ملاحظات على جودة التعليم الجامعي
تاريخ النشر: 19th, December 2023 GMT
لقد سئمت من كثرة حديثي عن جودة التعليم في هذه الجريدة وفي غيرها، فلا غرابة إذا في أن يسأم أيضًا مَن يتابع ما أقول! منذ عشرين سنة أو يزيد كنت أتحدث عن سوءات التعليم ومناهجه في عالمنا العربي وخاصة في مصر، ومنذ ذلك الحين شاع في عالمنا العربي الكلام عن جودة التعليم الجامعي التي تولى أمرها أناس هم في الأغلب يعرفون كيفية صنع جداول إحصائية تقيس جودة التعليم من حيث الشكل والكم، أما من حيث الكيف أو الجودة الحقيقية للتعليم، فإنهم لا يعرفون شيئًا عنها.
تلك حالة فريدة عجيبة، قلما نجد لها نظيرًا في العوالم المتحضرة. ومنشأ هذه الحالة يكمن في الافتقار إلى رؤية واضحة لفلسفة التعليم وما يتعلق بها من تساؤلات، لعل أهمها هو: ماذا يعني التعليم ذاته، وما الهدف من ورائه؟ هل الهدف من التعليم هو تخريج أجيال من الموظفين الذين يمكن أن تحتاجهم الدولة في قطاعات معينة؟ ربما يكون هذا هو هدف التعليم في عصر محمد علي الذي بدأ من أرض فراغ، وكان يريد بناء دولة تقوم على مؤسسات قوية وعلى رأسها الجيش؛ ولكن هذه الرؤية لا تصلح في عصرنا الراهن. حقًّا إن التعليم في الدولة ينبغي أن يكون قادرًا على تخريج موظفين ومهنيين يخدمون في قطاعات متخصصة، ولكن هذا ليس هو الهدف الوحيد للتعليم؛ لأن التعليم في النهاية ينبغي أن يهدف إلى تنوير الوعي البشري في سائر المجالات، بما في ذلك مجالات العلوم الإنسانية والآداب والفنون، وعلى رأس هذه المجالات جميعًا تأتي الفلسفة باعتبار أن كل علم له أساس ومنظور فلسفي. والحقيقة أن غياب العلوم الإنسانية عن الدراسات المهنية المتخصصة (أعني تلك الدراسات التي تقوم بتخريج موظفين متخصصين تحتاجهم الدولة في قطاعات معينة تختلف نسبيًّا من دولة إلى أخرى) قد أوجد لنا أجيالًا من المتخصصين الضعاف، يفتقرون إلى الخيال والرؤية؛ وإلا فخبرني-أثابك الله- كيف يمكن لخريج أقسام العمارة في كليات الهندسة أن يبدع في مجال العمران البيئي من دون أن تكون له خبرة بالظواهر والاحتياجات الإنسانية! فأغلب الظن أنه سوف يلتزم بقواعد صماء ومعايير عامة جوفاء قد تعلمها في دراسته المنقوصة. ودعني أتساءل: هل وَجدتَ يومًا خريجًا من أقسام العمارة في كليات الهندسة قد سمع شيئًا عن «فينومينولوجيا العمارة»، رغم أن الفينومينولوجيا هي اتجاه فلسفي معاصر رئيس لا يزال له امتداداته منذ قرن في سائر العلوم الإنسانية، بل في العلوم الطبيعية أيضًا؟! وبوسعنا القول بأن افتقار دارسي العلوم المهنية المتخصصة إلى شيء من العلوم الإنسانية هو السبب في افتقارهم إلى الوعي، وربما يكون هذا هو السبب الحقيقي في جمود فكرهم وتطرفه، وهذا ما شاهدناه عمليًّا على أرض الواقع؛ إذ كانت مواقفهم في أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر تتسم بالعدوانية والتطرف. وربما ينطبق هذا أيضًا على طلبة كليات دار العلوم وأشباهها؛ -بالضبط- لأن هذه الكليات تعنى بتدريس العلوم الدينية والإسلامية واللغوية وفقًا لمناهج عتيقة لا علاقة لها بما يجري في العلوم الإنسانية منذ عقود عديدة قد تصل إلى قرن من الزمان.
وربما يليق أن أذكر هنا بعض الأمثلة المباشرة على فساد منظومة جودة التعليم في واقعنا الراهن. أذكر أولًا حالة العلّامة الفيلسوف عثمان أمين التي تجافي تمامًا طنطنة المسؤولين عن جودة التعليم: كان عثمان أمين يدرس لنا -قبيل وفاته بسنوات قليلة- موضوعًا واحدًا هو فلسفة ديكارت التي كان مفتونًا بها حتى إنه كان يزور قبر ديكارت ليترَّحم عليه! كان هذا الفيلسوف عاشقًا للفلسفة، وحينما زرته في بيته بمدينة الصحفيين بصحبة صديقي المرحوم الدكتور مصطفى لبيب، وجدته جالسًا إلى مكتبه مستعينًا بنظارته السميكة في ترجمة شيء من ترجماته المذهلة عن ديكارت، وقال لنا إنه أمضى يومًا كاملًا في ترجمة نصف صفحة من الكتاب الذي يترجمه! هذا بعض مما تعلمته من عثمان أمين، فضلًا عما تعلمت منه فيما يتعلق باللغة والأسلوب في التعبير عن الأفكار، فما الذي يعرفه المختصون في شؤون الجودة عن هذا المفكر العظيم الذي قال عنه العقاد بينما كان يقرأ كتابه عن «ديكارت» على شاطئ البحر: «بحر على بحر»! لا شك أنهم لو قُدِّر لهم تقييمه وفقًا لمعاييرهم الحالية؛ فإنهم سيمنحونه درجة «صفر» باعتباره كان يُدرِّس موضوعًا أساسيًّا واحدًا لا يفي باستمارات الجودة التي تقتضي تدريس موضوعات عديدة لها ساعات تدريسية محددة ومتطلبات لا حصر لها! ولقد تعلمت شيئًا شبيهًا بهذا من العلَّامة زكي نجيب محمود، وهذا ما ذكرت في مقال سابق.
ولقد حمدت الله أنني قد درست على هذين الكبيرين وأشباههما، فعرفت معنى جودة التعليم الحقيقية، ففي عصرهما كانت مصر تحتل في ترتيب جودة التعليم مكانة تفوق كثيرًا ما نحن عليه الآن، ومثل هذا ينطبق بدرجات متفاوتة على جودة التعليم في كثير من بلدان عالمنا العربي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العلوم الإنسانیة جودة التعلیم التعلیم فی
إقرأ أيضاً:
«العلوم الصحية» تدعو أعضاءها للمشاركة في مؤتمر الأشعة بوزارة الصحة..
دعت النقابة العامة للعلوم الصحية، أعضاءها، للمشاركة الفاعلة في مؤتمر وزارة الصحة والسكان، ممثلة في الإدارة العامة للأشعة، في الفترة بين 17 و 20 ديسمبر بأحد فنادق القاهرة، وذلك في إطار خطط النقابة لتعزيز دور كوادر العلوم الصحية، داخل المنظومات الصحية المصرية والعربية والعالمية، وخاصة العاملين في تخصص الأشعة.
وفى إطار الاستعدادات لمؤتمر الإدارة العامة للأشعة، عقدت النقابة العامة العلوم الصحية، اجتماعات موسعة مع المتحدثين فى المؤتمر من أبناء المهنة، حيث يحاضر أبناء العلوم الصحية فى المؤتمر عن أحدث التقنيات والذكاء الاصطناعي فى مجال الأشعة والتصوير الطبي.
وقال أحمد السيد الدبيكي، النقيب العام للعلوم الصحية، إن مشاركة النقابة في هذا المؤتمر تعكس التزامها الاستراتيجي بدعم وتأهيل أبنائها من العاملين في مجال الأشعة، وتزويدهم بأحدث المهارات والممارسات العالمية، بما يضمن تقديم خدمات صحية متطورة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، وتواكب المعايير الدولية المعتمدة في الفحوصات الطبية.
وأشار الدبيكي إلى أن كوادر العلوم الصحية، وخاصة فنيي وأخصائيي الأشعة، يمثلون ركيزة محورية في منظومة التشخيص والعلاج، وأن رفع كفاءتهم العلمية والعملية أصبح ضرورة وطنية.
مؤكداً أن النقابة وضعت خطة تدريبية متكاملة، لها 4 أهداف، وهي:
1- تعزيز مهارات التصوير الطبي بمختلف تقنياته "الأشعة السينية، الرنين، المقطعية".
2- تطوير قدرات العاملين على استخدام الذكاء الاصطناعي، في تحليل الصور وبياناتها لدعم قرار التشخيص.
3- التدريب على الأجهزة الحديثة وأنظمة العمل الرقمية في أقسام الأشعة، وفقاً لأحدث البروتوكولات.
4- مساندة الكوادر الشابة وتوفير برامج دراسية متخصصة وشهادات مهنية معتمدة.
وأضاف الدبيكي، أن النقابة تعمل على توسيع شراكاتها مع الوزارات الهيئات الأكاديمية والمنظمات الدولية، لضمان تطبيق أحدث معايير التدريب والتعليم المستمر، مشيداً بالدور الذي يلعبه مؤتمر الإدارة العامة للأشعة، باعتباره منصة مهمة لتبادل الخبرات، وعرض التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يشهده مجال الأشعة حول العالم.
وأكد الدبيكي على أن كوادر العلوم الصحية، تستحق كل أشكال الدعم، وأن النقابة تسعى إلى تمكينهم من أداء دورهم الحيوي داخل القطاع الصحي، خاصة في ظل التطور السريع للتقنيات الطبية، مشيراً إلى أن الاستثمار في تأهيل المتخصصين بالأشعة، هو استثمار مباشر في التنمية البشرية، وينعكس مباشرة على جودة الخدمة الصحية وسلامة المرضى.
وأكد نقيب العلوم الصحية، على أن النقابة ستواصل العمل لتعظيم دور أبنائها من خلال التدريب، وإتاحة فرص تطوير متقدمة، بما يضمن مواكبة التطورات العالمية، ويضعهم على خريطة التميز المهني محليا وإقليميا ودوليا.
اقرأ أيضاًجولات انتخابيه ناجحه لقائمة أحمد الأحمر في انتخابات النصر
ضبط شخص يوجه الناخبين للتصويت لصالح مرشح بالطالبية