تحظى الدورة الثامنة والعشرين من مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ “COP28” التي تُعقد خلال الفترة من 30 نوفمبر إلى 12 ديسمبر من العام الجاري في مدينة إكسبو دبي، باهتمام عالمي متصاعد، حيث يعقد العالم عليها آمالاً وطموحات كبيرة لوضع حلول جذرية وواقعية لتسريع العمل المناخي العالمي، ومعالجة “حالة الطوارئ المناخية” التي يتزايد تأثيرها يوماً بعد يوم في جميع أنحاء الكرة الأرضية، مع التركيز على الحد من الانبعاثات والتخفيف من تداعيات تغير المناخ ومساعدة البلدان على التكيف معها، وإعطاء دفعة كبيرة للجهود الدولية الساعية إلى تنفيذ التعهدات والالتزامات الخاصة بمواجهة تغير المناخ.


وتتصاعد أخطار تغير المناخ تجاه التقدم والتنمية في دول العالم كافة، في ظل الارتفاع الشديد لدرجة حرارة الأرض وتزايد حدة الكوارث الطبيعية، ولذا فإن التقدم العالمي نحو الحفاظ على إمكانية تفادي تجاوز ارتفاع درجة حرارة الأرض مستوى 1.5 درجة مئوية وفقاً لاتفاق باريس للمناخ 2015، يتطلب إجراءات سريعة ومتتالية على المدى الطويل، وفي جميع الجوانب، سواء الطاقة أو الصناعات أو استدامة المباني والمدن، من أجل خفض الانبعاثات الضارة، بالتزامن مع تلبية الزيادة الكبيرة المتوقعة في الطلب على الطاقة نتيجة ارتفاع تعداد سكان كوكب الأرض.
وتتولى دولة الإمارات، خلال “COP28”، قيادة العمل على توفيق الآراء وتنسيق الجهود العالمية لتحقيق هذه الأهداف والعمل على زيادة القدرة الإنتاجية العالمية للطاقة المتجددة 3 مرات بحلول عام 2030، وضمان تبني جميع دول العالم للالتزام الذي تبنته دولة الإمارات وأكثر من سبعين دولة أخرى، بتحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2050، وتحفيز العمل الجماعي لتحويل النظم الغذائية إلى نظم مستدامة، وحث دول العالم على اغتنام هذه الفرص لدفع العمل المناخي إلى الأمام، مع التركيز على تعزيز الحلول القائمة على الطبيعة.
وتمثل حملة “استدامة وطنية”، التي أُطلقت تزامناً مع الاستعدادات لمؤتمر “COP28”، منصة مثالية للتوعية بمبادرات ومشروعات الاستدامة في الدولة، حيث تهدف إلى نشر الوعي حول قضايا الاستدامة البيئية، وتشجيع المشاركة المجتمعية، ودعم الاستراتيجيات الوطنية ذات الصلة بالعمل المناخي، بما يحقق التأثير الايجابي على سلوك الأفراد ومسؤولياتهم، وصولاً إلى مجتمع واع بيئياً.

– تحذير عالمي.
ويكتسب “COP28” أهمية إضافية كونه سيشهد الاستجابة لأول حصيلة عالمية لتقييم التقدم المحرز في تنفيذ أهداف اتفاق باريس، حيث يعد المؤتمر محطة مهمة وحاسمة لتوحيد الرؤى، والاستجابة للتقارير العلمية التي تشير إلى ضرورة خفض الانبعاثات بنسبة 43% بحلول عام 2030، كما سيشكل نقطة فارقة في مسيرة الجهود العالمية لمواجهة تحديات تغيّر المناخ، وزيادة التمويل، ورفع سقف طموحات والتزامات الدول تجاه تحويل تحديات المناخ إلى فرص اقتصادية وتنموية مستدامة، وتعزيز الإجراءات العالمية لتخفيف تداعيات التغيّرات المناخية.
وتستند خطة عمل رئاسة “COP28” إلى 4 ركائز، تتضمن تسريع تحقيق انتقال منظّم وعادل ومسؤول ومنطقي في قطاع الطاقة، وتطوير آليات التمويل المناخي، وحماية البشر والطبيعة وتحسين الحياة وسُبل العيش، واحتواء الجميع بشكل تام في منظومة عمل المؤتمر.
وإلى ذلك، أكدت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في سبتمبر الماضي على ضرورة مواصلة استكشاف الحلول المستدامة والمبتكرة لتنفيذ أهداف اتفاق باريس، ودعت دول العالم إلى تفعيل مشاركاتها وإسهاماتها في“COP28”، ليحقق تقدماً ملموساً في سياق هدف درجة الحرارة المشار إليه في اتفاق باريس.
وتتوافق هذه الآمال المعقودة على مؤتمر “COP28” مع التحذيرات التي أطلقها مؤخراً الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أمام الدورة الـ 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي عُقدت في نيويورك في الشهر نفسه، حيث قال إن “تغير المناخ ليس مجرد تغير في الطقس، وإنما تغيير للحياة على الكوكب، حيث يؤثر على كل جوانب العمل، ويقتل الناس ويدمر المجتمعات”.

– أولوية إماراتية.
وقد وضعت دولة الإمارات الحد من الانبعاثات على رأس أولوياتها إلى جانب الحفاظ على مواردها الطبيعية، حيث تستهدف خفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 40% بحلول العام 2030، كما سارعت إلى اعتماد مبادرات نوعية تمهد الطريق نحو الحياد المناخي وتحقق من خلالها الريادة العالمية بتنفيذ التعهدات العملية لحماية كوكب الأرض من خطر الانهيار المناخي، وقد اعتمد مجلس الوزراء أكثر من 78 مبادرة لمواجهة تداعيات تغيّر المناخ وحماية البيئة، من أهمها: الاستراتيجية الوطنية للتنمية منخفضة الكربون وطويلة الأمد، والنظام الإماراتي لتنظيم منتجات الطاقة الشمسية، ونظام العلامة البيئية الإماراتي، وأنظمة قياس البصمة الكربونية لقطاع الصحة، ومبادرة تنظيم إصدار السندات والأوراق المالية الخضراء والصكوك، واستراتيجية إدارة النفايات المتكاملة على مستوى الدولة، ومبادرة شرطة بلا كربون، بالإضافة إلى تحديث تقرير المساهمات المحددة وطنياً.
كما دعت الإمارات دول العالم إلى الانضمام إلى “مبادرة الابتكار الزراعي من أجل المناخ”، التي تشاركها قيادتها، الولايات المتحدة الأمريكية، وأُطلقت عام 2021، بهدف مضاعفة الاستثمار في الزراعة الذكية مناخياً وابتكار النظم الغذائية ودعمها عالمياً، حيث تضم المبادرة حالياً أكثر من 500 شريك دولي، باستثمارات تصل إلى 13 مليار دولار لدعم مشروعات الزراعة الذكية مناخياً وابتكار نظم غذائية مستدامة.

– مبادرات عالمية.
وعلى الصعيد العالمي، أعلن معالي الدكتور سلطان أحمد الجابر، وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة رئيس “COP28” خلال قمة المناخ الأفريقية عن مبادرة تمويل إماراتية بقيمة 16.5 مليار درهم لتعزيز قدرات أفريقيا في مجال الطاقة النظيفة، ودعمها في تحقيق النمو المستدام، وتجمع المبادرة بين صندوق أبوظبي للتنمية، والاتحاد لائتمان الصادرات، وشركة أبوظبي لطاقة المستقبل “مصدر”، وأيميا باور، بالتعاون مع مجموعة “إفريقيا50″، وذلك لتطوير 15 غيغاواط من الطاقة النظيفة بحلول عام 2030، حيث ستتعاون تلك الجهات معاً لتوظيف 16.5 مليار درهم (4.5 مليار دولار) بهدف تحفيز نحو 45 مليار درهم إضافية (12 مليار دولار) من مصادر متعددة الأطراف وحكومية وخاصة.
وتأتي المبادرة دعماً لأفريقيا التي تعاني أشد تداعيات تغير المناخ برغم أنها مسؤولة فقط عن 3% من الانبعاثات العالمية، حيث أدى الجفاف والفيضانات وفقدان المحاصيل إلى معاناة خُمس سكان أفريقيا من الجوع، وزيادة عدد النازحين في السنوات الثلاث الماضية ثلاث مرات، وتقليل نمو الناتج المحلي الإجمالي للقارة بـ 5% على الأقل سنوياً.
كما أطلق مصرف الإمارات المركزي، وبنك التسويات الدولية، ومعهد الإمارات المالي، ورئاسة مؤتمر “COP28” مبادرة عالمية باسم “COP28 الإمارات للتسارع التقني” تهدف إلى تحفيز الابتكار، وتطوير الحلول والمشروعات المتقدمة في توسيع نطاق التمويل المستدام، بهدف مواجهة التحديات الفعلية لتغيّر المناخ.
وعقدت رئاسة “COP28” خلال أغسطس الماضي اجتماعاً في سوق أبوظبي العالمي، بمشاركة خبراء اقتصاديين عالميين من فريق الخبراء المستقل رفيع المستوى المعني بالتمويل المناخي، وممثلي مؤسسات عالمية رائدة، بما في ذلك البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وبرنامج “التسهيل الائتماني الممدد” التابع لـ”الصندوق الائتماني للنمو والحد من الفقر”، ومؤسسة التمويل الدولية، إلى جانب كل من رئاستَي “COP28″ و”COP27” ورواد الأمم المتحدة للمناخ.
وخلال الاجتماع، توافق كبار الاقتصاديين وقادة القطاع المالي في العالم بشأن الخطوات القادمة لتقديم إطار جديد للتمويل المناخي الدولي يتضمن معالجة مشكلة الديون في الدول الأكثر عرضة لتداعيات تغير المناخ، وتعزيز دور القطاع الخاص في توفير مزيد من التمويل، ويركز على ضرورة تسريع نمو هذه التدفقات لتوفير إجمالي الاستثمارات المطلوبة سنوياً من الآن لغاية عام 2030، والبالغة 2.4 تريليون دولار أمريكي، لمعالجة تداعيات تغير المناخ في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.
وقدمت دولة الإمارات مساعدات للدول المتضررة من الكوارث الطبيعية الناتجة عن تداعيات تغير المناخ، حيث تعدّ من أكثر الدول المانحة للمساعدات الإغاثية، بما يشمل إرسال المعونات اللازمة لمواجهة تداعيات الفيضانات في البوسنة وباكستان والصومال وسريلانكا و15 دولة أخرى؛ والإغاثة من الأعاصير في 14 دولة في قارتَي أفريقيا وآسيا؛ ودعم مواجهة الانهيارات الأرضية في أفغانستان وكولومبيا؛ والجفاف في أفريقيا وغيرها، كما تسير الإمارات بخطى ثابتة لتحقيق هدفها بزراعة 100 مليون من أشجار القُرم بحلول عام 2030، حيث تمتلك هذه الأشجار 3 مزايا مهمة هي الحماية من تآكل السواحل، والحفاظ على البيئة الطبيعية والتنوع الحيوي، وامتصاص ثاني أكسيد الكربون بكميات تفوق قدرة أشجار الغابات المطيرة.

– خطط طموحة.
وتركز رئاسة مؤتمر الأطراف “COP28 ”على تحقيق التوافق بشأن خطة عملها للتعامل مع تداعيات التغير المناخي، بهدف إعادة العالم إلى المسار الصحيح لتحقيق طموحات اتفاق باريس، حيث تلفت نظر العالم إلى غياب التوازن بين تمويل التخفيف والتكيف، داعية إلى مضاعفة تمويل “التكيّف” بحلول عام 2025، وتحويل الهدف العالمي بشأن “التكيف” من نظرية ونصوص إلى عمل ملموس ونتائج حقيقية، بالإضافة إلى تقديم تعهدات تمويل مبكرة لصندوق معالجة الخسائر والأضرار، لمساعدة الدول الأكثر عرضة لتغير المناخ على التعافي من تداعياته الشديدة التي تعانيها بالفعل.
كما أعلنت رئاسة المؤتمر عن عقد منتدى “COP28 المناخي للأعمال التجارية والخيرية”، ليكون أكبر منتدى عالمي حول المناخ والطبيعة لقادة الشركات والأعمال التجارية والخيرية، ضمن خططها لاحتواء الجميع، وسيقام المنتدى في يومي الأول والثاني من ديسمبر القادم، بالتزامن مع قمة العمل المناخي العالمية التي تعقد على مستوى قادة الدول في بداية المؤتمر، ومن المقرر أن يشارك أكثر من 500 من الرؤساء التنفيذيين للشركات ورواد العمل الخيري من مختلف أنحاء العالم في الجلسة الرئيسية للمنتدى، التي تستغرق 90 دقيقة وتقام في الأول من ديسمبر في المنطقة الزرقاء للمؤتمر.
وتماشياً مع خطة عمل “COP28” يسعى المشاركون في المنتدى إلى بحث الخيارات الهادفة إلى تسريع نقل التكنولوجيا، وإزالة مخاطر الاستثمارات الخضراء، وتمكين الاستثمار الفعّال للحفاظ على البيئية، وتطوير المبادرات الخضراء الرائدة والطموحة من أجل تحفيز العمل المناخي على نطاق واسع، وتمكين المشروعات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة في مجال العمل المناخي، والاستثمار في تعزيز مرونة المجتمعات الأكثر عرضة لتداعيات تغير المناخ، إضافة إلى عدد آخر من النتائج والمخرجات المنتظرة من القطاع الخاص.وام


المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: تداعیات تغیر المناخ دولة الإمارات العمل المناخی بحلول عام 2030 اتفاق باریس العالم إلى دول العالم أکثر من

إقرأ أيضاً:

بايدن وخريطته الملتبسة لإنقاذ “إسرائيل” من نفسها

 

في حديث أدلى به من أمام البيت الأبيض، يوم (31/5/2024م)، طرح الرئيس الأميركي مبادرة تتضمن «خريطة طريق» لإنهاء الحرب المشتعلة حالياً في قطاع غزة»، تشتمل على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: تمتد إلى ستة أسابيع، وتتضمن: وقفاً شاملاً لإطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية من كل المناطق الآهلة في قطاع غزة، وإطلاق سراح عدد من الأسرى لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً النساء والشيوخ والجرحى، وإعادة رفات بعض من قُتل منهم إلى ذويهم، في مقابل الإفراج عن مئات الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، وعودة المدنيين الفلسطينيين إلى منازلهم وأحيائهم في جميع مناطق القطاع، وزيادة كمية المساعدات الإنسانية إلى 660 شاحنة يومياً.
وخلال هذه المرحلة، يُفترض أن تبدأ مفاوضات غير مباشرة بين «إسرائيل» وحماس من أجل الاتفاق على الترتيبات اللازمة للوصول إلى المرحلة الثانية. وإذا تطلّبت هذه المفاوضات فترة أطول من ستة أسابيع، فسوف تلتزم كلّ الأطراف المعنية المحافَظةَ على وقف إطلاق النار طوال الفترة التي تستغرقها المفاوضات، كما تلتزم كل من الولايات المتحدة ومصر وقطر العملَ على ضمان استمرارها إلى حين التوصل إلى اتفاق يشأن كل الترتيبات اللازمة لبدء تنفيذ المرحلة التالية.
المرحلة الثانية: هدفها الرئيس التوصل إلى «وقف دائم للعمليات العسكرية ما أوفت حماس بالتزاماتها». وتتضمّن هذه المرحلة التزاماً بشأن الإفراج عن كل الأسرى الأحياء المتبقّين، بمن فيهم الجنود الرجال، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع ككل.
المرحلة الثالثة: هدفها إنهاء الصراع وبدء تنفيذ خطة كبرى لإعادة إعمار القطاع. وسيتم خلالها إعادة رفات من تبقى من المحتجزين الذين لقوا حتفهم في الحرب. عند هذه النقطة، حرص بايدن على التأكيد، في خطته، أن «الدول العربية والمجتمع الدولي والقادة الفلسطينيون والإسرائيليون سيقومون بتنفيذ خطة الإعمار بطريقة لا تتيح إعادة تسليح حركة حماس».
كان أكثر ما لفت أنظار المراقبين، وأثار حيرتهم واستغرابهم، في الوقت نفسه، إقدام بايدن على تخصيص فقرات مطولة من حديثه في مخاطبة المستوطنين الإسرائيليين مباشرة، وحثهم على قبول خطة يُفترض أنها تمت بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية، ومحاولة إقناع الرأي العام الإسرائيلي بما ستجنيه «إسرائيل» من وراء موافقتها على هذه الخطة، وتحذير «الشعب الإسرائيلي» من الانسياق وراء بعض المتطرفين، بمن فيهم أعضاء من الحكومة الإسرائيلية نفسها.
فكيف توصف مبادرة كهذه بأنها إسرائيلية، ومع من تشاورت إدارة بايدن قبل أن يُقْدِم بايدن، بنفسه، على إطلاقها. وهل شمل هذا التشاور رئيس الحكومة، أم أنه اقتصر على أعضاء بعينهم في مجلس الحرب الإسرائيلي، ممن يعلم مسبّقاً بأن الأولوية، بالنسبة إليهم، هي الإفراج عن الأسرى.
وقال بايدن في حديثه: «يجب أن يعرف الشعب الإسرائيلي أنه يتقدم بهذا العرض من دون أي مخاطر إضافية على أمنه، لأن إسرائيل نجحت في تدمير البنية الأساسية لحركة حماس على مدى الأشهر الثمانية الأخيرة. وبالتالي، عليه أن يكون على ثقة بأن حماس لم تعد قادرة على شن هجوم مماثل للهجوم الذي قامت به في الـ7 من أكتوبر، وهو الهدف الأسمى الذي سعت له إسرائيل في هذه الحرب ومعها كل الحق».
الأغرب من ذلك أن بايدن أضاف قائلاً: «أعرف أن بعض الأطراف في إسرائيل لن يتفق مع هذه الخطة، وسيدعو إلى مواصلة الحرب إلى أجَل غير مسمّى، كما أعرف أنه سبق لبعض الأطراف، المُشارِكة في الائتلاف الحاكم في «إسرائيل»، أن أفصح عن رغبته في احتلال غزة ومواصلة القتال أعواماً، الأمر الذي يعني أن الأسرى لا يمثلون أولوية بالنسبة إلى هؤلاء.
لذلك، أحث القيادة الإسرائيلية على دعم هذه الصفقة على الرغم من أي ضغوط». وفي عبارات بدت كأنها تستجدي موافقة «الشعب» الإسرائيلي على خريطة الطريق، التي تتضمنها خطته، قال بايدن: «كوني شخصاً معروفاً بالتزامي الأبدي تجاه إسرائيل، وكوني الرئيس الأميركي الوحيد الذي زار «إسرائيل» في وقت الحرب، وكوني الرئيس الذي أرسل القوات الأميركية مؤخراً للدفاع عنها بصورة مباشرة عندما تعرضت للهجوم من جانب إيران، أطلب إلى الجميع أن يتريث، وأن يفكر فيما يمكن أن يحدث إذا ضاعت هذه الفرصة».
ومن أجل تفنيد حجج الجناح المتطرف في «إسرائيل»، ذهب بايدن إلى حد القول إن «الحرب إلى أجَل غير مسمى، سعياً وراء فكرة النصر الكامل، لن تؤدي إلا إلى تعثر «إسرائيل» في رمال غزة، وإلى استنزاف مواردها الاقتصادية والعسكرية والبشرية، وإلى تعزيز عزلتها عن العالم، فضلاً عن أنها لن تعيد الأسرى إلى منازلهم، ولن تحقق الهزيمة الدائمة لحماس، أو الأمن المستدام لإسرائيل. أمّا النهج المتكامل، والذي تمثله هذه الصفقة، فسيؤدي إلى عودة الأسرى إلى منازلهم، وإلى تحقيق مزيد من الأمن لإسرائيل».
ومن أجل حثّ «الشعب» الإسرائيلي على دعم خطته، حرص بايدن على التلويح ببعض الحوافز، حين قال إن «إبرام هذه الصفقة سيمكّن إسرائيل من تحقيق مزيد من التكامل في المنطقة، وخصوصاً من خلال اتفاق تاريخي محتمل لتطبيع العلاقة بالمملكة العربية السعودية، ومن أن تصبح جزءا لا يتجزأ من شبكة أمنية إقليمية لمواجهة التهديد الذي تشكله إيران. لقد حان الوقت لهذه الحرب أن تنتهي، وأن تبدأ مرحلة ما بعد الحرب».
ليس من المفيد أن نتوقف هنا طويلاً للبحث عن الصاحب الحقيقي لهذه المبادرة، وخصوصاً أنها أصبحت الآن مبادرة أميركية خالصة بعد أن تكفّل رئيس الولايات المتحدة تبنيَها وطَرْحَها بنفسه على الرأي العام.
صحيح أن مجرد تبنيها أميركياً يعكس حجم المأزق الذي وصلت إليه إدارة بايدن، وخصوصاً بعد أن بدأت تدرك أن الهوة بين سياستها المنحازة إلى «إسرائيل»، بصورة مطلقة، وبين ما طرأ من تحولات على موقف الرأي العام العالمي الداعم للقضية الفلسطينية، والرافض لسياسة الإبادة الجماعية التي تمارسها أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ «إسرائيل»، بدأت تتسع كثيراً، لكن ذلك لا يجب أن يحول دون محاولة الاستفادة من طرحها في هذا التوقيت بالذات.
فبايدن بدأ يشعر شخصياً بقلق شديد تجاه احتمال خسارته أصوات الناخبين الأميركيين العرب والمسلمين، وربما أصوات الجناحين الليبرالي واليساري في الحزب الديمقراطي أيضاً، ويرغب بالتالي في أن تجري الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في أجواء أكثر هدوءاً، الأمر الذي دفعه إلى تبني سياسة أكثر توازناً، والإقدام على خطوة مهمة، لكنها محفوفة بالمخاطر، في الوقت نفسه.
فالمبادرة تنطوي، ضمناً على الأقل، على اقتناع إدارته بأن «انتصار إسرائيل المطلق على حماس» أصبح وهماً غير قابل للتحقيق، الأمر الذي يفسّر سعيه لإقناع الحكومة والرأي العام الإسرائيليين بأن حركة حماس ضعفت كثيراً، ولم يعد في مقدورها شن هجوم عسكري يماثل ما وقع يوم الـ7 من أكتوبر. وبالتالي، حان الوقت للتفكير جدياً في مرحلة «ما بعد حماس».
في تقديري أن بايدن كان يدرك بوضوح أن طرحه مبادرةً من هذا النوع سيثير تفاعلات حادة داخل «إسرائيل»، من المتوقع أن تتفاقم كثيراً خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وهو ما حدث فعلاً.
لقد صرح جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، بأن خريطة الطريق، التي طرحها الرئيس بايدن، جاءت تعبيراً عن تشاور جرى بين واشنطن و»تل أبيب» على مدى عدة أسابيع، وهو ما أنكره نتنياهو، حين صرح بأن المبادرة لا تعكس إلا جانباً فقط مما تم التوافق عليه بين البلدين، وحين أعاد تأكيد موقفه القائل إن الوقف الدائم لإطلاق النار الآن يعني الاستسلام للعدو والاعتراف بالهزيمة، ثم ما زال يصر على مواصلة الحرب إلى أن يتحقق «النصر المطلق لإسرائيل».
أمّا الجناح المتطرف في الحكومة الإسرائيلية فلم يتردد لحظة واحدة في رفض خطة بايدن صراحة، بل إن بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، ذهب إلى حد التهديد بمغادرة الحكومة على الفور إذا وافقت الحكومة الإسرائيلية رسمياً على خطة بايدن.
ولأن نتنياهو يخشى انفراط عِقد حكومته وانهيارها، ولا يثق كثيراً، في الوقت نفسه، بشبكة أمان يعرضها عليه بعض فصائل المعارضة في حال موافقته على صفقة تُفضي إلى إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، فالأرجح أن يستمر في مناوراته الرامية إلى كسب الوقت من اجل استمرار الحرب.
وفي تقديري أن نتنياهو يشعر بأنه ما زال يتمتع بهامش يتيح له الاستمرار في مناوراته المعروفة تجاه كل الأطراف، وخصوصاً بعد أن قام رئيس مجلس النواب الأميركي بتوجيه دعوة إليه من أجل إلقاء خطاب في جلسة مشتركة للكونغرس، بمجلسيه، قبلها على الفور، ثم يعتقد أن في إمكانه تحدي بايدن، مثلما تحدى أوباما من قبلُ، الأمر الذي قد يدفعه إلى رفض خطة بايدن، صراحة أو ضمناً، ومحاولة إقناع أعضاء الكونغرس، الجمهوريين والديمقراطيين، بالأسباب التي تدعوه إلى رفض هذه الخطوة ومحاولة تصويرها على أنها ستُلحق ضرراً كبيراً بأمن «إسرائيل».
تحتوي مبادرة بايدن على نقاط إيجابية كثيرة، لكنها مليئة بالألغام في الوقت نفسه، وخصوصاً ما يتعلق منها بالربط بين المراحل المتعددة، وبجدية الضمانات المطلوبة من الولايات المتحدة، ومن غيرها للتأكد من أنها ستفضي في نهاية المطاف إلى وقف دائم لإطلاق النار.
فمن الواضح أن الولايات المتحدة تسعى، من خلال هذه المبادرة، لتحقيق أربعة أهداف: تطبيع العلاقة بين السعودية و»إسرائيل»؛ التمهيد لقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومرتبطة أمنيا بـ «إسرائيل»؛ إقامة تحالف إقليمي موجَّه ضد إيران، تقوده بنفسها؛ إنشاء ممر اقتصادي يعوّق خطط الصين لتوسيع نفوذها في المنطقة.
وكلها أهداف تسعى لإنقاذ «إسرائيل» من نفسها، واستعادة النفوذ الأميركي في المنطقة. وبالتالي، لا يصبّ أي منها في مصلحة الشعوب العربية والإسلامية. لذا، أعتقد أن من مصلحة فصائل المقاومة عدم إعلان رفضها صراحة هذه المبادرة، مع الحرص، في الوقت نفسه، على عدم التوقيع على أي ورقة لا تتضمن وقفاً نهائياً لإطلاق النار، والتركيز، في الوقت الحاضر، على الصمود في الميدان. فهذا الصمود هو وحده الكفيل بفتح الطريق أمام الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه التي تم التنكر لها طويلاً.

مقالات مشابهة

  • الاتحاد الأوروبي يصف التزامات المغرب في مجال الطوارئ المناخية بـ "النموذجية"
  • تعاون بين «أنور قرقاش الدبلوماسية» و«g7+» و«التنمية البريطاني»
  • تعاون استراتيجي بين أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية ومجموعة g7+ ومعهد التنمية الخارجية البريطاني
  • وزيرة البيئة تترأس الاجتماع الأول للجنة تسيير مشروع تحويل الأنظمة المالية
  • دراسة علمية لـ”كارنيغي يورب” تتناول جوانب معاناة ليبيا من آثار تغير المناخ
  • رزان المبارك: مخرجات COP28 نجحت في دمج الحفاظ على المحيطات ضمن أجندة المناخ
  • رزان المبارك : مخرجات “COP28” نجحت في دمج الحفاظ على المحيطات ضمن أجندة المناخ
  • بايدن وخريطته الملتبسة لإنقاذ “إسرائيل” من نفسها
  • وصلت 50 درجة مئوية.. ما وراء موجة “الطقس شديد الحرارة” في مصر؟
  • عالم بريطاني لا يعتقد أن الكائنات الفضائية قد زارت الأرض