لطالما كان الشرق الأوسط بأنماطه الهشة مسرحا للمواجهة بين القوى الكبرى من أجل تحقيق مصالحها، بينما توارى الحضور البريطانى وبرز نظيره الأمريكى فى المنطقة، دخلت الصين كمنافس قوى. وفى هذا السياق، أدت عملية طوفان الأقصى التى شنتها حركة حماس تجاه إسرائيل فى السابع من أكتوبر لعام ٢٠٢٣ إلى إيجاد اصطفافات جديدة على الساحة الدولية، وحاولت الصين إبراز ذاتها كقوة عظمى عابرة للإقليم.

 

أقامت الصين علاقات دبلوماسية كاملة مع فلسطين منذ عام ١٩٨٩، ومع إسرائيل منذ عام ١٩٩٣، ولكن بعد اندلاع الأزمة الأخيرة فى غزة، وعلى الرغم من الضغوط الأمريكية، تحاول الصين إظهار نهج معتدل. ولهذا الغرض، ومع بداية الأزمة، أرسل الرئيس الصينى شى جين بينغ مبعوثه إلى الشرق الأوسط "تشاى جون" إلى دول الشرق الأوسط، وأعرب عن أمله فى تنفيذ خطة حل الدولتين وإنشاء ممر إنسانى لمساعدة قطاع غزة، ثم وصف وزير الخارجية الصينى قصف المدنيين فى غزة بأنه أبعد من نطاق الدفاع عن النفس وتجنب إدانة حماس.

محددات 

توجد بعض المحددات التى من شأنها تفسير السلوك الصينى تجاه الأزمة فى غزة، وكيف حاولت أن تلعب دورًا جديدًا بالمنطقة يؤهلها لأن تكون القوة العظمى الأولى فى العالم مستقبلا منها: 

أولًا: تقديم عرض الوساطة

أبدت الصين منذ بدء الأزمة استعدادها للتنسيق مع الدول الأخرى فى المنطقة، للسعى من أجل التوصل إلى حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، وأن الحل الرئيسى للصراع المتكرر بين فلسطين وإسرائيل هو الحل السلمي، بما يتضمن حل الدولتين لتشكيل دولة فلسطين المستقلة وتحقيق نوع من التعايش السلمى بين الطرفين. وهو ما انتقدت على إثره كل من واشنطن وتل أبيب بكين بسبب عدم إدانتها لحماس، ولكن تمسكت الصين بموقفها ورفضت إصدار قرار من مجلس الأمن فى هذا الشأن، حتى لا تكون هناك حلقة مفرغة من المواجهة بين تل أبيب وفلسطين. 

وفى كل الأحوال، حاولت الصين تقديم ذاتها كقوة مسالمة ومحايدة فى النظام الدولى فى الأزمات الدولية، وتتبنى مواقف غير تدخلية، وهو ما اتضح من خلال أزمة غزة التى سعت من خلالها رسم مسار مختلف عن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذين دعموا إسرائيل بشكل مطلق. وجاء ذلك فى جزء منه على خلفية رغبة بكين فى الحفاظ على مصالحها بالمنطقة؛ حيث تعد الصين من أبرز الشركاء التجاريين لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويتم توفير نصف واردات الصين من النفط من دول الخليج العربي، ووصل حجم دالتجارة هذا العام مع العالم العربى إلى ٤٢٠ مليار دولار. 

ثانيًا: الحد من تفاقم الصراع

ركزت مبادرات الصين بشأن حل الصراع بين تل أبيب وفلسطين على مجالات واسعة مثل تنفيذ حل الدولتين، ومعالجة القضايا الإنسانية، ومنع الصراع من أن يصبح إقليميًا. ولهذا السبب، امتنعت الصين عن استخدام عبارة "إرهابي" و"هجوم إرهابي" لوصف هجوم حماس، أو وصف انتقام إسرائيل من العقاب الجماعى للمدنيين الفلسطينيين، وهو ما يظهر معارضتها للهجوم البرى الإسرائيلى على غزة من ناحية ورغبتها فى الحفاظ على مصالحها بالمنطقة مع كل الأطراف من جانب آخر. 

ويتسق ذلك مع سياسة الصين التجارية بالمنطقة والقائمة على إحداث توازن فى علاقتها الاقتصادية مع كل من إسرائيل والعرب القول إن الصين أقامت دائمًا معادلة من التوازن بين التجارة مع إسرائيل وعرب المنطقة، ففى الوقت الذى بلغت فيه حصة إيران من إجمالى تجارة الصين البالغة ٣،٢٩٦ مليار دولار مع العالم فى ٩ أشهر من عام ٢٠٢٠ نسبة ٠.٣٤٪ فقط، فإن تجارة الصين مع دول مثل العراق (٢٣ مليار دولار)، والمملكة العربية السعودية (٤٩.٢ مليار دولار)، وعمان (١٣.٥٩ مليار دولار)، وإسرائيل (١٨.٦٦ مليار دولار). وتظهر هذه الأرقام أن الصين ترغب فى أن تكون الشريك التجارى الأول لجميع دول المنطقة فقط. 

ثالثًا: تعزيز الشرعية على المستوى العالمى 

تدرك الصين جيدًا أن دعمها لغزة من الممكن أن يساهم فى تعزيز شرعيتها على المستوى الدولي، ولاسيما فى دول العالم الثالث التى تشكل القاعدة الشعبية الأهم لدعم فلسطين، وبالتالى فإن الحرب على غزة تشكل قضية تستطيع الصين استغلالها لحشد الدعم لقيادتها فى العالم النامي. والتشكيك فى موقف الولايات المتحدة الأمريكية الأخلاقى فى النظام الدولى وإزاحة هذه الأخيرة من مكانتها كحكم بلا منازع فى النزاعات الدولية؛ حيث إن تراجع مكانة واشنطن الدولية قد يشكل انتصارًا فى حرب "القوة الخطابية" من خلال الاستفادة من التعاطف مع الفلسطينيين فى مختلف أنحاء العالم.

وكذلك، يمكن لأزمة غزة أن توفر فرصة لتحقيق الاستقرار فى العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، والشاهد على ذلك هى الزيارة التى قام بها وزير الخارجية الصينى إلى واشنطن عقب عملية طوفان الأقصى لمحاولة إيجاد نوع من الاستقرار فى العلاقات الثنائية وحل الخلافات مع الولايات المتحدة الأمريكية. فرغم أن الصين والولايات المتحدة الأمريكية قد بدأتا العديد من المفاوضات لتحقيق الاستقرار فى العلاقات الثنائية من قبل، إلا أنها تعرضت للتوقف فى عام ٢٠١٨، لذلك كانت أزمة غزة بمثابة علامة على عملية استئناف المفاوضات بين البلدين. وخلال هذه الرحلة، أكد الجانبان أن العالم يحتاج إلى علاقة عامة مستقرة بين بكين وواشنطن، ثم التقى بايدن وشى على هامش القمة الاقتصادية لآسيا والمحيط الهادئ فى سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا. 

وفى النهاية: يمكن القول أن  حاجة الصين لتعزيز علاقتها الاقتصادية مع دول المنطقة يجبرها على الابتعاد عن تبنى نهج أحادى فى أى صراع إقليمى فى الشرق الأوسط. وبالتوازى مع ذلك، ورغم أن الصين ترغب فى ملء الفراغ الناجم عن تراجع الدور الأمريكى بالمنطقة، إلا أنها لا ترغب فى الدخول بمواجهة مباشرة مع واشنطن فى المنطقة تحت أى ظرف. وتدرك بكين أنها إذا أرادت الاستفادة من الموارد الطبيعية الوفيرة فى المنطقة، فيجب أن تصل هذه الجغرافيا إلى سلام واستقرار نسبيين، ولهذا السبب دخلت هذا الصراع الجديد كلاعب سلمي، بالنظر إلى أنها لن تسمح بالمساس بمصالحها فى المنطقة، الأمر الذى يكشف عن عدم رغبتها فى توسيع الصراع بالمنطقة.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: ارتدادات غزة الصين واشنطن الشرق الأوسط حركة حماس تفاقم الصراع مبادرات الصين المتحدة الأمریکیة الشرق الأوسط ملیار دولار فى المنطقة

إقرأ أيضاً:

الكويت… دبلوماسية الحكمة في زمن الأزمات

#سواليف

#الكويت… #دبلوماسية #الحكمة في #زمن_الأزمات

دراسة دولية توثق الدور القيادي للكويت في الوساطة الإقليمية

في وقت تتسارع فيه الأزمات وتتعقد فيه الصراعات في الشرق الأوسط، تبرز دولة الكويت كنموذج مختلف في إدارة السياسة الخارجية، قائم على الحكمة، والاعتدال، وتغليب لغة الحوار على منطق الصدام. هذا ما أكدته دراسة علمية حديثة نشرتها مجلة Contemporary Review of the Middle East الدولية المحكمة، الصادرة عن دار النشر العالمية SAGE، والتي وثقت الدور المحوري للكويت كوسيط إقليمي فاعل رغم كونها دولة محدودة من حيث الحجم والقوة العسكرية.

مقالات ذات صلة الدكتور رياض ياسين عضوا في لجنة اختيار المدن الاردنية 2025/12/09

وتُعد مجلة Contemporary Review of the Middle East من أبرز المجلات الأكاديمية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، وتحظى بسمعة علمية رفيعة، حيث لا تنشر إلا أبحاثًا تخضع لتحكيم دقيق، ما يضفي على هذه الدراسة وزنًا علميًا وسياسيًا خاصًا، ويعكس تقدير الأوساط البحثية الدولية للتجربة الكويتية.

الدراسة، التي جاءت بعنوان:
«الكويت كوسيط إقليمي: دبلوماسية الدولة الصغيرة والقوة الناعمة في صراعات الشرق الأوسط»،
أعدّها كل من الاستاذ الدكتور محمد تركي بني سلامة ،استاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك والطالب بندر ماجد العتيبي، وقدمت تحليلًا معمقًا للسياسة الخارجية الكويتية، مبيّنة كيف استطاعت الكويت أن تحجز لنفسها مكانة مؤثرة في ملفات إقليمية بالغة التعقيد.

وركزت الدراسة على أزمة الخليج عام 2017 بوصفها اختبارًا حقيقيًا للدبلوماسية الكويتية، حيث أشارت إلى أن القيادة الكويتية لعبت دورًا محوريًا في الحفاظ على الحد الأدنى من التماسك داخل مجلس التعاون الخليجي، ومنعت الانزلاق نحو قطيعة دائمة بين الأشقاء. واعتمدت الكويت، وفق الدراسة، على سياسة النفس الطويل، والوساطة الهادئة، والابتعاد عن التصعيد الإعلامي، ما أسهم لاحقًا في تهيئة الأرضية لمصالحة خليجية أعادت التوازن إلى البيت الخليجي.

كما تناولت الدراسة الدور الكويتي في الملف اللبناني، حيث سعت الكويت إلى احتواء التوترات بين لبنان ودول الخليج، مستندة إلى رصيدها الإنساني، ونهجها القائم على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. وأشارت إلى أن الكويت استطاعت، عبر أدوات القوة الناعمة والمساعدات الإنسانية والدعم التنموي، أن تحافظ على صورتها كدولة حريصة على استقرار المنطقة لا على تصفية الحسابات السياسية.

وأشادت الدراسة بشكل واضح بـ القيادة الكويتية، التي أرست هذا النهج الدبلوماسي المتزن، وعلى رأسها إرث سمو الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، طيب الله ثراه، والذي يُنظر إليه دوليًا باعتباره «قائد العمل الإنساني» وصاحب مدرسة فريدة في الدبلوماسية الهادئة. وأكدت الدراسة أن هذا النهج لم يكن ظرفيًا، بل تحوّل إلى سياسة دولة ومؤسسة راسخة، تواصل الكويت الالتزام بها في تعاملها مع مختلف الأزمات الإقليمية.

ورغم إشادتها بالدور الكويتي، لم تغفل الدراسة التحديات التي تواجه أي جهد وساطي في الشرق الأوسط، مثل تعقّد الصراعات، وتدخل القوى الإقليمية والدولية، والانقسامات الطائفية والسياسية. إلا أنها خلصت إلى أن الكويت نجحت في ترسيخ نفسها بوصفها وسيطًا موثوقًا ومحترمًا، وهو إنجاز استراتيجي في بيئة إقليمية شديدة الاستقطاب.

وسلطت الدراسة الضوء على الإسهام الأكاديمي للدكتور محمد تركي بني سلامة، أحد أبرز الباحثين العرب في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والذي قدّم من خلال هذا العمل قراءة علمية متوازنة تجمع بين التحليل النظري والواقع السياسي، بما يعزز حضور البحث العلمي العربي في المجلات الدولية المرموقة.

وتخلص الدراسة إلى أن التجربة الكويتية تمثل درسًا مهمًا في دبلوماسية الحكمة، وتؤكد أن النفوذ الحقيقي لا يُقاس بالقوة العسكرية فقط، بل بالقدرة على بناء الثقة، وإدارة الخلافات، وتقديم نموذج أخلاقي في السياسة الدولية، وهو ما جعل الكويت تحظى باحترام واسع إقليميًا ودوليًا .

للاطلاع على نص الدراسة
اضغط على الرابط ادناه

https://www.researchgate.net/publication/398492130_Kuwait_as_a_Regional_Mediator_Small-_state_Diplomacy_and_Soft_Power_in_Middle_Eastern_Conflicts

مقالات مشابهة

  • وثيقة سرية تكشف تعرض واشنطن لهزيمة كبيرة من الصين في حال غزو بكين لتايوان
  • إطلاق شركة “وايزمِن الشرق الأوسط” في أبوظبي لتعزيز حلول الطاقة الذكية في المنطقة
  • عاجل. بارّاك: هذه لحظة ترامب في الشرق الأوسط وإيران هي العقبة وطبيعة المنطقة القبلية تمنع قيام دول كبرى
  • وكالة الفضاء تبحث تعزيز التعاون الفضائي مع معهد بكين للتكنولوجيا
  • وكالة الفضاء المصرية تبحث تعزيز التعاون مع معهد بكين للتكنولوجيا
  • الكويت… دبلوماسية الحكمة في زمن الأزمات
  • البحرية الأمريكية تؤكد انتشال طائرتين تحطمتا في بحر الصين الجنوبي
  • هند الضاوي: واشنطن دعمت تدمير غزة وتبحث إعادة إعمارها الآن .. إسرائيل صناعة أمريكية
  • هند الضاوي: واشنطن دعمت تدمير غزة وتبحث عن إعادة إعمارها الآن.. وإسرائيل صناعة أمريكية
  • “موسكو فيلم كلاستر” يقدّم عرضه الأول في “سوق البحر الأحمر 2025”