أكثر من عام ونصف العام على الحرب الأكثر دموية فيما يزيد على قرن من الصراع بين العرب واليهود، يصعب أكثر من ذي قبل أن نشاهد الصور المريعة الواردة من غزة، ويصعب ذلك حتى على من يكسبون لقمة عيشهم من هذا، ومن يؤثرون لو كانوا حاضرين شخصيًا لولا أن إسرائيل أغلقت المنطقة وحظرت دخول الصحفيين الأجانب ضمن كثيرين حظرت دخولهم.
وفي الطريق طوفان أعتى من الرعب، إذ تستعد إسرائيل الآن لهجمة يتعهد رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بأن تكون «دخولا كثيفا إلى غزة». ونعلم نحن العاملين في مهنة الأخبار أن عالمنا المضطرب يمدنا بكثير من الأحداث الأليمة فلا يبقى لبعضنا من سبيل إلى التكيف معها إلا بالإمساك عن النظر.في بعض الأحيان يتراءى لي بصيص ذكرى مهتزة لزمن رأينا فيه شيئا من الأمل، يثيره اسم أو وجه على طريق في غزة ينتهي بحواجز خرسانية ونقاط تفتيش أغلقتها إسرائيل خلال الشهرين الماضيين في وجه شتى أشكال الإغاثة.
قال توم فليشر - وهو الدبلوماسي البريطاني السابق وكبير مسؤولي الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة: إن الإسرائيليين «صادقون صدقا مثيرا» إذ يقولون إن الغاية من تجديدهم الحصار هو الضغط على حماس، ولا بد كما أكد فليتشر من إطلاق سراح بقية الرهائن، ولكن «محاصرة الإغاثة قتل» وانتهاك من إسرائيل للقانون الدولي تنزل به «عقابا جماعيا وقاسيا».
يستحيل في ظل ما أصبحت عليه الأمور أن نرى سبيلا يسوق به الفلسطينيون والإسرائيليون أنفسهم، أو يساقون من خلاله، إلى حيث يمكن أن يحاولوا الوصول إلى السلام من جديد. وها هو جيل آخر تسحقه الحرب. في عام 1993، حين كان لدينا أمل، تحققت لحظة الذروة في بداية العملية، لأن النهاية كانت فشلا ودما مراقا، إذ استحال الصيف خريفا في واشنطن، وتصافح الأعداء القدامى في وضح النهار داخل حديقة البيت الأبيض. وتيسر ذلك إثر مفاوضات سرية بدأت عند انصرام ذلك العام في أوسلو، فجرت في أول الأمر بين أبي علاء من منظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا لرئيسها ياسر عرفات، وأستاذين جامعيين إسرائيليين كانا يرفعان تقاريرهما إلى يوسي بيلين نائب وزير الخارجية في بلدهما.
كان لزامًا أن تكون لقاءات أوسلو سرية، إذ أراد كلا الطرفين اجتناب المخاطرة السياسية إلى أن يتحقق ما يستحق الإعلان. كان البرلمان الإسرائيلي قد أزال للتو قانونا يحظر على المواطنين الاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن الحكومة كانت لا تزال على المستوى الرسمي تعارض أي مفاوضات مباشرة مع منظمة يقودها عرفات الذي كانت تعده إسرائيل إرهابيًا لا أمل في إصلاحه. وقد شهد النرويجيون الذين جمعوا بين مفاوضي أوسلو في منزل ريفي منعزل بمدى صعوبة الوصول بهم إلى اتفاق.
إذ قالت الدبلوماسية النرويجية مونا جول: إن «عملهم معًا على مدار الساعة كان مشحونا بالعواطف للغاية، فقد تسمع في جنح الليل صيحة قائل -لا أمل. لا يمكنني البقاء هنا بعد الآن-». ولو أن الأمر بلغ ذلك القدر من المشقة على أولئك الملتزمين بالتفاوض لإنتاج اتفاقية محدودة -هي محض إطار لمزيد من المحادثات التي قد تفضي إلى اتفاقية سلام- فتخيلوا أي مدى يبلغه ارتفاع الجبل الآن.
لذلك كان لافتًا للغاية، ومباغتًا للغاية، أن نرى في الثالث عشر من سبتمبر سنة 1993 وجه الرئيس الأمريكي الطازج بيل كلينتون إذ يفتح ذراعيه وكأنه ابن أخ طيب بينما يصافح ياسر عرفات رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين. كانت عيوب الاتفاقية بادية للعيان منذ البداية. فقد كان الإسرائيليون -المؤمنون بأن الأراضي المحتلة منحة من الرب لليهود- يعارضون مفهوم مبادلة الأرض في مقابل السلام.
كما استقال الشاعر الفلسطيني محمود درويش من منظمة التحرير الفلسطينية احتجاجًا وكتب قصيدة وصف فيها مراسم البيت الأبيض بـ«الشريط السينمائي الملوَّن». وانتهى إلى أن المقاومة لا بد أن تستمر. ولكن العالم شهد أعداء أشد لددا يحاولون كسر لعنة صراع دام لأجيال. فكان الوقع تاريخيا عند مشاهدة ياسر عرفات واقفا بجانب رابين ووزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز، وهم ثلاثة رجال طالما بقوا في قلب الصراع لأمد بعيد.
كان رابين -رئيس الوزراء الصلب عام 1993- هو القائد العام في نصر حرب الأيام الستة في يونيو 1967 على مصر والأردن وسوريا. إذ استولت إسرائيل على الضفة الغربية، ومنها القدس الشرقية، وغزة ومرتفعات الجولان، محيلة الصراع إلى ما هو عليه الآن. في عام 1948، قاد رابين -وهو في العشرينيات من عمره- وحدة نخبوية في حرب استقلال إسرائيل ورأى فيه الإسرائيليون بطلًا. ويتذكر الفلسطينيون دور رابين في الترحيل القسري لأكثر من خمسين ألف مدني عربي من بلدتي الرملة واللد. ويطلق الفلسطينيون على الأحداث السابقة على إعلان إسرائيل الاستقلال والتالية لها اسم «النكبة».
إذ فرَّ أكثر من سبعمائة ألف فلسطيني من الزحف الإسرائيلي أو تعرضوا للطرد بالقوة ولم يتمكنوا، كلهم تقريبا، من العودة.وبالنسبة للفلسطينيين كان ياسر عرفات تجسيدًا لنضالهم، فهو الرجل الذي بلغ به الحرص على مقاتلة إسرائيل حد أن أطلق عليه رفاقه الأكثر تحليا بالحذر لقب «المجنون» حينما بدأ الهجمات على الحدود مع لبنان في أوائل ستينيات القرن العشرين، متجاهلًا العقبات التي بدت كأداء.
وكانت لحظته قد حانت إثر إصابة الزعماء العرب بالذهول والانبطاح والمذلة بعد انتصار إسرائيل في عام 1967. في ظل الهزيمة، نهض عرفات للقتال، فكان يتنقل متنكرًا لجمع السلاح من ميادين المعارك وينظم مئات الهجمات. ولما ردت إسرائيل في عام 1968 بهجمة كبيرة على مخيم الكرامة في الأردن، وهو معقل عرفات وفصيل فتح التابع له، كان الفلسطينيون في الانتظار. فلقي ما لا يقل عن ثمانية وعشرين إسرائيليا، وستين أردنيا، ومائة فلسطيني، مصرعهم في يوم واحد.
وأعلن عرفات النصر وتأسست أسطورته. وإذا بزعيم منظمة التحرير الفلسطينية، بنظارته الشمسية، ولحيته النابتة، وكوفيته ذات اللونين الأسود والأبيض، يتصدر غلاف مجلة تايم.اكتمل الثلاثي ببيريز وزير خارجية إسرائيل. وكان -شأن رابين- في قلب أحداث بلده منذ العشرينيات. في عام 1948، كان بيريز الشاب هو الذراع الأيمن لرئيس وزراء إسرائيل اليميني الأول ديفيد بن جوريون. لم يلتحق قط بالجيش ولم يحظَ من الإسرائيليين بمثل الثقة التي حظي بها رابين، منافسه السياسي العتيد، ولكن صفقات الأسلحة التي أبرمها أسهمت كثيرا في تحويل إسرائيل إلى قوة عسكرية كبيرة في المنطقة قاد هو سعيها السري الناجح إلى امتلاك أسلحة نووية.
كان أولئك الرجال الثلاثة، لأسباب مختلفة، مستعدين للتفكير في إنهاء الصراع الذي شكّل حياتهم وهيّمن عليها. في عام 1993 كان لا بد من جهد وشجاعة لاعتناق التفكير الجديد اللازم لمحاولة إنهاء حرب لم يكن أي من الجانبين بقادر على الانتصار فيها. وآنذاك والآن، كان ولا يزال التشبث بطقوس الكراهية والموت المألوفة هو الأمر الأيسر، حتى وقد غرق الصراع في أعماق جديدة من اليأس بعد أن هاجمت حماس إسرائيل في السابع من أكتوبر سنة 2023. في غزة، يقتطع الفلسطينيون في بعض الأحيان أوقاتا من نضالهم اليومي من أجل البقاء لكي يتظاهروا ضد حماس.
وفي إسرائيل يدين بعض منتقدي نتنياهو -الذي تجاوز في سنة 2019 بن جوريون بوصفه أطول رؤساء وزراء إسرائيل في الخدمة- ويرونه نذير حرب دائمة، وبأنه يحارب لا لأجل إنقاذ بقية الرهائن أو لأجل أمن شعبه وإنما من أجل نجاته هو وتقوية سلطته الشخصية، وتأخير محاسبته على دوره في الإخفاقات الأمنية التي أتاحت لحماس الهجوم بذلك الأثر المميت في السابع من أكتوبر سنة 2023.
جاءت الوثيقة الموقعة في واشنطن في ذلك اليوم من عام 1993 من رابين ومفاوض منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس -وهو الرئيس الفلسطيني الآن- حاملة عنوانا سقيما هو «إعلان مبادئ ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت»، وإن اشتهر ذلك الحشو اللفظي الدبلوماسي باسم أفضل هو اتفاقيات أوسلو. وكان العالم قد شهد تغيرًا إضافيًا، إذ حضر وزير الخارجية الروسي أندرو كوزيريف بصفة شاهد.
ظن ملايين الإسرائيليين والفلسطينيين -وليس جميعهم على أي حال- عندما رأوا ما يجري أن كل شيء يتغير. وفي عام 1933 كانت الغالبية في كلا الجانبين مهيأة لأن تمنح المفاوضات فرصة، وتنحي الشك وفقدان الثقة جانبا. وكان السبب الأكبر للتفاؤل هو أن طرفي الحديث اعترفا بوجود أحدهما الآخر وبأن لكل منهما حقوقًا وطنية. فسلّم الفلسطينيون بأن تحصل إسرائيل على 78% من الأرض القائمة في ما بين النهر والبحر، أي المنطقة التي كانوا يسيطرون عليها عشية حرب 1967. وسلّمت إسرائيل بمبدأ الحكم الذاتي الفلسطيني على 22% مما يتبقى. وقد كتب آفي شلايم - مؤرخ الصراع الرائد في جامعة أكسفورد، وأحد أشد منتقدي نتنياهو وحكومته الآن، وأحدث كتبه يحمل عنوان «إبادة جماعية في غزة» - في مطلع عام 1994 أنها «كانت من أشد لحظات تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين احتداما.
ففي خطوة واحدة مذهلة، أعاد الزعيمان رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها».
أتيح لعرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية الرجوع إلى أجزاء من المناطق الفلسطينية المحتلة، فاقتصر ذلك في أول الأمر على غزة وأريحا، أي الواحة العتيقة المغبرة في وادي الأردن. وكانت الخطة تتمثل في البدء بإبرام اتفاقيات على قضايا حساسة صغيرة، على أمل أن يتم بطريقة ما تكوين الزخم اللازم لحل القضايا الكبيرة. إذ عمد الجميع إلى تأجيل تلك القضايا في أوسلو لأن أيا منها كان كفيلا بإفساد الصفقة، وكانت له القدرة على وأد عملية السلام في مهدها.
وكان ملف قضايا «الوضع النهائي» المؤجل ذا إشعاع سياسي، إذ احتوى مسألة تقسيم القدس بهدف إنشاء عاصمة بطريقة ما لكلا الشعبين، ومستقبل المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، وتحدِّي ترسيم حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية، ومسألة ما إذا كان سيتسنى للاجئي حربي 1948 و1967 الفلسطينيين الرجوع يومًا إلى الوطن.
بعد قرابة ثمانية عشر شهرا من المراسم في حديقة البيت الأبيض، انتقلت إلى القدس لأصبح مراسلًا لهيئة الإذاعة البريطانية في الشرق الأوسط. كنت قد قضيت أغلب السنوات الأربع السابقة أعمل في تغطية الحروب الناجمة عن سقوط يوغسلافيا. وأصيبت صديقة لي من سراييفو -وكانت صحفية نجمة تعمل للتليفزيون الإسباني- بالذهول حينما أخبرتها أنني ذاهب إلى القدس. وقالت إن الحكاية هناك قد انتهت، وأنهم يقيمون السلام.
وبالطبع جانبها الصواب، شأن جميع من تزايدت آمالهم لوهلة. فالسلام بات سرابا. ولعله لم يكن ممكنا قط. أدان مثقفون فلسطينيون كبار عرفات لبيعه الشعب بالاتفاق على صفقة سمحت لإسرائيل بتوسيع المستوطنات لليهود على الأراضي المحتلة التي أرادوها لإقامة الدولة. فوصف إدوار سعيد -أستاذ العلوم السياسية والكاتب الفلسطيني الأمريكي- ذلك بالاستسلام. وفي مجلة «لندن رفيو أوف بوكس» اشتد في نقده لـ«عرض الأزياء المبتذل الذي أقيم في مراسم البيت الأبيض، ومهانة ياسر عرفات إذ يوجه الشكر للجميع على تأجيل أغلب حقوق الشعب، ووقار أداء بيل كلينتون السخيف، وكأنه إمبراطور روماني في القرن العشرين يقود ملكين تابعين لسلطانه في مراسم تصالح وإذعان. وفي نهاية المطاف طغت على بلاغة سعيد العظيمة جماعتان مسلحتان فلسطينيتان تأسستا في ثمانينيات القرن العشرين، هما جماعتا حماس والجهاد الإسلامي اللتان ذكَّرتا الإسرائيليين بألا يؤمنوا بالسلام إذ أرسلتا التفجيريين الانتحاريين لقتل مدنيين إسرائيليين في المقاهي والحافلات.أراد المتشددون في كلا الجانبين تحطيم عملية أوسلو. ففي فبراير 1994 استعمل باروخ جولدشتاين المتطرف اليهودي أمريكي المولد بندقية هجومية لقتل تسعة وعشرين فلسطينيا كانوا يصلون في الحرم الإبراهيمي بالخليل، وهو موقع يقدسه الإسرائيليون أيضًا ويسمونه «كهف البطاركة»، فهو مكان يؤمن اليهود والمسلمون والمسيحيون أن فيه قبر النبي إبراهيم وابنيه إسحاق ويعقوب وزوجاتهم سارة ورفقة وليا. ظل جولدشتاين يطلق الرصاص إلى أن تغلب عليه بعض الناجين وظلوا يضربونه حتى الموت. وقد حذر اليمين الإسرائيلي، ونجمه الصاعد بنيامين نتنياهو، من أن التنازل عن الأراضي يعرض حياة كل إسرائيلي للخطر. ساعد نتنياهو في إثارة حشود غاضبة من القوميين اليهود الذين لعنوا رابين ووصفوه بالخائن والقاتل. وفي مظاهرة بميدان صهيون في القدس في الخامس من أكتوبر سنة 1995 كان من ضمن اللافتات لافتة ساخرة من رابين ترسمه في زي قوات الأمن النازية [SS]. وبعد شهر من ذلك، مات رابين برصاص متطرف يهودي في تل أبيب. وخلال أول التحقيقات معه في اغتيال رابين، طلب القاتل شرابًا ليشرب نخب إنقاذه إسرائيل من خائن تنكر لترتيبات الرب للشعب اليهودي.عند مقتل رابين كانت المفاوضات بالفعل متأخرة كثيرة عن جدولها. لكن عرفات ورابين، العدوين اللدودين، كانا قد توصلا إلى احترام جاء على غير توقع، وعلى مضض. وجهت ليا، أرملة رابين، الدعوة إلى عرفات لزيارة منزل عائلة رابين في تل أبيب لتقديم واجب العزاء. ورفضت مقابلة نتنياهو. وبعد ستة أشهر، فاز نتنياهو على شيمون بيريز بأغلبية ضئيلة وأصبح رئيسًا للوزراء للمرة الأولى.
وأرد تمامًا أن تكون محاولة صنع السلام منذورة بالفشل، بوجود رابين أو غيابه، وهو الزعيم الإسرائيلي القادر أكثر من غيره على طمأنة مواطني شعبه. فقد حدث قبيل اغتياله أن أعلن حيدر عبد الشافي -وهو طبيب يحظى باحترام كبير في غزة ومؤسس لمنظمة التحرير الفلسطينية استاء من التنازلات والفساد المحيطين بعرفات- أن أوسلو فشلت، وكتب أنه «من الواضح الآن أن إسرائيل عازمة على المحافظة على وجودها، وسيطرتها على الأراضي، والمستوطنات. وفي واقع الأمر، أن ما لم ينتبه إليه أحد هو أن إسرائيل لم تتخلَ قط عن حقها في الأراضي المحتلة كاملة، بما يتناغم مع البرنامج الصهيوني».
قبل عام من الاغتيال، حصل عرفات وبيريز ورابين مشتركين على جائزة نوبل للسلام. وبعد الاغتيال كثّفت حماس حملة تفجيراتها الانتحارية. وفي غضون أيام في فبراير 1996 هوجمت الحافلة رقم 18 مرتين في القدس على مقربة من مكتب هيئة الإذاعة البريطانية في طريق يافا مما أسفر عن مصرع خمسة وأربعين شخصا. وكان العقل المدبر هو محمد ضيف من جماعة حماس الذي ظل عدوًا مميتًا لإسرائيل حتى مصرعه في غارة جوية على غزة في الصيف الماضي.
بعد هجمتي الحافلة سنة 1996، بعث عرفات -بضغط من بيل كلينتون- رجاله لتعقب حماس والجهاد الإسلامي. وفي موقع مقابر الكومنولث البريطانية الوادعة في غزة أجريت حوارا مع رجل خلت أطراف أصابعه من الأظافر بعد أن انتزعها رجال عرفات إثر اعتقاله للاشتباه بانتمائه لحماس. وبعد ثلاثين عاما، غزة الآن أطلال وأكثر من خمسين ألف فلسطيني لقوا مصرعهم. ويقول نتنياهو إنه وحده القادر على تأمين الإسرائيليين، ولذلك فإنه لن يسمح أبدًا للفلسطينيين بإقامة دولة يمكن أن يستعملوها قاعدة للهجوم على اليهود.
لا وجود في جميع أجيال الصراع بين اليهود والعرب ما يقترب من هول السابع من أكتوبر والشهور التسعة عشر التالية له. وهذه المستويات الجديدة من عمق التجرد من الإنسانية، لدى كلا الجانبين، تلقى بظل داكن على المستقبل. لقد كان عدد كاف من الفلسطينيين في تسعينيات القرن الماضي مهيئين للثقة في عرفات وعدد كاف من الإسرائيليين يثقون في رابين، فكان ذلك كافيًا لفرجة تسمح بموعد قد يفلح فيه السلام، إن توفر الحظ وتوفر لدى الجانبين تصميم أكبر على التخلي عن أعز الأحلام والمعتقدات. وها هي الفدوة وقد انسدت وباتت الآن دفينة أعماق الماضي.
أما الذي لا يزال حيًا وخطيرًا فهو الوهم بأن النصر الكامل ممكن لأي طرف. فلا بد أنه كان ماثلا، في السابع من أكتوبر، في أذهان الرجال الذين انطلقوا من غزة وقتلوا قرابة ألف ومائتي شخص أغلبهم مدنيون وأسروا مائتين ووحدا وخمسين. ووهم النصر قوي بالمثل في يمين إسرائيل القومي المتطرف الذي يديم زعماؤه بقاء نتنياهو في السلطة. ويؤجج دونالد ترامب أحلامه بخرافته الخطيرة حول تحويل غزة إلى دبي البحر المتوسط المملوكة لأمريكا والخالية من الفلسطينيين.
مات الأمل قبل أمد بعيد من السابع من أكتوبر سنة 2023. وفي السنين المفضية إلى ذلك اليوم، شأن كثر ممن شاهدوا الصراع عن كثب، كنت أشعر بانفجار عنف قادم في الأفق. لكنني تصورت أن تحدث في القدس أو الضفة الغربية، لا في غزة. بل إنني تساءلت في بعض الأحيان لو أن صدمة دم يراق هي التي سترغم الجانبين على العثور على طريق رجعة إلى التفاوض. فلما وقعت الواقعة، أحال القتل الانقسام إلى هوة ما لها قرار. وها هي الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين على أرض ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط تمضي إلى قرنها الثاني.
جيريمي بوين محرر الشؤون الدولية في هيئة الإذاعة البريطانية، ومؤلف كتاب «صناعة الشرق الأوسط: تاريخ شخصي».
عن ذي نيوستيتسمان