هل تساهم حرب غزة في نشوب حرب عالميّة؟
تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT
يتّفق معظم الباحثين والمراقبين على أنّ الحربَ الحالية على غزة مختلفةٌ تمامًا عن المواجهات السابقة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال، بما جعل لها تداعيات إقليمية ودولية عديدة محتملة، بل ذهب البعض للقول؛ إنها قد تدفع نحو نشوب حرب عالمية ثالثة.
التأثيراتفي أي خريطة لدول العالم، لا تكاد فلسطين تظهر إلى جانب الدول الأوسع جغرافيًا، ويمثل قطاع غزة ما يقارب 2% فقط من مساحة فلسطين (360 كلم2).
ومنها كذلك رمزية القضية الفلسطينية ومواقف الأطراف المختلفة منها. ومنها أيضًا السياق الإقليمي والدولي الذي تنزلت فيه وتطوراته المهمة والمؤثرة، مثل: وباء كورونا المستجد، والحرب الروسية – الأوكرانية عالميًا، ومسار التطبيع العربي مع دولة الاحتلال إقليميًا.
ولذلك، فقد بحث الكثيرون في الارتدادات الإقليمية والدولية للحرب على غزة. إقليميًا من حيث احتمالات توسعها نحو مواجهة إقليمية شاملة والتي ترتفع فرصها تدريجيًا، رغم عدم رغبة الأطراف بذلك، ومن حيث مسار التطبيع العربي مع دولة الاحتلال والذي يبدو أنه جُمِّد مؤقتًا على أقل تقدير، ومن حيث تقييم مواقف مختلف الأطراف منها، وبالتالي تقييم الأطراف نفسها وأدوارها والتعامل المستقبلي معها، ومن حيث ارتدادات الحرب على استقرار بعض الأنظمة وردّات الفعل الداخليّة فيها.
وأما الانعكاسات ذات البعد الدولي فتركز أساسًا على موقف بعض الدول الغربية: حكوماتها ومؤسساتها ووسائل إعلامها، من الحرب ومستوى انخراطها فيها (الولايات المتحدة مثالًا)، وبالتالي انعكاس كل ذلك على العلاقات المستقبلية مع هذه الدول والنظرة للحضارة والنموذج الغربيين. وليس مدى انتشار حركة مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال سوى مؤشر بسيط على مدى عمق شرخ الثقة الحاصل مؤخرًا بين العالم العربي والإسلامي ومعظم الدول الغربية.
يحاجج الكثيرون بأن الواقع الحالي لا يشير إلى أي احتمالية لنشوب حرب عالمية ثالثة على هامش العدوان على غزة، بالنظر للمواقف "الهادئة" لكل من الصين وروسيا، وبدرجة أقل إيران التي عبّرت مرارًا عن عدم رغبتها في الانخراط فيها، وهو طرح ذو وجاهة كبيرة
حرب عالميةويبقى أحد أهمّ النقاشات المتعلقة بالحرب على غزة وتبعاتها الدولية مدى احتماليّة مساهمتها في الوصول لحالة حرب عالمية ثالثة، بين من يرى أن ذلك تضخيم ومبالغة، ومن يرى بوجاهة هذا الاحتمال، ما يعزز الحاجة للنقاش.
يعرّف الكثيرون الحرب العالميّة على أنّها مواجهة مسلّحة تنخرط بها عدة دول من عدة قارات، ويبسّطها البعض الآخر على أنّها حرب بين القوى العظمى.
في حالة الحربين العالميتين: الأولى والثانية مرّت مدة زمنية طويلة تخللتها الكثير من التطورات والحروب قبل أن يطلق أحدهم على ما يحصل مصطلح: "حرب عالمية" أو "الحرب الكبرى". وفي الأصل، فإن ما يحدث هو سلسلة من المواجهات المسلحة والحروب التي بتطورها وتسببها بمواجهات إضافية تؤدّي إلى امتداد رقعة النزاع، ودخول أطراف جديدة للحرب باستمرار إلى حد وصولها نقطة اللاعودة.
وبعيدًا عن الأسباب المباشرة التي توصف بـ "غير الحقيقية"، ثمة ما يُعدُّ أسبابًا حقيقية لنشوب الحرب العالمية، في مقدمتها الأزمات الاقتصادية، وحدّة التنافس بين الدول، وخصوصًا القوى العظمى، وانتشار التيارات اليمينية وزيادة نفوذها، ووجود مناطق نزاع مشتعلة أو قابلة للاشتعال، وقيادات مندفعة، وأخيرًا ضعف المؤسّسات الدولية التي يفترض أن تكون مرجعية.
وهكذا، كان الكسادُ الكبير (1929)، ونموّ التيارات النازية والفاشية، ووجود قيادات، مثل: هتلر وموسوليني، وسباق التسلح، والتحالفات المتشكلة، وعجز عصبة الأمم عن منع ثم معالجة غزو اليابان لمنشوريا (1931)، وغزو إيطاليا لإثيوبيا (1935)، ثم اجتياح ألمانيا لبولندا (1939) الأسبابَ المباشرة لاندلاع الحرب العالمية الثانية.
حرب غزةاليوم، لا يمكن تجاهل التشابه الكبير بين الظروف الدولية الحالية، وتلك التي كانت سائدة قبيل الحرب العالمية الثانية. إن الأزمات الاقتصادية العالمية المتكررة والتي عمقتها جائحة كورونا، وحالة التنافس الشديد بين الولايات المتحدة من جهة، وكل من الصين وروسيا من جهة ثانية، والمناطق المشتعلة، مثل: أوكرانيا، وفلسطين، وسوريا، وجنوب القوقاز، والنزاعات المحتملة، مثل: بحر الصين الجنوبي، وشرق المتوسط، والبلقان، وزيادة حضور اليمين المتطرف في دول غربية، كلها عوامل تخلق بيئة دولية متوترة ومشابهة إلى حد كبير لظروف ما قبل 1939، لا سيما إذا ما أضيف لها ضعف الأمم المتحدة ومجلس أمنها.
ذلك أن الاعتراضات على النظام الدولي المجحف وضعف أداء مجلس الأمن في القضايا الدولية قديمة، والدعوات لإصلاح النظام الدولي متكررة، إلا أن الأمم المتحدة بقيت ذات حضورٍ رغم الثغرات والأخطاء، لكن الحرب على غزة زادت من حالة عجزها وعدم اكتراث القوى العظمى لها.
فشل مجلس الأمن الدولي أكثر من مرة في إصدار قرار بوقف إطلاق النار في غزة، في معظمها بسبب استخدام الولايات المتحدة (ودول أخرى) حقَّ النقض (الفيتو)، بينما صدرت عنه قرارات تتعلق بهدن إنسانية وإدخال مساعدات بعد امتناع واشنطن عن التصويت، وهو ما حصل بعد مفاوضات ومساومات وضغط واشنطن باتجاه تغيير نص القرارات المقترحة تلويحًا بالفيتو.
وهكذا، ورغم أن 120 دولة من أصل 193 في الجمعية العامة صوتت لصالح قرار بوقف فوري لإطلاق النار (27/10/2023)، وتصويت 153 دولة على قرار مماثل في 12/12/2023، فإن واشنطن استخدمت الفيتو في وجه كل قرار دعا لوقف إطلاق النار بما فيها القرار الصادر في 8/12 من العام الماضي، بينما مررت القرار الصادر في 22/12 منه الداعي لإدخال مساعدات بالامتناع عن التصويت بعد رفضها نصَّ القرار على وقف إطلاق النار.
تُظهر توجهات التصويت في كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن كيف أن دولة واحدة تمتلك حق النقض يمكنها أن تمنع المؤسسة الدولية من اتخاذ قرار تريده الغالبية الكاسحة من دول العالم، ويمنع إبادة شعب، وكيف يتحول مجلس الأمن لمؤسسة عاجزة إزاء أي قضية تخص إحدى الدول الخمس دائمة العضوية.
في المقابل، يحاجج الكثيرون بأن الواقع الحالي لا يشير إلى أي احتمالية لنشوب حرب عالمية ثالثة على هامش العدوان على غزة، بالنظر للمواقف "الهادئة" لكل من الصين وروسيا، وبدرجة أقل إيران التي عبّرت مرارًا عن عدم رغبتها في الانخراط فيها، وهو طرح ذو وجاهة كبيرة.
لكن ينبغي الإشارة إلى أن احتمالات التوسع قائمة وترتفع كلما استمرّ العدوان على غزة، واستمر انخراط بعض الأطراف، مثل: حزب الله في لبنان، وأنصار الله/الحوثيين في اليمن، إذ أن مستويات التوتر والضربات المتبادلة في مختلف الجبهات في ازدياد لا تراجع.
ولا ينبغي تجاهل حقيقة أن الكثير من الحروب تندلع و/أو تتوسع بدون إرادة مباشرة من أطرافها، وإنما نتيجة أخطاء غير مقصودة أو حسابات غير دقيقة، أو تدحرج الأحداث بشكل غير منضبط وغير متعمد.
من جهة ثانية، فإن سعي الولايات المتحدة لاحتواء الحرب وحصرها في غزة قد أدّى لنتائج عكسية، حيث توسّعت وتعمقت، وخصوصًا في جبهتَي جنوب لبنان، وجنوب البحر الأحمر.
وكما أن استمرار الحرب وتفاقمها يحملان دائمًا مخاطر توسعها وتعمقها، فإن كل توسع في نطاق الحرب يحمل مخاطر توسع جديد وتعمق أكبر وانخراط أطراف إضافية؛ لأن كل تغير ملموس يعني إنتاج مخاطر جديدة، ووضع مصالح إضافية على المحك، وإضافة حسابات لم تكن قائمة سابقًا.
فاستمرار الحرب على غزة أدَّى لانخراط حزب الله والحوثيين، واستمرار ذلك يحمل مخاطر انخراط إيران فيها، وإذا ما حصل ذلك لأي سبب فإن ذلك يرفع من احتمالات تدخل روسيا و/أو الصين بدرجة أو بأخرى.
وإذا كان ثمة من يرى أن الانتخابات الرئاسية الأميركية مانعٌ قوي لتوسع الحرب من باب عدم رغبة واشنطن بذلك، فإن هذا المعطى- تحديدًا- قد يدفع أطرافًا أخرى لمحاولة اختبار آفاق الموقف الأميركي وسقف صبره في هذا الإطار.
ولعل مقتل ثلاثة جنود أميركان في القاعدة في الأردن مثال جيد على "المعضلة الأمنية" المتمثلة في تصاعد مساعي الردع، والردع المقابل، واختبار السقوف من الجانبين، بما ينذر باحتمال انفلات الأمور عند نقطة ما.
وعليه، ختامًا، لا شك أن الحرب على غزة ليست سببًا مباشرًا فضلًا عن أن يكون كافيًا لنشوب حرب عالمية أو أقله انخراط قوى عظمى مقابل أخرى فيها، إلا أن إضافة السياق الدولي والإقليمي والعوامل سالفة الذكر تقول بشكل واضح إن هذه الحرب تزيد في ضعف النظام الدولي القائم وخلخلته، وضعف المؤسسات الدولية المرجعية، وتزيد بالتالي من احتمال تصادم القوى العظمى.
الحرب على غزة، وَفق هذا المنظور، تضيف للسياق الدولي السائد حاليًا حلقة إضافية وتسرّع من خطواته نحو عالم متعدد الأقطاب و/أو الفوضى والصدام، ويبقى التاريخ وتطور الأحداث الحكم الأفضل لمآلاتها على الصعيدَين: الإقليمي والدولي.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الولایات المتحدة حرب عالمیة ثالثة الحرب على غزة القوى العظمى من حیث
إقرأ أيضاً:
الحفرة التي سقطت فيها الفتاة: أهمية منع الإهمال لمنع الكارثة قبل أن تقع
صراحة نيوز- كتب أ.د. محمد الفرجات
دعوة لتأسيس منظومة ذكية لإدارة الأخطار قبل أن تتحول الإهمالات الصغيرة إلى مآسٍ…
حادثة سقوط فتاة أمس في حفرة مملوءة بالمياه في أحد شوارع عمان لم تكن في جوهرها “حادثًا عابرًا”، بل عرضًا واقعيًا لترهل إداري مزمن، وغياب منظومة ذكية محوسبة تتتبع الأعمال الميدانية والحفريات ومواقع الخطر في الوقت الحقيقي. هذه الحادثة لم تكن بحاجة إلى “مذنب مباشر”، بقدر ما كانت بحاجة إلى منظومة تمنع حدوث الخطأ أصلاً.
الإشكالية ليست حفرة… الإشكالية غياب نظام إدارة مخاطر
حين تُترك حفرة بعد أعمال صيانة أو مشروع بنية تحتية دون حماية أو متابعة أو تحديث، فهذا ليس خطأ عامل أو موظف. هذا فشل نظامي مؤسسي — فشل في التوثيق، فشل في الرقابة، فشل في اتخاذ القرار، وفشل في إدارة الخطر.
في دول تُعامل سلامة المواطن كأولوية عليا — مثل دول الخليج المتقدمة إداريًا، ودول الاتحاد الأوروبي، وكندا، واليابان، والصين — لا يُعتمد على اجتهاد موظف، ولا على تفقد ميداني عابر، بل تُدار المدن عبر أنظمة ذكية ودقيقة وصارمة:
منصات رقمية تربط البلديات وشركات المياه والكهرباء والاتصالات والأشغال والمقاولين.
مصفوفات ذكاء اصطناعي ترصد أي عمل مفتوح وتقيّم درجة خطورته.
تنبيهات تلقائية تُرسل للمسؤولين عند وجود موقع غير محمي أو متأخر أو يشكل تهديدًا للمارة.
مؤشرات أداء يومية تصل للمسؤول الأعلى تُظهر عدد الحفريات النشطة ونسب التأمين والاستجابة.
في تلك الدول، الخطر يُدار قبل حدوثه، لا بعد وقوعه.
ما نحتاجه في الأردن ليس تعليمات جديدة… بل تحول في عقلية الإدارة
لا يجب أن تُختزل الحادثة في سؤال: “من ترك الحفرة؟”
بل يجب أن يتحول السؤال إلى:
أين المنظومة الذكية التي كان يجب أن تمنع وجود حفرة غير محمية أصلاً؟
كيف لم يظهر إشعار خطر على شاشة مسؤول البلدية؟
أين لوحة المتابعة التي تربط المقاول والمهندس والجهة المالكة للمشروع؟
كيف تُدار مدينة بملايين البشر دون نظام موحد لإدارة الأعمال الميدانية؟
غياب هذه المنظومة يعني أننا ما زلنا نعمل بعقلية الورقيات والاجتهادات الفردية، بينما العالم يتقدم بأنظمة تتبع لحظي وإدارة ذكية للأخطار.
مطلوب الآن: مصفوفة وطنية ذكية لإدارة أعمال الميدان…
حادثة الأمس يجب أن تكون نقطة التحول نحو إطلاق مصفوفة وطنية موحدة تشمل جميع الجهات ذات العلاقة، تعمل على:
1. تسجيل كل حفرية أو نشاط ميداني أو فعل لحظة إحداثه على خريطة رقمية وطنية.
2. تحديد درجة خطورته (عالي — متوسط — منخفض).
3. فرض إجراءات حماية إلزامية بحسب مستوى الخطر.
4. استخدام الذكاء الاصطناعي لرصد أي موقع مهمل أو غير محمي.
5. إرسال تنبيهات فورية للمسؤولين في أكثر من مستوى.
6. فرض غرامات آلية على الجهات المتقاعسة.
7. إصدار لوحة قيادة يومية تصل للوزارة والمحافظة ورئيس البلدية.
بهذا فقط ننتقل من إدارة رد الفعل إلى إدارة الخطر قبل وقوعه.
ختامًا: حادثة الأمس رسالة وعلى الدولة أن تستمع
ليست المشكلة حفرة، بل مشكلة نظام إداري غير ذكي وغير مترابط وغير متابع.
غياب التكنولوجيا في الإدارة لم يعد خيارًا، بل خطرًا مباشرًا على حياة الناس،،، وعليه… فالحل ليس معاقبة موظف وننهي القضية، بل بناء منظومة تمنع الخطأ من جذوره.
وحتى نرى مصفوفة ذكية موحدة في الأردن لإدارة أعمال الميدان، ستبقى هذه الحوادث تتكرر.
ونحن سنبقى نكتب ذلك حتى تنتقل مؤسساتنا من ثقافة “الرد على الكارثة” إلى ثقافة منع الكارثة قبل أن تبدأ.