لجريدة عمان:
2025-05-20@12:06:57 GMT

وداوها بالتي كانت هي الداء

تاريخ النشر: 8th, May 2024 GMT

نشرت صحيفة الواشنطن بوست في شهر أبريل من العام الماضي 2023م مقالاً مثيراً للجدول بعنوان: « الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتسبب في انقراض جماعي للغات وطرق التفكير»، حاز المقال على اهتمام كبير من مختلف فئات المجتمع؛ إذ طرح موضوعاً بالغ الأهمية وهو التأثير المحتمل لتصاعد ابتكارات نماذج الذكاء الاصطناعي ذات اللغات الكبيرة، مثل ChatGPT-4، وخلفائها الأكثر قوة، والتي يمكنها أن تكتسح اللغات البشرية، ولكن تقلص أعداد اللغات بحد ذاتها ليست المعضلة، فالأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تلاشي مجموعة متنوعة من طرق التفكير والإبداع الإنساني، وهذا يعني انهيار القدرة على إنتاج الابتكارات الإبداعية الخلاقة التي منشؤها الذكاء البشري.

قد تعتقدون أن كاتب المقال هذا هو باحث في علوم استشراف المستقبل، ولديه الشغف في استقراء ما سيؤول إليه حال البشر في قادم الأيام، وذلك في ظل تنامي تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولكن في الواقع كاتبة المقال هي الباحثة الأكاديمية فيوريكا ماريان، وهي مديرة مختبر أبحاث ثنائيات اللسن واللغويات النفسية في جامعة نورث وسترن، وهي مؤلفة كتاب «قوة اللغة: كيف تغير الرموز التي نستخدمها للتفكير والتحدث والعيش عقولنا»، وهو مقال يستحق القراءة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تفرض علينا التكنولوجيا بشكل تدريجي وغير محسوس التخلي عن اللغات التي نتخاطب بها؟ وهل اللغات البشرية مهددة بالفعل بالانقراض بسبب العولمة والهجرة والتجانس الثقافي ووحدة أدوات التخاطب الإلكتروني عبر الأنظمة الرمزية للرياضيات والمنطق واللغات الاصطناعية؟ وهل الذكاء الاصطناعي مؤهل لأن يكون إحدى ممكنات لإنقاذ الألسن المفقودة أو إنه في قفص الاتهام؟

في البدء دعونا نقترب من التفاعل بين اللغة والعقل، نجد بأنه رسمياً قد تم تسجيل سبعة آلاف لغة يستخدمها الإنسان حول العالم، وإذا أخذنا في الاعتبار المعدل الطبيعي لانقراض الألسن البشرية فإن عدد اللغات التي تعاقبت على مر تاريخ البشرية هي أكبر من هذا الرقم بكثير، وقد أثبتت بحوث علوم الإثنوغرافيا بأن اللغة هي وجود الإنسان على هذا الكوكب، سواءً كانت اللغة رمزية أو لفظية، وبحسب الأدلة العلمية في علوم كيمياء الدماغ وعلم النفس السلوكي فإن اللغة هي التي تشكل عمل الدماغ البشري، يحدث ذلك عن طريق تنظيم عملية معالجة المعلومات، وبناء الفهم والإدراك، ثم تعزيز الرؤى الذاتية لصناعة القرارات التي نتخذها، وعلى سبيل المثال، إذا تم عرض وقائع معينة على مجموعة من البشر ممن يمتلكون مهارات لغوية متعددة، أو يتحدثون عدة ألسن بالإضافة إلى اللغة الأم، فإن الواقع كما يراه كل واحد منهم هو بمثابة تجربة ذاتية ناتجة عن نشاط الدماغ في دمج المدخلات الظاهرية التي تستقبلها الحواس مع ما يملكونه من المعرفة والخبرة، ثم تأطيرها بالاستعانة بالمهارات اللغوية التي تمكنه من التعبير عنها، وبمعنى أبسط، إن الدماغ يدرك الوقائع ويعالجها بالمفردات اللغوية التي يستطيع أن يعبر بها، وبذلك تتفاوت القدرات إنتاج الصور الإبداعية، وصنوف المخرجات الإبداعية التي يتخيلها المبتكرون والمخترعون والكتاب والشعراء، لأن اللغة تمنحنا تجربة الإدراك من منظور يمكننا من خلاله رؤية الواقع بمستويات مختلفة، وهذا هو الفرق بين الموهوبين وغيرهم من الفئات، وبذلك فإن التفاعل بين اللغة والعقل هو ثنائي الاتجاه، وبشكل اعتمادي، بحيث تؤثر اللغة على الإدراك الحسي والمعنوي، إذ تمتلك اللغات البشرية القدرة على تنشيط شبكات عصبية مختلفة في الدماغ.

وهذا يقودنا إلى وظيفة اللغة في تاريخ الوجود الإنساني، فهي حجر الأساس في حفظ الثقافات الخالدة والمعارف والفنون التي انتقلت عبر الأجيال، بالمثل فإن تاريخ وتقاليد مئات الثقافات انقرضت ببطء لأنها لا تجد طريقة لحفظها ونقلها عبر اللغة، وإذا تأملنا الوضع الحالي للغات المنطوقة اليوم نجدها محدودة وتفتقر إلى التنوع الطبيعي؛ إذ تصاعد تأثير اللغات المهيمنة ثقافيًا مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية لكونها لغات للعلوم والتكنولوجيا والتجارة الدولية، ويعود ذلك إلى حد كبير للعولمة وتداعيات الاستعمار الذي غيَّر الكثير من معالم الحياة على مدار القرون القليلة الماضية، مما ساهم في تعريض لغات الأقليات لخطر الانقراض، وأكبر مثال على ذلك هو أن اللغة الإنجليزية تتصدر قائمة اللغات المعاصرة كلغة محتوى على مواقع الشبكة العنكبوتية، إضافة إلى ذلك فإن هناك العديد من اللغات الأصلية للمجتمعات والشعوب المحلية في مختلف دول العالم والتي ليس لها شكل مكتوب، ومع انخفاض عدد المتحدثين بها بهجرة الأجيال الأصغر عمراً للحواضر المدنية، والميل العام لدى هذا الجيل بالتوجه نحو التكنولوجيا والثقافات الأكثر هيمنة فمن المرجح أن تختفي هذه اللغات من الوجود بشكل نهائي، مما يعني حرفياً فقدان البشرية للمعارف والتاريخ والحكمة والعادات والتقاليد التي لا يمكن استردادها.

ومع تسارع التطور العلمي والتكنولوجي فإن موضوع اللغة لم يعد محل جدل المفكرين، أو اجتهادات علماء التاريخ، ولكنه محط اهتمام الباحثين والمبتكرين من مختلف المجالات وفي مقدمها التقنيات المتقدمة، إذن ماذا يحدث في مختبرات أبحاث الذكاء الاصطناعي، وهل يمكن أن تكون التكنولوجيا التي أسهمت في فقدان الإرث اللغوي يوماً هي نفسها الأداة التي يمكن بها الحفاظ على اللغات المهددة بالانقراض؟ إن البحوث الحالية تتمحور حول تدريب نماذج لغة الذكاء الاصطناعي على كميات هائلة من البيانات من الكتب والمجلات والصحف والمحتوى المتاح عبر الإنترنت، ولكن ما هو متاح لتدريب النموذج يختلف بشكل كبير عن اللغات المنطوقة والمستخدمة اليوم، والتركيز الحالي هو على أعلى عشرين «لغة عالية الموارد» مثل الإنجليزية، والفرنسية، والروسية، والألمانية، واليابانية، وفي المقابل، سينتج الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من النصوص الجديدة، وبذلك فإن الناتج هو أقرب ما يكون إلى اللغات الغازية مقارنةً باللغات الطبيعية، ومن المحتمل أن يكون لمثل هذه النماذج الهجينة قوة السيطرة لاستبعاد اللغات التي تتوفر لها موارد أقل للتدريب وتعليم الآلة.

فإذا أخذنا في الحسبان أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يساهم في إبطاء احتمالات انقراض بعض اللغات البشرية، إلا أن هذه المسألة لا تخلو من المخاطر، وبحسب المحاولات البحثية والتطويرية القائمة فإن هناك درجة من التحفظات حول قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم عمق اللغات الأصلية بشكل كامل، وهناك جدل علمي لا يستهان به بشأن قدرة البرمجة اللغوية العصبية على فهم اللغة التي يستخدمها البشر في المجتمعات النائية والبعيدة عن ركب التمدن، إذ تعتمد العديد من اللغات الأصلية بشكل خاص على النغمة الصوتية التي لا يمكن إرجاعها إلى حروف واضحة، كما أن اللغات الشفهية تختلف بحسب السياق دون أن تتبع نهجاً نحوياً، أو قاعدة لغوية واضحة مثل عدد كبير من لغات قبائل ومجتمعات الشعوب الأفريقية، وإذا ما تم الاستعانة بالبرمجة اللغوية فإن هذه الجوانب هي أمور مفقودة في معظم المنهجيات التقنية السائدة.

إن واقعنا المعاصر يؤكد في كل مرة بأن التكنولوجيا تعمل بشكل غير مباشر على تسريع معدل اختفاء اللغات الطبيعية، حتى في الوقت الذي توفر فيه الأمل في الحفاظ على اللغات المهددة بالانقراض أو التي انقرضت منذ وقتٍ قصير، وهذا ما يحدث بدون وعي كامل من البشرية التي تنصب اهتماماتها في تسجيل المزيد من الاختراعات العلمية والتقنية غير المسبوقة، وهو أمر يدق ناقوس الخطر لانعكاساته العميقة على الإبداع والذكاء البشري، لأن تعدد اللغات البشرية ليس ضجيجا، بل هو شاهد على تنوع الفكر والإبداع في التجربة الإنسانية، ولطالما أتاحت التكنولوجيا حلولاً ابتكارية للتحديات التي واجهت البشرية عبر تاريخها الطويل، وقد حان الوقت لتوجيه التقنيات المتقدمة في إنقاذ الألسن المهددة بالانقراض، ويأتي في مقدمة ذلك تنظيم أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطويرها وتوجيهها في تعزيز أبحاث البرمجة اللغوية العصبية، وبناء النماذج الأساسية للغات الأصلية، وهذا من جهة، وأما من جهة أخرى فإنه من الضروري كسب الوقت للتوصل إلى المزيد من الحلول الابتكارية المستدامة، وذلك بالحفاظ على أكبر عدد ممكن من اللغات الطبيعية، وذلك بتشجيع الابتكار باللغات المحلية، وإتاحة الفرصة بتوثيق وحفظ المعارف الإنسانية، وجذب العقول البشرية المبدعة للمساهمة في توطين لغة الابتكار، وتنشيط الحراك العلمي والمعرفي والثقافي والإنساني لأطول فترة ممكنة، وإطلاق المبادرات النشطة بالشراكة مع القطاعات الإنتاجية في الصناعات الثقافية باعتبار اللغة بمثابة المنجم الذهبي الذي يربط الإنسان بماضيه وحصيلة خبراته، إذ تتيح التقنيات الرقمية الفرصة لدعم المبادرات السريعة مثل تحميل التسجيلات الصوتية للغة، أو الاحتفاظ بالتعبيرات الأخرى للغات غير المكتوبة مثل الرسم والنحت، ويمكن التعلم والاستفادة من الجهود الدولية في هذا المجال مثل مبادرة العقد الدولي للغات الأصلية التابعة للأمم المتحدة (2022 - 2032)، إذ لا يزال بإمكان اللغات الأصلية الصعود إلى العالم الرقمي، والبحث عن فرصة البقاء في المستقبل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

مخاوف أمريكية من شراكة بين أبل وعلي بابا في الذكاء الاصطناعي

ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" السبت أن البيت الأبيض ومسؤولين في الكونغرس الأمريكي يجرون تحقيقًا موسعًا بشأن خطة شركة "أبل" لإبرام اتفاق شراكة مع مجموعة "علي بابا" الصينية، يهدف إلى دمج برنامج الذكاء الاصطناعي الذي تطوره الأخيرة على هواتف آيفون في السوق الصينية.

وأفادت الصحيفة، نقلاً عن ثلاثة مصادر مطلعة، بأن السلطات الأمريكية تعبر عن مخاوف جدية من أن تساعد هذه الصفقة شركة "علي بابا" على تعزيز قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي، وتوسيع نطاق برامج الدردشة الخاضعة لقيود الرقابة، فضلاً عن زيادة إخضاع شركة "أبل" لقوانين الرقابة ومشاركة البيانات التي تفرضها الحكومة الصينية في بكين.

يأتي ذلك في وقت أكدت فيه مجموعة "علي بابا" في شباط/ فبراير الماضي شراكتها مع "أبل" لدعم خدمات الذكاء الاصطناعي على هواتف آيفون في الصين، ما يمثل مكسبًا كبيرًا في سوق الذكاء الاصطناعي التنافسية، حيث تطور "علي بابا" برنامج "ديب سيك" الذي اشتهر هذا العام كنموذج محلي منافس وبأسعار أقل مقارنة بنماذج غربية.

وتواجه "أبل" مقاومة متزايدة من إدارة الرئيس دونالد ترامب وعدد من أعضاء الكونغرس، الذين يخشون أن تسهم الشراكة في تعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي لشركة صينية خاضعة لرقابة الحزب الشيوعي، ما قد يعزز من النفوذ الرقابي لبكين ويزيد من قدراتها العسكرية المستقبلية.

وخلال اجتماعات عقدت في واشنطن مع كبار مسؤولي "أبل"، عبّر ممثلو لجنة الكونغرس المعنية بالصين عن قلقهم من إمكانية تبادل بيانات حساسة مع "علي بابا"، وطالبوا بتوضيحات بشأن الالتزامات القانونية المحتملة لشركة "أبل" بموجب قوانين الرقابة الصينية، غير أن الشركة لم تستطع تقديم إجابات وافية، وفقًا لمصدرين حضرا المناقشات.


ووصف عضو الكونغرس الديمقراطي راجا كريشنامورثي موقف "أبل" بأنه "مقلق للغاية"، مؤكدًا أن "علي بابا" تجسد استراتيجية "الدمج المدني-العسكري" التي ينتهجها الحزب الشيوعي الصيني.

وتشكل الصين نحو 20% من مبيعات "أبل" العالمية، إلا أن حصتها السوقية في البلاد انخفضت من 19% في 2023 إلى 15% في 2024، ما دفع الشركة إلى البحث عن دعم من شركات محلية لتقديم ميزات ذكاء اصطناعي موازية لتلك المتوفرة في الأسواق الغربية، خاصة مع غياب خدمات شركة "أوبن إيه آي" في الصين، وهو ما جعل "علي بابا" الشريك المحلي الأمثل لدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي داخل أجهزة آيفون في البلاد.

وفي المقابل، تعرض الرئيس التنفيذي لشركة "أبل"، تيم كوك، لانتقادات من الرئيس ترامب بسبب تصنيع بعض منتجات الشركة في الهند بدلاً من الولايات المتحدة، مما زاد من الضغوط السياسية التي تواجهها الشركة.

مع تزايد إدراك واشنطن للدور المحتمل للذكاء الاصطناعي كأداة عسكرية استراتيجية، تسعى إدارة ترامب إلى منع أي شراكات أمريكية قد تمنح بكين تفوقًا تقنيًا، حيث تدرس وزارة الدفاع وهيئات الاستخبارات إدراج شركات مثل "علي بابا" على قوائم سوداء تحظر التعامل التجاري معها، في إطار جهودها لكبح تقدم الذكاء الاصطناعي الصيني.

وتؤكد مراكز بحث أمريكية، منها مركز "وادهواني" للذكاء الاصطناعي، أن تمكين شركات صينية من جمع بيانات مستخدمي أجهزة آيفون قد يسرع من تطور نماذجها، ما يثير مخاوف أمنية بالغة.


وفي حال فشل الصفقة، قد تواجه "أبل" صعوبات في تسويق هواتفها في الصين، مقارنة بمنافسيها المحليين مثل "هواوي" و"شاومي" الذين يقدمون حلول ذكاء اصطناعي محلية متطورة، مع الإشارة إلى أن الصفقة مع "علي بابا" لا تقتصر على الدعم التقني فقط، بل تمتد إلى التسويق والتوزيع عبر منصات التجارة الإلكترونية التي تسيطر عليها المجموعة الصينية، ما يجعلها شريكًا استراتيجيًا حيويًا.

وتتجاوز هذه الشراكة حدود السوق التجارية لتصبح اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة الولايات المتحدة والصين على التعاون في حقبة الذكاء الاصطناعي، وسط تصاعد القناعة الغربية بأن السيطرة على تقنيات الذكاء الاصطناعي تعني السيطرة على اقتصاد المستقبل والأمن القومي.

مقالات مشابهة

  • بيل غيتس يكشف عن 3 وظائف لن يهزمها الذكاء الاصطناعي
  • شاب متعدّد اللغات يحصد الملايين من المعجبين عبر الإنترنت.. ماذا قال عن اللغة العربية؟
  • مميزات جديدة لواتساب من خلال الذكــاء الاصطناعي ..فيديو
  • كم من الأطفال يجب أن يَـقـتُـل الذكاء الاصطناعي؟
  • دبي تشارك في جيتكس أوروبا وعالم الذكاء الاصطناعي 2025
  • الذكاء الاصطناعي يحوّل الصور إلى فيديوهات عبر «تيك توك»
  • الذكاء الاصطناعي.. وصياغة التاريخ الموازي
  • من الروبوتات البشرية وحتى آلات المراقبة.. الذكاء الاصطناعي يغير الحياة في الصين
  • مخاوف أمريكية من شراكة بين أبل وعلي بابا في الذكاء الاصطناعي
  • في زمن الذكاء الاصطناعي… نحتفل لإنجاز شارع !؟