الاقتصاد المصري بين الأزمة والعلاج
تاريخ النشر: 14th, February 2024 GMT
يعيش الاقتصاد المصري أزمة عميقة ليست وليدة اليوم، بل هي تراكمات بعضها فوق بعض منذ الانقلاب على أول رئيس مصري منتخب، الدكتور محمد مرسي رحمه الله، وانسداد الأفق السياسي، واتجاه السياسة الاقتصادية نحو التركيز على الديون وتوجيهها إلى إقامة مشروعات باهظة التكاليف قليلة العوائد؛ كما حدث في مشروع تفريعة قناة السويس ومشروع العاصمة الإدارية الجديدة وغيرهما.
فبدلا من تضييق الخناق عن اللجوء للديون، أو اللجوء إليها في حال توجيهها لمشروعات لها القدرة على تحقيق عائد يفوق تكاليفها وتعزيز الصادرات وتشغيل عمالة، تم استخدام هذه الديون بصورة لا تتفق والمسلّمات الاقتصادية، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي في قرضين لم يكتمل صرف الأخير منهما.
وقد شهد سعر صرف الجنيه خلال الفترة القلية الماضية انهيارا، حيث سجل مستويات قياسية في السوق الموازية، فتعدى سعر تداول الدولار فيها إلى أكثر من 72 جنيها، بفارق أكثر من 130 في المئة كل هذا نتيجة طبيعية لتلك السياسة الاقتصادية التي جعلت كل هدفها التوريط والتجريف والتخدير، من خلال توريط الجيل الحالي والأجيال المستقبلية في ديون لا قبل لهم بها، وتجريف الأصول ببيعها أو بمعنى آخر بحرقها لترقيع سداد الديون، ودون مراعاة ما يمس الأمن القومي المصري نتيجة طبيعة الطرف المشتري الذي يصب في نهاية المطاف في حِجر الكيان الصهيوني، فضلا عن تخدير الناس بجنة المشروعات التي ثبت للجميع أن عائدها سراب وتكاليفها عناءعن سعره الرسمي. ولم يختلف الحال كثيرا في سعره بالنسبة للعقود الآجلة غير القابلة للتسليم لأجل 12 شهرا في الأسواق الدولية، وكذلك في تسعير شهادات الإيداع الدولية.
وكل هذا نتيجة طبيعية لتلك السياسة الاقتصادية التي جعلت كل هدفها التوريط والتجريف والتخدير، من خلال توريط الجيل الحالي والأجيال المستقبلية في ديون لا قبل لهم بها، وتجريف الأصول ببيعها أو بمعنى آخر بحرقها لترقيع سداد الديون، ودون مراعاة ما يمس الأمن القومي المصري نتيجة طبيعة الطرف المشتري الذي يصب في نهاية المطاف في حِجر الكيان الصهيوني، فضلا عن تخدير الناس بجنة المشروعات التي ثبت للجميع أن عائدها سراب وتكاليفها عناء.
وما زالت الحكومة تسير في نفس النفق باسم حل أزمتها، وما ذاك إلا ترقيع للأزمة لتعقبها أزمة أخرى أكبر من أختها، فها هي الحكومة تتجه للتداين من جديد وتسلم المزيد من رقبتها لصندوق الاستعباد المسمى صندوق النقد الدولي الذي لا يأتي بخير، حيث يتردد الآن بأن الحكومة تقترب من اتفاق مع الصندوق سيرفع قيمة برنامج القرض الأخير من 3 مليارات إلى 7-8 مليارات دولار على ثلاث سنوات، مع الحصول على دفعة مقدمة إلى جانب 700 مليون دولار بعد إتمام المراجعتين الأولى والثانية من برنامج القرض، هذا القرض الذي انعقد في أواخر عام 2022 بموجب برنامج مدته 46 شهرا ولم تحصل مصر سوى على 347 مليون دولار من هذا المبلغ، بينما يرتبط حصولها على شرائح إضافية بمراجعة الصندوق لمدى التقدم الذي أحرزته بشأن شروط الاتفاقية المتعلقة بما يسمى بالإصلاح الاقتصادي.
كما اتجهت الحكومة إلى التفريط في أجمل مناطق الدنيا، منطقة رأس الحكمة في الساحل الشمالي، وهو قرار يفتقر للحكمة، حيث اختارت الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة تحالفا إماراتيا لتنفيذ مشروع باستثمارات 22 مليار دولار في تلك المنطقة.
كما أنه في ظل ارتفاع الأسعار وعدم استقرارها اتجه البنك المركزي المصري إلى رفع أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس، لأول مرة منذ آب/ أغسطس من العام الماضي، كما أعلن السيسي عن حزمة حماية اجتماعية جديدة بـ180 مليار جنيه اعتبارا من آذار/ مارس المقبل؛ تشمل زيادة أجور العاملين في القطاع العام، ورفع حد الإعفاء من ضريبة الدخل، مشكلة مصر الاقتصادية لا يمكن فصلها عن مشكلتها السياسية، فانسداد الأفق السياسي يحقق انسدادا للأفق الاقتصادي، ومصر ليست دولة فقيرة بل دولة متنوعة الموارد، سماها وزير ماليتها نبي الله يوسف عليه السلام "خزائن الأرض"، وفيها عقول يعرف العالم قدْرها، لذا فإن الخروج من المأزق الراهن يحتاج إلى وضع استراتيجية واضحة المعالم وتحويلها إلى سياسات وإجراءات يتم البدء في تطبيقهاوزيادة المعاشات، إلى جانب رفع الحد الأدنى لأجور العاملين في القطاع العام بنسبة 50 في المئة؛ إلى 6000 جنيه. وهي خطوة مطلوبة، ولكنها متواضعة مقارنة بالزيادة في الأسعار، وما سوف يترتب على تعويم الجنيه إن عاجلا أو آجلا وفق متطلبات صندوق النقد الدولي الذي خفض توقعاته لنمو الاقتصاد المصري مجددا في العام المالي الحالي (2024/2023) إلى 3.0 في المئة من توقعاته السابقة البالغة 3.6 في المئة.
إن مشكلة مصر الاقتصادية لا يمكن فصلها عن مشكلتها السياسية، فانسداد الأفق السياسي يحقق انسدادا للأفق الاقتصادي، ومصر ليست دولة فقيرة بل دولة متنوعة الموارد، سماها وزير ماليتها نبي الله يوسف عليه السلام "خزائن الأرض"، وفيها عقول يعرف العالم قدْرها، لذا فإن الخروج من المأزق الراهن يحتاج إلى وضع استراتيجية واضحة المعالم وتحويلها إلى سياسات وإجراءات يتم البدء في تطبيقها.
والحل في الأزمة الاقتصادية المصرية ليس ماديا فقط بل معنويا أيضا، والمعنوي لا بد أن يسبق المادي لمن يريد حلا، وذلك بإنهاء المظالم وتبييض السجون من المظلومين، مع إصلاح القضاء، والاعتماد على أهل الخبرة والأمانة في الاقتصاد، وفتح المجال لهم للإصلاح، وتعزيز قوى السوق الحرة الشريفة بعيدا عن عسكرة الاقتصاد، وتوجيه الجيش لأداء مهامه في التصنيع الحربي وامتلاكه ميزة نسبية في ذلك تعزز الصادرات، مع أهمية الدفع بقوة الاقتصاد نحو تعزيز الإنتاج المحلي وتعزيز الصادرات وترشيد الواردات، والاستفادة من الاستثمار الأجنبي المباشر وفق المصالح المتبادلة، وفي الوقت نفسه تبدو أهمية التخلص من سيطرة صندوق النقد الدولي بوضع سعر عادل لسعر صرف الجنيه المصري، والإعلان عن جدولة الديون بدلا من ترقيعها، والتوقف بعد ذلك كليا عن اللجوء للديون لا سيما الخارجية منها.
twitter.com/drdawaba
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاقتصاد المصري مصر اقتصاد قروض أزمات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النقد الدولی فی المئة
إقرأ أيضاً:
اتفاقية الشراكة الاقتصادية العُمانية - الهندية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العماني
بالنظر إلى التطورات المتسارعة في المشهد الاقتصادي الإقليمي والدولي، تبدو اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند خطوة تحمل طابعًا استراتيجيًا واسع التأثير، ليس فقط من حيث تعزيز التبادل التجاري، بل من حيث إعادة صياغة الدور الاقتصادي لسلطنة عمان على مدى السنوات المقبلة. فالمؤشرات الأولية القائمة اليوم تُظهر أن التعاون بين البلدين آخذ في النمو بوتيرة ثابتة، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية خلال العام المالي 2024-2025 ما يقارب 10.61 مليار دولار، وهو رقم يعكس علاقة اقتصادية راسخة قابلة للتوسع بمجرد تفعيل الاتفاقية المرتقبة. ويأتي ذلك في وقت تتطلع فيه سلطنة عُمان إلى اقتصاد أكثر تنوعًا، وأكثر قدرة على المنافسة، وأكثر انفتاحًا على الأسواق الآسيوية والعالمية.
وإذا ما نظرنا إلى طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين، فإن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لعُمان يمنحها نقطة قوة محورية. فالموانئ العُمانية مثل صلالة والدقم وصحار لا تُعد بوابات بحرية عادية، بل منصات إقليمية ذات قدرة عالية على خدمة التجارة الدولية وربط آسيا بأفريقيا والخليج وأوروبا. وفي حال اكتملت اتفاقية CEPA، فإن هذه الموانئ لن تكون مجرد نقاط عبور للسلع العُمانية أو الهندية، وإنما محاور لوجستية تجذب الاستثمارات الصناعية والخدمية، وتدعم حركة إعادة التصدير، وتُسهم في بناء منظومة اقتصادية تُضاعف القيمة المضافة داخل سلطنة عُمان. ومن شأن هذه المنظومة أن تُعيد تشكيل قطاعات واسعة تتعلق بالنقل والتخزين والخدمات اللوجستية والصناعات التحويلية، الأمر الذي ينعكس على توسيع فرص العمل وتحسين نوعية الأنشطة الاقتصادية.
ومع أن الاتفاقية تفتح آفاقًا واسعة أمام التجارة في الاتجاهين، إلا أن الجانب الأكثر أهمية لسلطنة عمان يكمن في تعزيز الصناعات المحلية. إذ تستهدف عُمان ضمن رؤيتها 2040 بناء اقتصاد متنوع قائم على الصناعة والتكنولوجيا والخدمات المتقدمة، وليس اقتصادًا يعتمد على سلعة واحدة. ومع الحصول على نفاذ تفضيلي إلى سوق تتجاوز قوامها 1.4 مليار نسمة، فإن مجالات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألمنيوم، الأسمنت، الرخام، المنتجات الزراعية، والمنتجات التقليدية العُمانية يمكن أن تشهد توسعًا نوعيًا في صادراتها. هذه الأسواق الضخمة لا تستوعب المنتجات فحسب، بل تحفّز أيضًا الصناعات المحلية على رفع مستويات الجودة، وتحسين سلاسل الإنتاج، وزيادة الطاقة التشغيلية، وإيجاد مساحات أكبر للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تطمح إلى التصدير.
ومن زاوية مستقبلية، يمكن اعتماد سيناريويهن لتقدير أثر الاتفاقية على حجم التجارة الثنائية: سيناريو متحفظ يفترض نموًا سنويًا بمتوسط 8%، وسيناريو تفاؤلي يفترض نمواً بمتوسط 12%، وذلك مقارنة بمعدل النمو الطبيعي للتجارة الذي يدور حول 3%. وبناء على هذه الحسابات، يمكن أن يرتفع حجم التجارة الثنائية من 10.6 مليار دولار اليوم إلى ما يقارب 15.6 مليار دولار خلال خمس سنوات في السيناريو المتحفظ، وإلى ما يتجاوز 18.7 مليار دولار في السيناريو المتفائل. ومع استمرار النمو لعشر سنوات، يمكن أن يصل الحجم التجاري بين البلدين إلى نحو 23 مليار دولار في السيناريو المتحفظ، فيما قد يصل إلى قرابة 33 مليار دولار في السيناريو التفاؤلي. وهذه القفزات المحتملة لا تأتي فقط من زيادة حجم المبادلات التقليدية، بل من توسع في الصناعات التحويلية، والاستثمار في خطوط إنتاج جديدة تستهدف السوقين معًا.
ومن شأن هذه التحولات أن تُعيد تشكيل الاقتصاد العُماني ليصبح أكثر مرونة في مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر قدرة على النمو الذاتي من خلال الإنتاج المحلي والصناعات الوطنية. ومع ازدياد النشاط اللوجستي، وتوسع المناطق الحرة، وتجدد الاستثمارات الصناعية، سيكون لعُمان موقع جديد على خارطة التجارة العالمية، موقع يعكس قدرتها على استغلال مواردها الجغرافية والبشرية والاقتصادية لبناء اقتصاد متنوع ومستدام. وإذا ما وُظفت هذه الفرص بالشكل الصحيح - عبر التخطيط، وإدارة الموارد بكفاءة، وتطوير التشريعات، وتحفيز الكفاءات الوطنية - فإن السنوات العشر المقبلة قد تشهد تحولًا جذريًا في شكل الاقتصاد العُماني وحجمه.
بينما تتعمق سلطنة عُمان في توسيع شراكاتها الدولية، تمثّل اتفاقية التجارة الحرة مع الهند نقطة تحول قادرة على إطلاق موجة جديدة من النشاط الاقتصادي الذي يترابط فيه التصنيع بالتجارة، ويُكمل فيه الاستثمار اللوجستيات، ويتقاطع فيه النمو الصناعي مع توسع أسواق التصدير. فالعلاقة مع الهند ليست علاقة تجارية عابرة، بل علاقة راسخة تستند إلى تاريخ طويل من التبادل والتداخل الاقتصادي والثقافي، ما يجعل الاتفاقية القادمة امتدادًا طبيعيًا لمسار مشترك يتطور باستمرار. ويُتوقع أن تشكل الاتفاقية حافزًا لعدد من القطاعات التي كانت تتطلع إلى الوصول إلى أسواق أكبر، وفي مقدمتها القطاعات الصناعية التحويلية التي تعتمد على المواد الأولية المتوفرة في سلطنة عُمان، وتستهدف خلق قيمة مضافة قبل التصدير.
ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جيو-اقتصادية عميقة تتجه فيها دول عديدة إلى تعزيز الاندماج الإقليمي والانفتاح على آسيا، ما يجعل توقيع الاتفاقية مع الهند خطوة تجسد فهمًا استراتيجيًا لموازين القوى الاقتصادية الجديدة. فالهند اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وضمن أكبر خمس اقتصادات عالمية من حيث الناتج المحلي الإجمالي؛ وبالتالي، فإن تأسيس شراكة اقتصادية شاملة معها يضع عُمان ضمن شبكة اقتصادية صاعدة ستعيد تشكيل مسارات التجارة خلال العقود المقبلة. ومن خلال هذه الشبكة، يمكن لسلطنة عمان أن تعمّق دورها كمركز إقليمي للتجارة والخدمات الصناعية، وأن تستفيد من الطلب الهائل في الهند على المواد الخام والمنتجات الصناعية والسلع الاستهلاكية.
وإذا ما نظرنا إلى تأثير الاتفاقية على الشركات الصغيرة والمتوسطة في عُمان، سنجد أن CEPA قد تكون فرصة تاريخية لهذه الفئة من الشركات لتوسيع آفاق أعمالها. فالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكل جزءًا أساسيًا من هيكل الاقتصاد الوطني، وتحتاج إلى بيئة تجارية تدعم منتجاتها وتمكنها من الوصول إلى أسواق جديدة. ومع تيسير الإجراءات الجمركية، وتخفيض الرسوم، وتسهيل النفاذ إلى الأسواق، يمكن لهذه الشركات أن تجد في السوق الهندية منفذًا واسعًا لتسويق منتجاتها، سواء في قطاعات الأغذية، أو المنسوجات، أو المنتجات العطرية، أو الصناعات التقليدية. وهذه النقلة يمكن أن تُسهم في خلق ثقافة تصدير أقوى، وترسيخ روح المبادرة، وتعزيز الابتكار داخل الشركات العمانية.
أما على مستوى الأمن الغذائي، فإن الهند ـ باعتبارها قوة زراعية ضخمة ـ يمكن أن تكون شريكًا استراتيجيًا لسلطنة عمان في تلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة. ومع تسهيل الاستيراد عبر CEPA، يمكن لعُمان أن تؤمن سلة غذائية متنوعة بأسعار تنافسية، ما يرفع من مستوى الاستقرار الغذائي ويعزز من قدرة السوق المحلي على مواجهة تقلبات الأسعار العالمية. وفي المقابل، يمكن للمنتجات العمانية الفريدة - مثل التمور واللبان ومنتجات الرخام - أن تجد طريقها إلى منافذ البيع الهندية بطريقة أكثر سلاسة، وهو ما يشكل مكسبًا اقتصاديًا وثقافيًا في آن واحد. ومع توسع المبادلات التجارية وتحسن كفاءة سلاسل الإمداد، ستصبح عُمان مركزًا لوجستيًا أكثر جاذبية للشركات العالمية التي تبحث عن نقطة ارتكاز بين آسيا وأفريقيا والخليج. ويمثل هذا التحول فرصة كبيرة للقطاع الخاص العماني الذي يمكنه استثمار هذا الموقع عبر إنشاء مراكز تخزين وتوزيع حديثة، وتطوير شبكات نقل، وإطلاق خدمات لوجستية متقدمة تدعم التجارة العابرة للقارات. وهذا التحسين في أداء الموانئ والمناطق الحرة سيؤدي إلى دوران اقتصادي أسرع داخل سلطنة عمان، ويُعزّز إيرادات الدولة من الأنشطة المرتبطة بالنقل والموانئ والجمارك والخدمات المساندة.
وفي ضوء هذه المعطيات المتداخلة، ومع ما تحمله المؤشرات الاقتصادية من دلالات واضحة على اقتراب مرحلة جديدة في العلاقات العمانية الهندية، تبدو سلطنة عمان أمام منعطف تاريخي يمكن أن يغيّر مسار اقتصادها خلال العقد المقبل. فكل الأرقام، وكل التوجهات، وكل السيناريوهات المستقبلية تشير إلى أن تفعيل اتفاقية CEPA لن يكون مجرد حدث اقتصادي عابر، بل نقطة انطلاق نحو دورة نمو أكثر نضجًا وجرأة وتنوعًا. ومن المتوقع، إذا ما سارت الأمور وفق الإيقاع الذي ترسمه اليوم المعطيات، أن تتضاعف التجارة الثنائية خلال سنوات قليلة، وأن تتجاوز حاجز 20 مليار دولار في منتصف العقد القادم، وربما تقترب من 30 مليار دولار خلال عشر سنوات، في حال استفادت سلطنة عمان إلى أقصى حد من مزايا التموضع الجغرافي والتكامل الصناعي مع الهند.
ولا تقف التوقعات عند حدود التجارة وحدها، بل تمتد إلى الصناعات التحويلية التي يُرجّح أن تشهد توسعًا ملحوظًا، خاصة تلك المعتمدة على المعادن والبتروكيماويات والمواد البنائية، إلى جانب فرص متنامية في الصناعات الخضراء والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الصناعية. ومع بروز الموانئ العُمانية كمراكز توزيع إقليمية، يتوقع أن تتسارع حركة الاستثمار في المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية الخاصة، بما يعيد تشكيل الخريطة اللوجستية في المنطقة، ويجعل من سلطنة عمان محطة رئيسية في سلاسل الإمداد بين آسيا والخليج وأفريقيا.
وعلى مستوى سوق العمل، تشير التقديرات المستقبلية إلى إمكانية خلق الوظائف النوعية التي يمكن أن تمنح الشباب العُماني فرصًا غير مسبوقة للاندماج في قطاعات صناعية وتقنية جديدة، وترفع من مستوى المهارات الوطنية، وتدعم مسار التوطين في القطاع الخاص. ومع اتساع رقعة التصنيع والتصدير، ستنشأ احتياجات موازية في قطاع الخدمات والتعليم والتقنية، ما ينتج دورة اقتصادية متكاملة ترفد بعضها بعضًا، وتُرسي قواعد نمو متواصل ومستقر.
أما على المدى الطويل، فإن تفعيل الاتفاقية قد يمهد لمرحلة يصبح فيها الاقتصاد العُماني أكثر قدرة على مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر استعدادًا لاستيعاب التحولات التقنية والبيئية والاقتصادية. ومع استمرار التنويع، وتوسّع الصادرات، وتعاظم دور سلطنة عمان كمركز لوجستي محوري، يمكن لعُمان أن تنتقل من موقع المنافس الإقليمي إلى موقع اللاعب الفاعل في التجارة الدولية. وقد نشهد خلال عشر سنوات اقتصادصا عمانيًا متجددًا، واسع القاعدة الإنتاجية، متصلًا بشبكات التجارة العالمية، ومتقدمًا بخطى ثابتة نحو تحقيق رؤية عُمان 2040 بوصفها رؤية طموحة لاقتصاد مرن، مبتكر، ومستدام.
من الناحية النوعية، يشير هذا النمو إلى زيادة الصادرات غير النفطية، حيث من المتوقع أن تستفيد قطاعات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألومنيوم، الأسمنت، الرخام، اللبان، والتمور من تحسن سلاسل التوريد وفتح الأسواق الهندية. النمو في هذه القطاعات، الذي بدأ يظهر بالفعل في بيانات 2025، يعكس قدرة الاقتصاد العُماني على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط. عمليا، إذا ارتفعت الصادرات غير النفطية بمعدل يتراوح بين 6% و12% سنويا نتيجة النفاذ إلى السوق الهندي وتحسين اللوجستيات، فإن هذا سيترجم إلى زيادة ملموسة في حصيلة التبادل التجاري الكلي.
تحقيق السيناريو التفاؤلي يتطلب مجموعة من العوامل التمكينية، أبرزها تسريع عمليات التصديق والتوقيع والتنفيذ للاتفاقية مع وضع آلية متابعة مشتركة لضمان تطبيق بنود التفضيل الجمركي وإزالة العوائق الإجرائية. كما يشمل تطوير البنية التحتية اللوجستية للموانئ والمناطق الحرة ومرافق التخزين والتبريد وطرق الربط الداخلي لالتقاط الطلب المتزايد.
كذلك، تعد الحوافز الاستثمارية للقطاعات ذات القيمة المضافة وبرامج التدريب الفنيّة من العناصر الأساسية لضمان استدامة النمو الصناعي. إضافة إلى ذلك، فإن إقامة تحالفات تجارية وشراكات تسويقية مع موزعين هنود يسهم في تسهيل النفاذ إلى الأسواق الهندية على مستوى المدن والمناطق، بينما تتيح حزم الدعم للصادرات الصغيرة والمتوسطة وصول المنتجات العُمانية إلى رفوف السوق الهندي بفعالية وجودة تنافسية.
بشكل عام، تشير هذه التقديرات إلى أن تفعيل CEPA يشكل فرصة استراتيجية لعُمان لتعزيز التجارة الثنائية، تنويع الاقتصاد، جذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل واسعة، ما يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتقليل الاعتماد على النفط، مع تعزيز قدرة سلطنة عمان على تأدية دور متنامٍ في التجارة الإقليمية والدولية.