كلب الأسيرة.. كيف ربحت المقاومة الفلسطينية معركة الصورة؟
تاريخ النشر: 3rd, December 2023 GMT
منذ زمن بعيد والحرب لا تقف عند حد أحداث المواجهة في ميدان النار والدم والهلاك والخراب، والتي تصاغ في أخبارٍ تبثها مختلف وسائل الإعلام، وقصصٍ يرويها المتحاربون، إنما تمتد إلى الصور التي تنبت من رحم الواقع، أو تهندسها عقول ماهرة في حبك الدعاية وسبكها.
ففي القرون الغابرة، وقبل اختراع الكاميرا، كان جنرالات الحرب يصطحبون معهم الرسامين، ليرسموا ما يجري، فإن كان ثَمةَ نصرٌ أرسلوا الصور ليراها الناس في البلاد، ويطمئنوا إلى أن جيشهم ينتصر.
تعزّز حضور الصورة في الحرب مع اختراع الكاميرا، وتقدمت لتشغل جانبًا كبيرًا من تعريف النصر أو الإقرار به، بل إن حروبًا كاملة أُعلن فيها هذا النصر من جانب الطرف القادر على صناعة الصورة وتصديرها والتحكم في تدفقها، كانت أولاها حرب الخليج الثانية التي شنتها قوات التحالف على العراق لإخراجه من الكويت في عام 1991، وسيطرت فيها "السي. إن. إن" على الأذهان والمخيلات.
صارت الصورة جزءًا من معادلة النصر، أو عنصرًا من حساباته المعقدة، وبات وجودها، عفويًا كان أو مدبرًا، له تأثير مهم على سير المعارك، ثم على النتائج المترتبة عليها في المديَين: القريب والبعيد؛ نظرًا لما تتمتع به الصورة من قدرة على الرسوخ في الذهن، وانفتاح على تأويلات متعددة تصبّ في صالح من يصنعها أو من يستغلها بوعي واقتدار.
لم يكن هذا الأمر خافيًا بالطبع على قادة إسرائيل، ومن يديرون جهاز دعايتها المتوثّب دومًا، فأطلقوا يوم السابع من أكتوبر صورة خيالية، عبر سردية شفاهية، حين تحدثوا عن أطفال إسرائيليين مقطوعي الرأس، ونساء مشقوقات الصدور ومبقورات البطون.
ونطق بهذا الرئيس الأميركي جون بايدن نفسه، نقلًا عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فتسابقت وسائل الإعلام العالمية على تصوير ما لم يره أحد.
إسرائيل تخسرتساءل الناس عن الصورة التي تم وصفها دون أن يعرضها أحد أمام عيونهم، وهذا لم يكن أمرًا مستساغًا في زمن اجتياح الصور، وسهولة تداولها، فأُسقِط في يد بايدن.
أعاد بايدن ارتباكه إلى نتنياهو، فلم يجد أمامه من سبيل سوى الإمعان في الكذب، ليعرض أمام العيون صورة مختلفة، قال: إنها لطفل متفحم، لكن كثيرين قاموا بتكذيبها بما مكنته إياهم تقنيات الاتصالات من قدرة على التحقق، ثم سرعان ما انجرف كل هذا في الصور الأليمة التي انهمرت من غزة كمطر أسود.
بيدها خسرت إسرائيل معركة الصورة في عدوانها على غزة ثلاث مرات متتابعة، بينما ربحتها المقاومة مرتين، فتضاعف مكسبها حين أضيف إليه ما أخفقت فيه تل أبيب، وهذه مسألة لم تتحقق للفلسطينيين منذ انتفاضة الحجارة التي اندلعت عام 1987، بل هي هذ المرّة أسرع وأنصع شكلًا، في ظل ثورة الاتصالات، التي حوّلت العالم كله إلى غرفة واحدة.
الإرهاب الإسرائيليلقد حضرت الصورة بغزارة في العدوان الإسرائيلي على غزة، وكانت الأكثر تحريكًا للمشاعر والعقول، ولأننا في عصر الصورة فقد طغت، ولأنها وحدها، وفي حد ذاتها، عابرة للغات واللهجات والثقافات، فقد ساحت الصور الملتقطة من قلب غزة، لاسيما لأطفال شهداء أو مجروحين أو محروقين، وتبعتها صور المستشفيات المقصوفة، وكذلك المدارس والمساجد والكنائس والبيوت.
أغنت تلك الصور عن ملايين الكلمات التي تشرح ما يجري، وتجعل من له عين ترى، وعقل يفهم، وضمير يحكم، بوسعه، أن يميز بين الأشياء، ويعرف أين هو المعتدي، وأين المعتدَى عليه؟ أين صاحب الحق، وأين هاضمه؟
ثم جاءت لحظة تبادل الأسرى لتميز بين الفريقين المتصارعين تمامًا، وتنطق بأشياء كثيرة يتم السكوت عنها، أو مستبعدة بفعل فاعل عن أذن العالم وبصره. فالمقاومة التي يتم نعتها بالإرهاب، تعامل أسراها من الإسرائيليين وغيرهم الذين أفرجت عنهم بطريقة غاية في الاحترام والتواضع واللطف، بينما يعامل الاحتلال من أخرجهم مجبرًا من سجونه في منتهى القسوة والغلظة والاستفزاز، ويمنع أهلهم من الاحتفاء أو الاحتفال بهم، ويهددهم هم أنفسهم بالاعتقال والسجن.
صورةُ الأسرى الخارجين من غزوة مصحوبةٌ بتلويح أيادٍ مودعة، ومصافحات دافئة، وابتسامات ونظرات مفعمة بالامتنان. بل رأينا هذه التي تكتب رسالة بالعبرية تقول للمقاومة فيها: "شكرًا لأنكم عاملتم ابنتي كملكة".
ورأينا هذه التي تصطحب كلبها الذي كان محتجزًا معها، وكيف خرج هو الآخر دون أن ينقص من جسده شيء، بل عدَّه الفاهمون دليلًا على الراحة والاطمئنان الذي لاقاه الأسرى، لأنه لا يمكن لكلب أن يُمثّل الارتياح أو يتصنعه مؤقتًا ليمرر موقفًا عصيبًا مثلما يفعل البشر.
أما صورة الأسرى المفرج عنهم من سجون إسرائيل، فكانت على النقيض من ذلك. خرج أطفال فلسطين ونساؤها من الزنازين كاسفي البال، وجوههم مرهقة، وإن ابتسموا في وجه أهاليهم، فهم يدمعون حزنًا على إخوانهم الذين تركوهم خلف ظهورهم يلاقون أصنافًا من التعذيب الرهيب في السجن.
تغيّر الذهنية الغربيةقادت المضاهاة بين المشهدين كثيرين في مشارق الأرض ومغاربها إلى تكوين انطباع ليس عن سير الحرب فقط، بل أيضًا عن اختلاف الطباع، وتفاوت القدرة على التحمل، بين قوات الاحتلال والمقاومة، وبين "المستوطين" و"المحاصرين"، بل وجدنا من يتساءل عن الاعتقاد الديني الذي يجعل شعبًا يصبر ويتحمل الأذى الشديد على هذا النحو؟ وهو ما جعل فتاة أيرلندية تربط بين الإسلام وقوة التحمل، وسيدة أميركية ترى أن الله حاضر بين الفلسطينيين، ثم تقول منفعلة: لو أن هناك إلهًا سيكون الفلسطينيون والمسلمون شعبه المختار.
إنَّ الصورة الفوتوغرافية والمتلفزة التي حملتها وسائل التواصل الاجتماعي أدت إلى تغيير جانب من "الصورة الذهنية" لكثير من المواطنين في الغرب، التي كرّستها الرؤى الاستشراقية، والدعاية الصهيونية والإسرائيلية، ووسائل الإعلام التقليدية المعبرة عن القوى السياسية المهيمنة في أوروبا والولايات المتحدة لزمن طويل.
الفلسطينيون يربحونويمكن لهذا التغير الذي جاء في ركاب "طوفان الأقصى" أن يتعمق ويتسع، إذا توافر شرطان أساسيان هما:
1ـ قدرة الفلسطينيين على الاحتفاظ بالصورة الناصعة التي صُنعت لهم، وبُني جزء أساسي منها على إفراط إسرائيل في العدوان، وجزء آخر على تصرف الشعب الفلسطيني بإبداء التحمل والصبر والصمود، مثلما رأينا مع الرجل الذي كان يودع حفيدته ويصفها بـ "روح الروح"، أو تصرف المقاومة من خلال التسامي والتسامح، حسبَ ما جرى في لحظة تسليم الأسرى إلى الصليب الأحمر.
ولا بد في هذه النقطة من الانتباه إلى عدم ارتكاب الفلسطينيين أنفسهم مستقبلًا أي فعل يجرح هذه الصورة، ويخلق فرصة سانحة لإسرائيل كي تسيء إليها، وتستعيد زمام المبادرة في معركة الصورة الذهنية.
2 ـ قدرة مناصري القضية الفلسطينية على تبديد الهجمة الدعائية المرتدة التي أخذت إسرائيل في تنفيذها، وبدأت بالتضييق على حراس البوابات أو أصحاب المنصات، مثلما حدث مع إيلون ماسك مالك منصة" X"، ثم الذهاب إلى المؤسسات الأكاديمية والإعلامية التقليدية والاجتماعية، وتجنيد الذباب الإلكتروني، وصنّاع المحتوى على شبكة الإنترنت، في سبيل تحسين الصورة، أو استعادة الصورة التي ثبت أنها بريقها هو بفعل الطلاء المزيف.
لقد ربح الفلسطينيون معركة الصورة مستفيدين من أخطاء عدوهم، ومن جهد المتعاطفين معهم في قارات العالم الست، لكن استمرار هذا الزخم قويًا وفاعلًا، يحتاج إلى جهد منظم في قابل الأيام، تقوم عليه مؤسسة أو مجموعة منظمة ومتماسكة مؤهلة، لممارسة هذا الدور على أفضل وجه ممكن، حتى تبقى الصورة نابضة بقضية الفلسطينيين العادلة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الفصائل الفلسطينية تطالب باعترافٍ دولي غير مشروط بالدولة المستقلة
الثورة نت/..
أكدت الفصائل الفلسطينية، اليوم الخميس، أنّ “المقاومة لن تتوقف إلا بزوال الاحتلال، وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في التحرير، وعودة اللاجئين، وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، حيث يرتبط سلاح المقاومة جوهرياً بهذا المشروع الوطني العادل”.
وقالت الفصائل في بيان إنها تابعت باهتمام مجريات المؤتمر الدولي رفيع المستوى للأمم المتحدة، الذي اختُتم مؤخراً في نيويورك.
وأضافت إن المؤتمر جاء في مرحلةٍ خطيرةٍ وحساسة من تاريخ شعبنا، حيث يواصل الاحتلال الصهيوني ارتكاب حرب إبادة بحق شعبنا وأهلنا في قطاع غزة، ويمارس واحدة من أبشع عمليات التجويع في تاريخ البشرية، في وقت تطالب فيه المحكمة الجنائية الدولية بمثول قادته لمساءلتهم ومحاكمتهم، وسط صمت دولي مطبق.
ونوه بما حمله من مضامين مهمة تتعلق بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة كاملة السيادة.
وحيّت الفصائل “صمود الشعب الفلسطيني الأسطوري في قطاع غزة، الذي يواجه بصبرٍ وثباتٍ واحدةً من أبشع الحروب التي عرفها العصر الحديث”.
وقالت إن “هذا الصمود العظيم، في وجه آلة القتل والدمار، يشكّل الركيزة الأساسية التي أفشلت أهداف العدوان”، ورسّخت حق شعبنا في الحياة والمقاومة. مشيدة “بالدور البطولي الذي تؤديه المقاومة في الدفاع عن شعبنا، وتثبيت إرادته الوطنية في ظل حربٍ غير متكافئة وظروف إنسانية كارثية”.
وأكدت أن “أيّ جهدٍ يُبذل على المستوى الدولي لإسناد شعبنا الفلسطيني وحقوقه المشروعة هو محلّ تقدير وترحيب، ويُعدّ ثمرةً طبيعية لتضحيات وصمود شعبنا على مدار 77 عاماً منذ النكبة، ونتيجةً مباشرةً لما أحدثته الحرب الصهيونية المدمّرة من اتساعٍ في دائرة التضامن الدولي مع شعبنا، وما شكّله ذلك من ضغطٍ متزايد على المجتمع الدولي”.
وقالت “إنّ شعبنا يطالب باعترافٍ دولي غير مشروط بدولته المستقلة وحقوقه الوطنية الثابتة، باعتبارها استحقاقًا سياسيًا وعدالة تاريخية لا يجوز التفاوض عليها أو تأجيلها”.
وأضافت: “إنّ الطريق إلى الحل تبدأ أولاً بوقف هذا العدوان الفاشي على شعبنا، ووقف جريمة الإبادة الجماعية وسياسة التجويع الممنهجة التي تمارسها قوات الاحتلال”.
وأكدت “أنّ المقاومة الفلسطينية تؤكد استعدادها لحل قضية الأسرى لديها ضمن سياق اتفاق لوقف إطلاق النار، وانسحابٍ كاملٍ لقوات الاحتلال من قطاع غزة، وفتح المعابر، والشروع الفوري في إعادة الإعمار”.
وأضافت: كما تؤكد الفصائل على ضرورة الذهاب إلى مسارٍ سياسي جادّ، برعايةٍ دوليةٍ وعربية، يؤدي إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق تطلعات شعبنا في إقامة دولته المستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس”.
وأكملت مؤكدة “أن وقف حرب الإبادة والتجويع بحق شعبنا في غزة هو واجب إنساني وأخلاقي لا يقبل التأجيل أو المقايضة، ويجب أن يتم فوراً دون ربطه بأي ملفاتٍ سياسية كحق شعبنا في دولته أو حل قضية الأسرى، إذ لا يجوز أن يُساوَم شعبنا على حقه في الحياة”.
واعتبرت أن “الاحتلال الصهيوني هو المصدر الرئيس للإرهاب وعدم الاستقرار في المنطقة، وما يرتكبه من إبادةٍ جماعية وتجويع ممنهج في قطاع غزة يرسّخ طبيعته الإجرامية”.
وقالت: “وبناءً على ذلك، فإن المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها هي ردّ فعل طبيعي ومشروع على هذا الاحتلال، وهي حقٌ أصيل كفلته القوانين الدولية والشرائع السماوية، وأكدته المؤسسات والهيئات الدولية التي اطّلعت على الجرائم المرتكبة بحق شعبنا”.
وأضافت: أنّ هذه المقاومة لن تتوقف إلا بزوال الاحتلال، وتحقيق أهداف شعبنا في التحرير، وعودة اللاجئين، وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، حيث يرتبط سلاح المقاومة جوهرياً بهذا المشروع الوطني العادل.
وتابعت: “أنّ المشهد الفلسطيني هو شأن الداخلي لأبناء شعبنا في الوطن والشتات. وعلى هذا الأساس، ندعو إلى تنفيذ الاتفاقات الوطنية السابقة المُوقّعة في القاهرة والجزائر وموسكو وبكين، والتي أكدت جميعها على ضرورة إعادة ترتيب البيت الفلسطيني.
وأشارت إلى أن ذلك يشمل إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية بما يعزز موقعها القانوني والتمثيلي للكلّ الفلسطيني، إلى جانب إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ومجلس وطني في الداخل والخارج، على أسسٍ وطنية وديمقراطية، ومن دون أي اشتراطات مسبقة”.
وأكدت “أنّ اليوم التالي لانتهاء العدوان الصهيوني هو يومٌ فلسطيني بامتياز، يجب أن تتضافر فيه جهود ومكونات شعبنا كافة – الوطنية والسياسية والشعبية – جنباً إلى جنب مع جهود البناء والإعمار، لاستعادة وحدتنا الوطنية، وترسيخ شراكة حقيقية تليق بتضحيات شعبنا وصموده الأسطوري”.
وقالت: إنّ الحديث عن دمج الكيان الصهيوني في المنطقة هو مكافأة للعدو على جرائمه، ومحاولةٍ بائسة لإطالة بقائه على أرضنا المسلوبة؛ فلقد أثبتت التطورات الراهنة، خصوصاً خلال الشهور الأخيرة، أن هذا الكيان هو مصدرٌ رئيسي لعدم الاستقرار والشرور والإرهاب، ليس فقط في منطقتنا، بل على مستوى العالم بأسره”.
وأكدت أن “شعبنا الفلسطيني، كغيره من شعوب العالم التي وقعت تحت نير الاحتلال والاستعمار، سينال حريته واستقلاله، مهما طال الزمن وكبرت التحديات، مستنداً إلى عدالة قضيته، وصمود ومقاومة أبنائه، ووقوف كل أحرار العالم إلى جانبه في نضاله المشروع من أجل التحرّر والعودة والاستقلال”.
صدر البيان عن: حركة المقاومة الإسلامية حماس، حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، طلائع حرب التحرير الشعبية- قوات الصاعقة.