د. صالح الفهدي
من معرضِ كتاب لآخر ترشحُ المشاهدُ ذاتها: تهافتٌ على شراء كتابٍ مُعيَّن من أحد المشاهيرـ وتدافعٌ لاحتضانهِ أو احتضانها، وكأنَّما ينالُ المحتَضَنُ بركاتِ ذلك المشهور بالاحتضان! في حين تشتعلُ مجموعات التواصل الاجتماعي أسىً وحسرةً على هذا المشهد الذي نستثقلهُ نحن العمانيين على أبنائنا لما عُرفنا عليه من رزانةٍ، وسمتٍ، لا نحب أن نرى أبنائنا وبناتنا في وضعٍ يتجاوزها بسبب تافهٍ، إِنَّما يُبرهنُ عن مشكلةٍ ما في عمق هذا الفعل، فيدور النقاشُ حولها مُلتهبًا، كُلُّ يُلقي باللائمة على أحد؛ مرَّة على أولياء الأُمور، وأخرى على المدرسة، وثالثة على منظمي معرض الكتاب، وهكذا حتى ينتهي المعرض، فتُنسى المشاهد، وتخفت النقاشات إلى أن حين المعرض القادم فتخرج مشاهد صادمةٍ أُخرى، تثير النقاش نفسه، ثم تأخذ الدورة ذاتها من الحدة والشهرة ثم الخفوت والنسيان!
إِنما هناك مشكلة ما فتأتُ أنبِّهُ لها وهي كامنة في ردود أفعالٍ وحسب وأعني بها "الترقيع" لأَيَّة ظاهرة، بينما يفترض أن تُعالج بـ"التأسيس"، وفي هذا الشأن؛ فالواضحُ أَن الانجرار وراء الشخص لا وراءَ كتابه أو كتابها هو الأساس، وهذا ما كان يحدثُ في الأعجاب بشخصٍ معيَّن؛ سواءً كانَ فنانًا أو مفكرًا أو عالمًا فيقعُ الخطأ في أن يكون الإعجاب بالشخصِ لا بما يأتي بما ينتجهُ، وهنا يقع المعجَب في الفخ وذلك بالإعجاب بكلِّ ما يأتي به ذلك الشخص؛ سواءً كان حسنًا أو سيئًا، وهذا الأمر يشملُ علماء الدين؛ إذ يتلقَّف البعض فتاويهم على أنها الحقيقة الناصعة، والحقُّ المبين دون أن يُعملَ فكره، ويشغل عقله، من منطلق أن العالِم إنسانٌ مجتهدٌ قد يوافقه أو يجانبه الصواب، ولهذا ظهرت العبارة المنسوبة إلى سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: "الحق لا يعرف بالرجال وإنما يُعرف الرجال بالحق".
ما المشكلةُ إذن؟ المشكلةُ هي عدم "تأسيس" العقول على الفصلِ بين الشخصِ وما يطرحهُ من أفكار، فيكون الإعجابُ المطلقُ به، قناعةً مطلقةً بما يأتي به، وفي هذا تعطيلٌ للعقل، وإِعماءٌ للبصيرة.
لماذا يتهافتُ أطفالٌ على أحد المشاهير أو المشهورات؟ هل لشراء كتابهم، أم إظهارًا للإعجاب بشخصهم، واعتبار ذلك من قبيل التقدير الذي يُكسبه الشخصُ لنفسه؟! أعتقدُ أن "التأسيس" هُنا ليس صحيحًا سواءً من الأُسرةِ أو المدرسة؛ حيث إن المجموعات المُنجرفة من الأطفال إعجابًا وانبهارًا، والذين حدا بعضهم إلى رسم القلوبِ وكتابة أسماء المشهورين في معاصمهم؛ حيث يقتضي "التأسيس" ترسيخ القيم الشخصية وإعلائها في أنفسهم حتى تنشأ أنفسهم رصينة، وشخصياتهم رزينة، هذا أولًا.
أما ثانيًا؛ فيفترضُ أن تُؤسَّس الشخصيات في مستهل الأبجديات التعليمية على "التفكير الناقد Critical Thinking"؛ وهو علمٌ مهمٌ جدًا لبناء الشخصية، ولقد تجاهلت المؤسسات التعليمية لدينا هذا الركن القويم في المنظومة التعليمية، ولم تقدر قيمته، ولم تعتنِ بأهميته.
المشكلةُ الأُخرى هي أهمية التسلسل في القراءة؛ إذ لا يجب القفزُ إلى قراءة كتب الإلحاد والفلسفة، قبل أن تُؤسَّس الشخصية على قراءات دينية وفكرية أساسية، تُرسِّخ البديهيات والأبجديات والأُسس التي تمكِّن تلك الشخصية من الانتقال مرحلةً مرحلةً حتى لا تتأثر بأفكار ظاهرها العسل وباطنها السمُّ الزُعاف.
دُعيتُ ذات مرة إلى إحدى المدارس في يوم القراءة، فوضح لي أن هناك انجرارًا لقراءة الطلبة لكتبٍ عميقةٍ الأفكار، حينها وجَّهتُ لهم نصيحةً في التدرج القرائي، إلّا أن أحد الإِعلاميين نصحهم نصيحة تخالفُ ما قلتُ قائلًا لهم: اقرأوا ما شئتم لا يمنعكم مانع!
هذا التسطيح في طرح الأفكار دون تفكير عميق هو ما يدفع عقولًا غضَّة إلى تبنِّي بعض الأفكار التي قد تنحرفُ بمسارات حياتها، فيكون هذا الناصحُ وغيرهم هم أسبابها بنصائحهم المنفلتة!.
أخبرني أحد القادة العسكريين، أنه حين كان طفلًا أُنشأتْ مكتبة في الحيِّ الذي يسكنُ فيه، فكان مشرف المكتبة حصيفًا يتدرَّجُ معه في الكتب التي يُفترَض أن يقرأها، ومضى معه بهذا الحال، في حين منعه من قراءة بعض الكتب، ويعزو هذا القائد الفضل إلى ذلك المشرف الذي تدرَّج معه بالقراءة.
المشكلة الأخرى هي أنَّ أطفالنا قليلًا ما يستطيعون التعبير عن أفكارهم، فقد تابعتُ مقطعًا للقاءٍ مع أطفالنا حول الأحداث في غزَّة، فكان حديثهم ضعيفًا لا يتوافق مع مشاعرهم، ومعلوماتهم هزيلة عن القضية التي يناصرونها، وهذا يعني أنهم يواجهون مشكلة قرائية تقوِّم ألسنتهم، وتزوِّدهم بقاموس من الكلمات والعبارات تمكِّنهم من التعبير الواضح والمتسلسل عما يدور في عقولهم ومشاعرهم.
في المقابل، فإِن من يستمع لأطفال غزة، يجد فيهم ترابط الجمل، والتعبير الواضح الرزين المؤثر عن قضيتهم وهو ما يدلُّ على تأسيس رصين لشخصياتهم خاصة في الجانب القرائي، وليس غريبًا عليهم ذلك؛ فهم مهتمون بترسيخ القراءة من خلال حفظ كتاب الله تعالى الذي هو المصدر العظيم لتقويم اللسان.
الشاهدُ أنني أرجو أن تعتني الأُسر والمدارس بالتأسيس الصحيح لشخصيات الأبناء حتى لا ينجرفوا وراء الشخوص، الأمر الذي يلوِّثُ عقولهم بأفكارٍ غير قويمة، ويدفعهم إلى تبنِّي مفاهيم معتلَّة يتقصَّدُ البعض حقنها في عقولهم.
أرجو أن يُعتنى بأسباب مثل هذه الظواهر حتى لا تبقى ردَّات فعلنا مجرَّد "ردَّات كلامية" دون "أفعال واقعية" تعيدُ الأبناء إلى الطريق الصحيح، لبناء شخصيات قويمة يعتمدُ عليها الوطن في بناءِ مستقبله.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
القاتل الذي لبس عباءة المقاومة…كيف مزق دم حنتوس أسطورة الحوثي؟
يمن مونيتور/وحدة الرصد/خاص
تواصلت ردود الفعل الغاضبة والتنديد الدولي والعربي تجاه جريمة اغتيال الشيخ صالح حنتوس وتفجير منزله من قبل الحوثيين.
وكشفت الجريمة التناقض الواضح بين الشعارات الدعائية للجماعة المسلحة وممارساتها القمعية على الأرض.
وقالت العديد من الجهات والشخصيات العربية والإسلامية إن الجريمة تعكس بشكل صارخ نمطًا من الكراهية والتمييز الطائفي الذي تمارسه الجماعات المسلحة، خاصةً جماعة الحوثي، التي اقتحمت منزل ومسجد الشيخ حنتوس في قرية “المعذب” بمحافظة ريمة، بعد حصار استمر منذ صباح 1 يوليو الجاري، مستخدمة أسلحة وذخائر ثقيلة، مما أدى لإصابة زوجته وعدد من أفراد أسرته، قبل أن تقوم بتصفيته ميدانياً رغم كبر سنه (نحو 70 عامًا) ومكانته الدعوية الكبيرة.
فضحت من لا يقدرون مكانة أهل القرآن
وعبّر الدكتور علي القرة داعي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، عن حزنه العميق وأسفه البالغين بعد استهداف العالم القرآني والداعية المخلص، الشيخ صالح حنتوس، مع أسرةٍ من أهل بيته، في حادثة وصفها بأنها جريمة قتل وعدوان على بيت الله ومقام القرآن ولقمة العلم.
وقال القرة داغي: “استيقظنا على نبأٍ يدمي القلب، ويعتصر الوجدان، فهذه الحادثة ليست مجرد اعتداء فردي، بل اعتداء على بيت من بيوت الله، وعلى قداسة القرآن، وعلى مكانة العلم والصلاح”.
وأوضح أن استشهاد الشيخ صالح حنتوس، العالم الرباني والمربي القرآني، هو علامة على انكشاف القلوب، وفضح لأولئك الذين لا يراعون حرمة بيوت الله، ولا يقدرون مكانة أهل القرآن، وأن حياته كانت وقفًا على تعليم كتاب الله، وأن موته يعكس عداوة الجهالة للهدى وغياب الصلاح في زمن يسود فيه العنف والحرب.
وأشار إلى أنه من غير المقبول أن يستهدف معلم القرآن في محرابه، وأنه رغم المؤلم إلا أن مقتل الشيخ زاد من عزيمة أهل الحق، وأكد أن هذه الجريمة لا تستهدف إلا قتل النفس الطاهرة، وأن أهل القرآن لن ينكسروا، وإنما سيزدادون ثباتًا وإصرارًا على مواصلة الطريق.
جريمة كشفت حقيقية الجماعة
واعتبرت هيئة علماء المسلمين في العراق أن جريمة اغتيال الشيخ اليمني صالح حنتوس على يد جماعة الحوثي، تمثل “نموذجاً صارخاً لجرائم الكراهية والتمييز الطائفي”، مؤكدةً أن الحقيقة حول ما يجري في اليمن مغيبة عن وعي كثير من الناس بسبب الترويج الإعلامي المضلل.
وفي بيان رسمي، أوضحت الهيئة أن جماعة الحوثي اقتحمت منزل ومسجد الشيخ حنتوس في قرية “المعذب” بمحافظة ريمة، بعد حصار استمر منذ صباح 1 يوليو الجاري، واستخدمت خلال العملية قذائف وأسلحة ثقيلة، ما أدى لإصابة زوجته وعدد من أفراد أسرته، قبل أن تقوم بتصفيته ميدانياً رغم كبر سنه (نحو 70 عاماً) ومكانته الدعوية البارزة.
وأضافت الهيئة أن الميليشيات خَطَفَت جثمان الشيخ بعد قتله، وشنت حملات اعتقال طالت جميع رجال القرية، ما أدى إلى تهجير سكانها بالكامل، باستثناء النساء، وخلّف وضعاً إنسانياً وأمنياً خطيراً.
ولفتت الهيئة إلى أن الشيخ حنتوس كان رمزاً دينياً واجتماعياً في منطقته، وأشرف على دار لتحفيظ القرآن الكريم، وواجه طوال سنوات ضغوطاً من الحوثيين بسبب موقفه الرافض لأفكارهم الطائفية وسلوكهم الإقصائي.
وانتقد البيان محاولات بعض الدوائر السياسية والإعلامية تلميع صورة الحوثيين تحت مظلة دعم القضية الفلسطينية، مؤكداً أن الجماعة تعمل كأداة طائفية للفوضى والتدمير، على غرار ميليشيات أخرى في العراق.
تداول واسع على منصات التواصل العربية
وفي تصريحات كثيرة على منصات التواصل و أوساط الإعلام، أدان الشيخ المغربي الحسن بن علي الكتاني الجرائم المرتكبة، معبرًا عن استنكاره التام لقتل العلماء، معتبرًا أن ذلك يخالف السياسة الشرعية وجوهر الحق، مؤكداً أن الأمة لن تقبل بمثل هذه الممارسات.
أما الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني ياسر الزعاترة فقد وصف الجريمة بأنها تجاوزت القتل إلى الابتذال، لافتًا إلى تهم باطلة نسبت للشيخ من قبل الداخلية الحوثية. وشدد على أن محاولة ربط القضية الفلسطينية بمبررات قتل رجال القرآن، هو إساءة قوية للقضية، مؤكدًا أن الشيخ اعتمد خدمة كتاب الله، وليس من المقبول تبرير اغتياله بمبررات سياسية كاذبة.
وفي السياق ذاته قال رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبيﷺ، الدكتور محمد الصغير، إن حزن عميق أصاب الأمة الإسلامية وأدمى فؤادها بعد جريمة مقتل الشيخ صالح حنتوس شهيد القرآن ورفيقه الذي صحب القرآن وعلمه وترأس إدارة المعاهد العلمية ثم دار التحفيظ الخاصة به.
أما الصحفي السوري عمر مدنية، فكتب عبر منشور عن محاصرة منزل الشيخ صالح حنتوس واغتياله، متهمًا الحوثيين بمحاولة تلميع ممارساتهم رغم جرائمهم، وأوضح أن مجيء المنافقين وصفقائهم للحوثي يعكس مدى هشاشة وترهل الموقف.
وفي خطاباته، خاطب الدكتور محمد الهاشمي، رئيس قناة المستقلة، الحوثيين، قائلًا: “أعيدوا اليمن لأهله أولًا، فهي أكبر خدمة تقدمونها لغزة ولأمتكم”. وحذر من أن حكم الحوثيين دون انتخابات وتفاقم الوضع اليمني، يعمّق الانقسام ويضع البلاد في نفق مظلم، محذرًا من عودة الحكم العبيدي وإن استمرت الأمور على هذا المنوال.
حقد طائفي
وفي سياق متصل، وصف الصحفي الكويتي “فالح الهاجري” الجريمة بأنها “حقد طائفي لا يضاهيه حتى من يخالفوننا في الدين والمعتقد”، وقال إن قتل شيخ مسن في بيته بسبب تحفيظه للقرآن هو أبشع صور الإجرام المعنوي والأخلاقي، مؤكدًا أن مرتكبيها مجرد أدوات لتنفيذ أجندات عدائية للهوية الإسلامية.
بدوره، استدعى الكاتب العراقي “عثمان المختار” واقعة مشابهة حدثت في بغداد قبل سنوات، حين أقدمت مليشيا طائفية على قتل محفظ للقرآن يُدعى الشيخ علي رزوقي السامرائي. واعتبر أن ما جرى في ريمة يعيد إنتاج ذات السيناريو الدموي، ضمن مشروع استهداف علماء الأمة.
واعتبر الكاتب السعودي “عبدالعزيز التويجري” أن الجريمة الحوثية تندرج ضمن مسلسل طويل يستهدف العلماء، وقال إن أتباع إيران في اليمن ينفذون مخططاتها ضد أهل السنة بعنف مفرط. وذكّر بأن الشيخ صالح لم يكن يشكل خطرًا على أحد، سوى أنه علم الناس القرآن.
الكاتب المصري جمال سلطان وصف الحادثة بأنها “دليل فاضح على بشاعة الإرهاب الحوثي وعنصريته الكهنوتية”، مشيرًا إلى أن ما حدث في ريمة “يضاف إلى سجل طويل من الانتهاكات ضد اليمنيين، من تفجير للمنازل ودور العبادة، وسلب للحقوق، واختطاف العلماء”.
وفي تغريدة ساخرة، علق الصحفي السوري “حاتم قشوع” على الجريمة الحوثية بالقول: “لو كانت صواريخ الحوثي على إسرائيل بنفس دقة رصاصاتهم على صدر الشيخ حنتوس، لصدقنا نواياهم”. واعتبر أن المليشيا الحوثية تستخدم الشعارات كغطاء لتبرير القتل، وأن نيرانها لا تطال إلا أهل القرآن.