صفير أمعائهم الخاوية وبطونهم الفارغة، بات أشد صخبا من وقع سقوط الصواريخ ليل نهار، رغم ويلات الحرب يكافحون من أجل إطعام أطفالهم، ينبشون أنقاض منازلهم ومخيماتهم، بحثا عن قطع خبز متناثرة تارة، بينما تعكف المتطوعات على إعداد الطعام تارة أخرى لسد رمق الصغار الذين يصومون قسرا منذ أكتوبر الماضى، فيما يضطر الرجال إلى قطع آلاف الأميال يوميا في رحلة شاقة للحصول على كسرات الخبز أو الأعشاب أو حتى البيض ليعودوا إلى أماكنهم، ليحاول النساء إعداد «لقمة هنية تكفي عشرات البطون».

وأمام إحدى خيام النازحين شمال غزّة، جلست «سلوى أبوكويك»، البالغة من العمر 48 عاما، خلف إناء كبير من الألومنيوم، يحتوى على شرائح الفلفل الأخضر المكبوس، المعدّ كوجبة إفطار لأكثر من 20 نازحا من جيرانها: «كنا زمان بنستخدم الفلفل الأخضر، سواء المكبوس أو المخروط كصوص لكل الأكلات والوجبات، لكن هاد اليوم نستخدمه كإفطار للصائمين وكوجبة لسد جوع الأطفال، وهاد اللي متوفر جبت فلفل أخضر مخروط وحطيت ملح وصلصة بسيطة علشان أعمل وجبة إفطار لأكثر من 20 نازحا».

استخدام الأعشاب وكل ما هو أخضر في إعداد وجبات بسيطة لإطعام الصغار

لم تكن «سلوى» المتطوعة الوحيدة لإعداد إفطار الصائمين، بل جلست «هنية شبات»، البالغة من العمر 81 عاما، أمام أحد مخيمات شمال غزة، تُعد كسرات الخبز للنازحين من منازلهم بسبب الحرب الإسرائيلية على القطاع، فبالكاد حصلت المُسنة على حصتها من الدقيق الذي توزعه المؤسسات المختلفة: «ما صدقت جبت حصة الدقيق، فعملت خبز صاج لعشرات النازحين، هاد اليوم باعمل أكتر من 200 رغيف خبز دائري لسد رمق الكبار والصغار، حتى كسرة الخبز ما بقت متوفرة، لكن بنحاول، وبصعوبة حصلنا على بيض، فبنعمل أقراص البيض لسد الجوع مع الخبز».

أمام مخيم جباليا شمال غزة، والذى كان في السابق مركزا تجاريا تسويقيا، انهمكت «محمودة السلوت»، في توزيع الخبز المملوء بالبيض أو الجبن على الأطفال: «بنحصل على الخبز والبيض بصعوبة، وهاد الأكل المتوفر، بنجلس كلنا ونعمل لفافات الخبز وبداخلها البيض أو الجبن أو البندورة، وبعدين نرصّها على الصوانى ويوزّعها الصغار على كل اللي في المخيم».

«ماجدة الدهوك»: عايشين على الحساء والمعلبات 

في العام الماضى، كانت سيدات غزة يجهزن اللحوم واللبن والملوخية والدجاج وغيرها من أصناف الأكل، بينهن ماجدة الدهوك، المتطوعة لإعداد طعام لنازحي غزة: «هاى كان الأبيض والأخضر أكلنا في رمضان زمان، كنا بنعمل الدجاج المحشى، واللبن الرايب والملوخية أو هاي الأكلات الشهية، لكن هاد الأيام عايشين على الحساء والمعلبات، على علبة فول ولانشون، بقيت أجيب كل ما توافر منها ونعمله خلطة ونأكل النازحين».

حبات الزيتون المُخللة بالزيت والفلفل، هو كل ما استطاعت مروة البشير اقتناءه قبل نزوحها من وسط غزة إلى الشمال، لتكون تلك الحبات عونا لعدد كبير من النازحين في إفطار رمضان: «كنت مخللة زيتون كتير، وهاد الوحيد اللي أخدته، وها الحين بنطلع الزيتون ونعمل بيه وجبات مع اللانشون والفول للنازحين، إحنا بنقدم أطباق من الصبر على مائدة الجوع، لكن هاد الموجود، كل أملنا في الله أن تنتهي الحرب ونلاقي الخبز».

الأعشاب حاضرة على مائدة إفطار الغزيين النازحين، فبعد أن كانت الدواب تتناولها أصبحت وجبة أساسية للنازحين، حسب شيماء السلوت: «لما عجزنا عن توفير الأكل، بقينا بندخّل الحشائش والأعشاب في أكلاتنا، أي حاجة خضراء نعملها تسد رمق الأطفال، بقينا بنعمل صواني من الأعشاب الخضراء ونوزع على المخيمات، لقمة شهية بتكفي مليون مش مية».

 «سلوى أبوكريك»: الفقر حوّل المخروط أو صوص الطعام إلى وجبة كاملة

بين الأنقاض والركام تبحث السيدة ضحى دويدار، المقيمة بحى الشجاعية، عن بقايا الأرز، لتُعد طعاما لنحو 30 فردا من أسرتها وجيرانها، بالكاد حصلت السيدة الخمسينية على كيسين من الأرز وكيس عدس، لتُعد بهما وجبة دسمة للأهل والجيران: «هون ما في حد بيقول أنا وأسرتي وبس، الكل بيقدم ما عنده والسيدات بيتطوعن لإعداد إطعام رمضان للجميع، ما تبقى من رجالنا يتحدى الصواريخ من أجل الحصول على كسرات الخبز، ونحن نعمل الطعام مما يجود به الرجال والشباب، ونجلس على الأنقاض لتناوله معا، ولو لقينا العدس والأرز يبقى بالنسبة لنا أكلة دسمة».

تستيقظ السيدات على أصوات الصواريخ بدلا من طبول المسحراتى، لتبدأ رحلة بحثهن عما يعدّونه على مائدة إفطار رمضان، جميعهن يتسابقن لعمل الأكل، بينهن «راجية شعت»، التي حملت على عاتقها إعداد الفطائر بالزعتر بعد حصولها على حصة الطحين لتقوم بعمل نحو 250 شطيرة فطائر: «جبنا الطحين، وبالكاد حصلنا على زعتر، فقلت لازم أعمل فطاير بالزعتر لإفطار رمضان، والستات هنا في مخيم خان يونس بيساعدوا في إعداد الأكل، كل يوم متطوعات، والفطائر وزّعناها على الكل أملاً في سد رمق الكبار والصغار».

شرائح طماطم أو بندورة، إلى جانب قطع الباذنجان، كانت وسيلة عاليا دغمش، السيدة الستينية المتطوعة لسد جوع نحو 60 فردا في مخيم جباليا: «قدر رجال يجيبولنا بندورة وباذنجان وفلفل أخضر، فعملنا صوانى من مسقعة الباذنجان، بس هاي المرة بدون لحم مفروم، فعملنا ووزّعنا على أكثر من 60 صائما، وكانت فرحة الكبار والصغار كبيرة بأننا أخيرا قدرنا نحصل على هاي الأكلة، نحن نصوم منذ السابع من أكتوبر، وقت ما كل شىء سُلب منا قسرا».

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: سيدات غزة رمضان في غزة مخيمات النازحين على مائدة

إقرأ أيضاً:

في غزة.. الجوع يتكلم والمأوى حلمٌ مكسور

 

في شوارع قطاع غزة، لم يعد أكثر ما يُسمَع هو ضجيج الحياة، بل أنينها. كلمات بسيطة، موجعة، تتردد على ألسنة الكبار قبل الصغار: «أنا جائع.. أنا بلا مأوى». هذه العبارة، التي ربما تُقال في لحظة تعب أو ألم، باتت اليوم في غزة حالةً وجودية، تصف واقعًا قاسيًا تعيشه الغالبية الساحقة من السكان منذ شهور طويلة.

الجوع.. صوت المرحلة

الجوع في غزة ليس عارضًا، ولا أزمةً مؤقتة، بل هو الصوت الأعلى، يتحدث من بطون خاوية، ومن وجوه شاحبة، ومن نظرات الأطفال التي فقدت بريقها. مئات الآلاف باتوا لا يملكون قوت يومهم، ولا قدرة لهم على شراء ما يسدّ رمقهم. المخابز تُغلَق أو تُقصَف، والمساعدات شحيحة ومتقطعة، وأسعار المواد الغذائية – حين تتوفر- تفوق قدرة أيّ عائلة متوسطة أو فقيرة.

في زمن الحرب الممتدة، والحصار المستمر، لم يعد الجوع صدمةً طارئة، بل أصبح رفيقًا دائمًا، يجلس على موائد خاوية، لا يبرحها، ويُحدث في النفوس أثرًا لا يندمل.

المأوى.. صار حلمًا بعيدًا

الشق الثاني من العبارة لا يقلّ فداحة: «أنا بلا مأوى»، مئات آلاف النازحين في غزة فقدوا بيوتهم تحت ركام القصف. منازل تحوّلت إلى ذكريات، وأحياء بأكملها أُزيلت من الخارطة. يعيش الناس اليوم في خيام ممزقة، أو مدارس مكتظة، أو بين الجدران المحطمة، بلا خصوصية، ولا أمن، ولا أمل.

أن تكون بلا مأوى لا يعني فقط فقدان البيت، بل يعني فقدان الاستقرار، وتآكل الإحساس بالأمان، وضياع المستقبل. إنها حالة من الانكشاف الكامل أمام البرد، والحر، والخوف، والمرض، والمجهول.

كلمات تلخّص المأساة

«أنا جائع.. أنا بلا مأوى» ليست مجرد كلمات، بل شهادة حيّة على واقع إنساني كارثي. عبارة تخرج من فم الطفل كما من فم الجريح، من المرأة الثكلى كما من الشاب الذي حُرم من أبسط حقوق الحياة. إنها تلخّص أزمة مركّبة من حرب، وحصار، وفقر، ونزوح، وخذلان عالمي.

ورغم بساطتها، فإن هذه العبارة تطرق أبواب الضمير الإنساني بقوة. فهل من أحدٍ يسمع؟ هل من ضميرٍ يتحرّك؟ أم أن الاعتياد على مشاهد الألم جعل حتى الجوع والنزوح مشهدًا عاديًا؟

غزة لا تطلب المستحيل

لا تطلب غزة الكثير. تطلب فقط أن تأكل، أن تسكن، أن تعيش بكرامة. تطلب ألا يسمع العالم صراخها فحسب، بل أن يستجيب. تطلب أن تكون الطفولة طبيعية، لا معركةً من أجل البقاء. أن تكون البيوت بيوتًا، لا أهدافًا. أن يكون الخبز متوفرًا، لا أمنية.

لكن في ظل عالمٍ أصمّ، تبقى هذه العبارة تتردد كل يوم، كل لحظة:

«أنا جائع.. أنا بلا مأوى».

وتبقى غزة تنتظر… أن يسمعها من لا يريد أن يسمع.

 

*صحفي فلسطيني

مقالات مشابهة

  • في غزة.. الجوع يتكلم والمأوى حلمٌ مكسور
  • وفاة ثلاث سيدات وإصابة آخرين جراء حادث سير بطريق الجبل الغربي
  • باجعالة يتفقد مراكز للنازحين والمتشردين والمتسولين
  • لإعداد طفل صحيح نفسيا وصحيا.. تعرف على خدمات روضة الأطفال بجامعة دمنهور
  • مائدة عيد الأضحى.. أكلات تراثية تجمع تميز المذاق بالأصالة العمانية
  • هل الأكل في العيد «عبادة»؟ 3 أمور أوصى بها النبي في أيام التشريق للفوز بالمغفرة
  • الجوع في غزة.. بالأرقام أعداد ضحايا مراكز توزيع المساعدات
  • المطاعم السياحية: دورة تدريبية لإعداد كوادر إشرافية في الصحة وسلامة الغذاء
  • وزير الشباب والرياضة في خطبة عيد الأضحى:نستلهم من عيد الأضحى معاني الصبر والفداء وقلوبنا مع غزَّة
  • انتشار «ثقافة الأكل» في الخارج !