ليس نهرا بل شُبّه لهم! احتمالات لا نهائية للغياب بين مصائر أبناء الليل وغرقى مياه الأساطير

ثمة انتعاشة ملحوظة لفن القصة القصيرة في العالم العربي تشهده اللحظة الراهنة، بعد غياب طال نسبيا لصالح الرواية، ربما على مدى العقد الماضي على الأقل. من دون أن نغفل أن عددا من القاصين المجددين المخلصين لفن القصة لم يتوقفوا عن إصدار أعمال قصصية تنوعت في موضوعاتها وتقنياتها. أسماء لكتاب من مثل الكاتب المصري الدكتور محمد المخزنجي، أو أحمد الخميسي، وسمير الفيل أو أصوات من أجيال لاحقة مثل أنيس الرافعي في المغرب، وشريف صالح، وحسن عبد الموجود في مصر، ويحيى المنذري في سلطنة عمان، وطارق إمام الذي تتوالى أعماله بين القصة والرواية في السنوات الأخيرة، وكذلك بعض تجارب لكتاب عرب مقيمين في أوروبا مثل تجربة الكاتب مازن معروف، وغير ذلك الكثير من التجارب التي ربما لم تتح لي فرصة التعرف عليها.

لكن تستوقفني بشكل خاص في فن القصة ما يعرف بالمتوالية القصصية، التي قد تأخذ من شخصيات القصص مشتركا يصنع علاقة مضمونية أو سردية أو تلك القصص التي تتخذ من تيمة معينة رابطا بين القصص تشيد بها البناء القصصي.

وقد لفتت انتباهي مؤخرا مجموعة قصصية للكاتبة المصرية آية طنطاوي بعنوان «احتمالات لا نهائية للغياب» وصدرت عن دار العين في بداية هذا العام. وهي مجموعة تأتي استكمالا لتجارب في السرد كنت قد اطلعت من بينها على مجموعة أولى لها صدرت بعنوان «في مد الظل».

من اللحظة الأولى يتبين امتلاك طنطاوي للغة فصيحة بليغة يبدو جليا أنها لغة مشغولة بإتقان ومتعوب عليها. أما التيمة التي اختارتها لتكون موضعا لتشييد المتتالية فقد تمثلت كما يبدو من العنوان في فكرة «الغياب»، اختفاء شخصية ما، رجل أو امرأة، لسبب غامض، أو لاحتمالات عديدة تثير المخاوف والحيرة إزاء أسباب غياب شخص ما في لحظة ما.

لكن مع القراءة نتبين أن فكرة الاختفاء هي حيلة ووسيلة بين وسائل وأدوات أخرى تصنع منها الكاتبة ما يشبه السقّالات لتناول مضمونات أخرى ملحّة تتعلق بأوضاع المرأة في المجتمع، مما يجعلنا نتأمل الحمولات الرمزية لفكرة الاختفاء؛ التي قد تتراوح دلالاتها بين الإقصاء والتهميش وحتى الوأد المعنوي والجسدي في مجتمعات ذكورية بامتياز، وسعيدة بذكوريتها الجاهلة.

وبذكاء وقدرة على التخييل تفتح الكاتبة باب الخيال بالاتكاء على الأسطورة، ولكنها تحاول في الوقت نفسه أن تمنح لها نوعا من التجسيد فتخلق لها كيانا موازيا لحياة البشر في الواقع. كينونة من تراث الحكي لها جوف تصدر منه أصوات عالم بعيد لكن ظلاله تلقي بفيّها على البشر على امتداد الزمن.

«عرفنا ما كان وورثنا الحكاية، تناقلناها كتحية الصباح وحفظناها كدق الوشم الأخضر على أذرع الرجال، نحكيها كما سمعناها ونطلب من الله النجاة من شرورها والستر من أن تمسنا فتتعثر أقدارنا. قالوا إن النهر في شقّه الطويل يجري بكاء على ما حدث، وقالوا إن الحكاية بدأت عند النهر وانتهت بجرح نازف في الحي أربعين ليلة وأربعين نهارا، قالوا فيما قالوا إن النهر مصيره موجات متلاحقة من الموت وأن كل شيء بدأ من جدار خلفه امرأة».

هكذا تفتتح قصة بين قصص المجموعة بعنوان «باب الأساطير: فصل موال النهر»، تنبني القصة على تيمة الشك، الذي ينبثق من هاجس يخلقه طيف لشخص أو لعله شبح مختف خلف جدار ما. صوت امرأة خلف جدار ليس معلوما أيتمتع من استمع له بحاسة سمع طبيعية أم أنه صوت باطني من اختلاق ذات شكاكة وضعيفة، موسوسة بالهواجس التي قد لا تكون إلا صنيعة نفس أمّارة بالسوء، السوء الذي ينتجه تراث متراكم من سوء الظن بالمرأة والنساء.

لكن الغياب ليس غيابا قسريا باستمرار، بل أحيانا قد يكون غيابا اختياريا تختاره امرأة ما في لحظة محددة من حياتها. غياب يتحقق بسبب رغبة مضمرة في هروب من قدر ما، أو انسحاب من حياة لا تحتمل، بينما يتتبع السرد آثار هذا الاختفاء الاختياري في حياة أطراف تتعلق مصائرهم بها مثل الزوج والابنة. غياب تتراكم آثاره في نفس أب سيختلق من تراث متراكم من إدانة المرأة وسيلة للتعايش مع هذا الغياب، بينما سيتراكم في نفس الابنة صراع بين تراث يحاول الأب أن يحقن رأسها به، وضمير يصارع التراث دون أمل في يقين.

يحتل النهر موقعا له ثقل في السرد بوصفه بكاء الطبيعة، أوموضع التطهر من الخطيئة، أو قد يغدو موضعا لغياب غامض أو لستر جرائم ترتكب في وضح النهار أو خلف ستار الليل.

«ليس نهرا بل شُبّه لهم» أو «هبط من السماء في أيام الشدة في ليلة شديدة الظمأ». كأنه جسر آخر من جسور التتالي القصصي في المجموعة، تتعدد منابعه بين الأسطورة والخيال تارة وبين الواقع والحلم تارة أخرى.

في قصة بعنوان «أبناء الليل» تشيّد آية طنطاوي بناءً قصصيًّا يقوم على متوالية من الاختفاءات تبدأ من «غياب افتراضي» للأطفال عن عيون آبائهم المشغولين بشؤون دنياهم ومشاغلهم، وألعاب الاختفاء الطفولية الافتراضية (عسكر وحرامية)، وغياب غامض لزوج عمة الراوي يتبعه حضور العمّة وابنتها شمس إلى بيت أهل الراوي، شقيق العمة. ثم اختفاء شمس من معسكر النهار إلى معسكر أبناء الليل بسبب غواية مجهولة لا تبوح بأسرارها حتى تختفي مرّة أخرى هي والعمّة للأبد، بينما الجدّ الذي أكله الخِرَف تغيب ذاكرته فيبقى وجوده افتراضيا حتى يلتهمه الموت ويغيب غيابا نهائيا أخيرا. مع الأخذ في الاعتبار أن الليل نفسه يلعب لعبة رمزية بوصفه ليس موضع العتمة واللامرئية والأسرار التي لا يعرفها الصغار فقط، بل وأحد منابع أو أسباب الاختفاءات الغامضة.

تضع القصص أحيانا مستوى مركبا للاختفاء باقتفاء أثر سيارة ترحيلات تضم عددا من السيدات ذوات الخلفيات الاجتماعية المتفاوتة في طريقها البعيد إلى السجن. سيدات اختفين عن واقع وجودهم اليومي إلى مصير شبه مجهول، تأكلهم المخاوف وظلمة الزنزانة الافتراضية المتحركة، وروائح العرق والحرارة الخانقة، بينما نجد من بينهن فتاة صغيرة تتضاعف مخاوفها ليس فقط من سوء المصير الذي ألقى بها في عربة الترحيلات، بل وفي كيفية إيجاد تبرير لأهلها عن هذا الاختفاء القسري الذي لا تعرف عواقبه بشكل محدد في ظلام الزنزانة المتحركة. مشهد يكشف مدى قوة «تراث الوصاية والقهر» الذي تعانيه المرأة اجتماعيا مقارنة حتى بمظالم السلطة والسياسة.

لكن أحد الأسباب الإضافية لقوة هذه المجموعة في تقديري تتمثل في قوة البناء اللغوي الذي عكفت طنطاوي عليه على امتداد العمل. لغة تنهل من المجاز لتصيغه صياغات أدبية ذكية وفاتنة؛ تمنح النص جمالا أدبيا لافتا من بداية النصوص وحتى نهايتها. كل جملة مصاغة بحيث تمنح دلالة وصفية أولية لكنها أيضا تتضمن مستوى آخر من الدلالات المبطنة أو الرمزية.

يمكن للقارئ أن يجد بين نصوص المجموعة قصة مكثفة وشديدة الرمزية تبدو واقعية وتتضمن لمسة من عالم غير واقعي ولكنه يظل قابلا للتصديق، وبينها مثلا قصة بعنوان «انحصار» التي تجعل من «اختفاء جثة جدّة ميتة في قبرها» حكاية تنبثق في عرس فتتغير أحوال المضيفين من البهجة إلى الرعب والخوف والحزن على «اختفاء» متوقع كقدر لا فرار منه، لكن صيده لم يتحدد بعد.

تكشف نصوص المجموعة العلاقة الوثيقة بين الحكايات ومصائر البشر، فلولا الحكايات لغدت المصائر عدما، لا يعرفها أحد وإن عرفها فسوف ينساها، بينما الحكاية تخلد «الاختفاء» وتجعل منه أمثولة «حاضرة» وجلية؛ وهي أبرز مفارقات هذه النصوص الفارقة.

نصوص تتأمل علاقة «الحكي» بالمصائر البشرية، وتقدم نماذج سردية لفلسفة الحكاية وعلاقتها الوثيقة بذاكرة البشرية ومستقبلها.

«من خلق أول حكاية وزرعها في حيّنا؟ ومتى بدأت الكلمة فعبدَها الناس وتقاتلوا من أجلها؟ ولماذا باركناها بالطقوس المقدسة ومنحناها سطورًا تكتبُ عليها حقيقة ما كان. وحدها كشفت ما تريد وطوت ما لا يروقها. تخلقُ فلا يعجبها خلقها فتدمر حيواتنا وتبدأ اللعبة من جديد».

إبراهيم فرغلي روائي وكاتب مصري

المصدر: لجريدة عمان