السياسات النيوليبرالية والاستعمار الصهيوني
تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT
ما الذي يعنيه أن تشرد من أرضك؟ هل هنالك علاقة خاصة بيننا وبين الأرض التي ولدنا ونشأنا فيها ونعتبرها الوطن الذي ندافع عنه؟ ماذا عن الأرض التي نسمع عنها لكن أجدادنا هُجّروا قسريا منها، هل ننتمي لها فعلا وقد نشأنا في ديار أخرى بعيدة كانت أو قريبة؟ إن مجرد طرح هذه الأسئلة يعد علامة على مأزق كبير أنتجته سياسات نيوليبرالية، تقوم على ممارسات فردية تنطلق من «الأنا» بدلا من «نحن» وتجعلنا نفكّر في أنفسنا وعلاقاتنا كمفردات داخل علاقات الإنتاج فحسب.
يناقش بلال عوض سلامة في كتابه «في معنى الأرض: استعادة الذات الفلسطينية» استخدام الرقابة والضبط ووسائل العنف المباشرة والناعمة من أجل هندسة سياسية واجتماعية جديدة تنتج «الفلسطيني الجيد» بالنسبة للمشروع الصهيوني، معتمدا على أطروحتي فرانز فانون في كتابه «معذبو الأرض» وآليات مواجهة الاستعمار، والحالة الفرنسية الجزائرية مع نماذج أخرى، وكتاب آخر أجده مهما في سياقات عديدة هو «عقيدة الصدمة» لنعومي كلاين، التي تدرس النيوليبرالية كمدخل لفهم آليات الاحتلال في عملها على الإخضاع والاستلاب. وهو كتاب كنت قد كتبت عنه في وقت سابق، إذ يناقش استخدام الأوقات الحرجة والصدمة لدى الشعوب لتمرير قوانين اقتصادية وسياسية جديدة على مر التاريخ.
ينطلق سلامة من الإيمان بأن الأرض هي جوهر الصراع الأول والأوحد، إذ إن استعمارها يعني استعمار واستلاب الحياة، وما يعنيه ذلك من مصادرة كل أشكال العيش، فاحتلال الأرض يتزامن مع احتلال عقول المستعمَرين وأجسادهم، إن استعمار الأرض يعني بالضرورة السيطرة على الحياة والعلاقات الاجتماعية الناجمة عنها، فيتم عبر الاستعمار تدمير الحاضنة الثقافية والتاريخ للشعوب الأصلية، إن العلاقة بالأرض هي «علاقة غريزية مقدسة»، وكل ما يتمظهر عنها هو بالضرورة مقدس. يذكر سلامة علاقة الفلسطينيين بشجرة الزيتون، بما تجسده من مثال حسي لما تعنيه الأرض، فتقديس هذه الشجرة يتجاوز المقدس بالمعنى الديني -على الرغم من أهمية هذا الجانب طبعا- فمنها يأتي الزيت والزيتون والصابون والإنارة والتدفئة والاشتغال في الأرض، إنها تجسد بحسب سلامة ما عبرت عنه حنة آرندت جوهر «الحياة العملية». وهذه العلاقة المعقدة بالأرض جعلت الفلاحين سباقين للاحتجاج السياسي ومعهم تبلور الحس والوعي الوطني وسبقوا بذلك النخب السياسية لأن الفلاحين هم من يملكون الأرض حقا. ويجب أن ندرك في الوقت نفسه أن إفراغ الأراضي الفلسطينية من سكانها هدف جوهري في عقيدة الحركة الصهيونية، مما يعني أنها المستهدف الأول. يدلل سلامة على تمظهرات هذه العقيدة عبر أمثلة عديدة منها استمرار هجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة والعمل على عدم توقف ذلك فيما يعرف بـ«الإحلال».
إن دولة الاحتلال تعتمد على منظومة بنيوية تهندس بها الحياة الاجتماعية والسياسية للفلسطينيين بدأ ذلك مع الدفع في اتجاه تسليع الأراضي وبيعها عام 1867 مع ما اعتبر نوعا من الإصلاحات الأوروبية مع تضعضع وخفوت نجم الدولة العثمانية. لقد أدى ذلك لفقدان الفلاح الذي لم يكن يهتم بالحصول على صكوك ملكية لأراضيه، على اعتبار أن من يعمل في الأرض يملكها لخسارة هذه الأراضي التي باعها أصحابها الإقطاعيون الذين يعيشون في أماكن قصية عنها. ومع فقدان الأراضي كملكية للشعب يعني ذلك إفقاره من قواعد الإنتاج لنفسه.
اعتمدت دولة الاحتلال أيضا على سياسة التجزئة الاستعمارية لتفكيك الهوية الجمعية للفلسطيني ومع صدمة فقدان الأرض على مراحل تم حشر الفلسطينيين فيما أسماه سلامة: «محتشدات» ولها تنويعات منها المخيمات أو الشتات أو القرى الصغيرة المكتظة وفي خضم ذلك قامت بانتهاج سياسة تعتمد على الاستيعاب الذي يعد شكلا من أشكال المحو وهو أقل وطأة من الإبادة الجماعية «أشد فاعلية للتخلص من الأصلاني بدل الإبادة» حسب اقتباس سلامة لهنيدة غانم. يعتمدون فيها إذن على عقيدة «العصا والجزرة».
فيتم إعطاء الشعب القليل مثل الكهرباء لكن يتم تقييد حركتهم، يمنحون التسهيلات الاقتصادية خصوصا في فلسطين ١٩٦٧ وإذا لم ينفع معهم ذلك تستخدم معهم سياسة موشيه دايان وهي العقاب الجماعي للمحتشدات. وبهذا فإن الحياة الاقتصادية المستقرة وتحقيق الفردانية وعيش حياة الاستهلاك هي أداة تطويع سياسية، ويؤكد ذلك أن الاستعمار الصهيوني إنما يدفع بالنيوليبرالية ومصفوفتيها الاقتصادية والاجتماعية لإحكام السيطرة على الفلسطينيين، وفرض مخيال اجتماعي جديد عليهم ويتم ذلك عبر استبدال البرامج التحررية بمفاهيم ليبرالية خصوصًا لدى شريحة الطبقة المتوسطة الجديدة للفلسطينيين، تتعزز معها الفردية على حساب التحرر الوطني «تفريعها السياسي من التعبئة في المشروع الوطني» «تكريس الحلول الفردية على الحلول الجماعية» والنزعة الاستهلاكية محل المواطنة والحقوق. وتم ذلك عبر تدمير ممنهج للكيانات الجماعية وتعطيل أي مشروع حول أي شيء جماعي والتي تتناقض مع مبادئ النيوليبرالية. اعتمدت إسرائيل أيضًا على التكنوقراط في حكم فلسطين ١٩٦٧ الذين يفصلون بين المشاريع التنموية والتحرر الوطني.
لقد أدى ذلك كله لما عرفه سلامة بـ«السبات الاستعماري» وهو نوع من الموت الاجتماعي الذي انضوى تحت سياسات الأسرلة للفلسطينيين على اختلافهم واستخدام ذلك كأداة للهيمنة والسيطرة عليهم. يستخدم فيها الاقتصاد «كآلية للرقابة». وربما وإن نجح ذلك بصورة ما مع فلسطينيي 48 الذين يعرفون أنفسهم «كعرب إسرائيل» ونجح كذلك في الضفة الغربية مع الإفقار الشديد والعقوبات الشديدة التي يتعرض لها الفلسطيني هناك، فإن غزة كما يبدو تقف حجر عثرة أمام المشروع الصهيوني، وعلى اختلاف ما مرت به من محاولات حتى لإثراء سكانها قبل الانتفاضة الثانية فإنهم ظلوا مقاومين مؤمنين بمشروع تحرري، قادر على توحيد الفلسطينيين في الشتات وفي داخل دولة الاحتلال وفي النقب والجولان وفي الضفة أيضا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
العربية لغة الحياة
#العربية_لغة_الحياة
د. #هاشم_غرايبه
هنالك اعتقاد شائع أن التشكيل في اللغة العربية جاء به “أبو الأسود الدؤلي” ثم طوره “الفراهيدي” الى شكله الحالي، ما جاءا به فعلياً هو رسم الحركة فوق نهاية الحرف، أما الحركات فهي موجودة أصلا منذ نشأة اللغة ذاتها، لكن لأن اللغة كانت في معظم استعمالاتها سماعية، بسبب قلة من يعرفون القراءة والكتابة، فلم تكن الحاجة ماسة لكتابة هذه الحركات على أواخر الكلمات، مثلما أن التنقيط لم يكن معروفا أيضا، بل كانت تعرف كلها بالسليقة، ولأن اللغة منطقية، فلم يكن يخطيء (يلحن) فيها أحد، إذ كان يظهر نشوزه فيصحح فورا.
رغم أن هنالك العديد من الميزات للغة العربية عن سائر اللغات الأخرى، إلا أن أميزها هي أنها لغة معربة، فيما جميع اللغات مبنية، أي أن الحركة على آخر الكلمة تحدد وظيفتها، فالمعرب صفة الحيوية، وبحسب موقعها تكون هذه الحركة، سواء كانت مرفوعة أومنصوبة أو مجرورة أو ساكنة.
كما أنه مع ثبات اللفظة، فإن تبديل الحركات على كل حرف نحصل على معنى مغاير، مثلا من الحروف الثلاثة (ق د ر)، بإمكاننا من هذا الجذر الواحد صنع ستة ألفاظ مستقلة متباينة في المعنى: فالقَدَرَ هو الأمر المكتوب من الله، والقَدْرُ هو المكانة والقيمة، والقِدْرُ هي وعاء الطهي، وقدَّرَ بمعنى حسَبَ، وقَدِرَ بمعنى تمكن، وقدَرَ بمعنى منع أو أنقص.
والميزة التي أعطت قيمة مضافة للعربية هي أن هذه الحركات جاءت مكملة لحروف الحركة (حروف العلة) وهي الألف والواو والياء، فالفتحة هي عبارة عن نصف المَدّةِ في حرف الألف، والضمة هي كذلك نصف واو، والكسرة هي نصف الياء، أما السكون فهي اللا حركة.
فائدة هذه الحركات أنها ضاعفت فاعلية الحروف من غير أن تزيد في عددها، ويمكن كتابة كلمات ذات حروف كثيرة من غير فصل هذه الحروف بحروف علة كما في اللغات الأخرى، والتي لا يمكن فيها لفظ الكلمة إلا إن كان الحرف متبوع بحرف من حروف الحركة، ولو أخذنا مثلا للتوضيح كلمة: (مُسْتَنْبَت) والتي تلفظ من غير مشقة رغم أنها من ستة حروف ليس بينها حرف علة واحد، فلو لفظناها بحروف اللغة الإنجليزية (mostanbat) فإننا نحتاج للزيادة على الحروف الستة الأصلية ثلاثة حروف علة.
هذه الحركات لا تقتصر دلالاتها على النفع اللغوي، بل تأتي في سياق منطقي مع الحياة، فتفسر سماتها، وتتوافق مع معطياتها الواقعية، وكل حركة تعطي المعنى المراد بلا لبس ولا غموض.
فالضمة شكلا جاءت من الواو لفظا، لكن الرفع معنى يأتي من السمو والعلو مقاما وتأثيرا.
فالرفع سمة الفاعل لأنه هو المؤثر صاحب الفعل والإرادة، فحق له أن يكون مرفوع القامة، وهو منطق الحضارة الإنسانية أيضاً.
والمبتدأ يجب أن يكون معرّفا لا نكرة وبادئا في الإخبار متبوعا لا تابعاً، والخبر الذي يترافق معه دوما لا يغادره ولا ينفصل عنه، لأنه حكم، والحكم لا يكون على نكرة، بل يحكم على ماهو معرف، وهذا هو منطق العدل، لذلك استوجب رفع المبتدأ والخبر، لأن كليهما في موقع المبادرة.
والفعل المضارع هو فعل قائم وأداء حاضر مستمر، لم ينتهي فعله بعد، فهو حركة مؤثرة في غيره، فاعلة في إحداث التغيير، فجاء مرفوعا في الأصل، إلا ان تسبقة أداة نصب أو جزم فتشكمه، فعندها لا يحق له أن يبقى مرفوعا.
أما النصب فجاء بالفتح، وهي مَدّةٌ قصيرة، لذلك جاءت على شكل ألف صغيرة مائلة الى شكل أقرب الى الإستواء، لذلك فالنصب ميلٌ الى الإستواء أي استقبال الفعل وتقبل نتيجته، وهذه سمة المفعول به الراضخ لما يحل به.
أما الجر فعلامته الكسرة، أي الإنكسار والخضوع، فمهما كان الإسم عظيما، إن جَرّهُ حرفُ جرٍّ كسرَ عَظَمته، وإن أُضيف الى نكرةٍ زادَهُ ذلك انكساراً وذلةً، لذلك جاءت الكسرة تحت الكلمة دلالة على التبعية وتعبيراً عن الدونية.
ويبقى السكون وعلامته دائرة مغلقة صغيرة تمثل فما مطبقا، دلالة الصمت وغياب التأثير، فشتّان بين رفع الفعل المضارع: (يقولُ) وبين (لم يقلْ) فجزمه أفقده حرف الحركة (و) فجعله ساكنا بعد أن كان يضج بالفعل والتأثير.