ترجمة: قاسم مكي -
يبدو أن اختيار رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إجراء انتخابات عامة يوم 4 يوليو مدفوع بتقديراته حول الأخبار الاقتصادية عن التضخم وأسعار الفائدة وتصوره أنها على أفضل ما يكون. مع ذلك من اللافت مدى تأكيده (في خطاب إعلان الانتخابات) على أجواء العالم «المعتمة والخطرة» والتي تشكل خلفية هذه الانتخابات.
عبرت كلماته بدقة عن مشاعر الخوف التي تنتاب العديد من الناس في أوقات تشهد قدرا عظيما من البلبلة وعدم اليقين. أحد آثار ذلك سيكون الدفع بالسياسة الخارجية إلى مقدمة أجندة الانتخابات القادمة، خلافا لما هو معتاد.
قرار سوناك بإجراء الانتخابات والذي تزامن مع صدور أرقام جديدة من المكتب القومي للإحصاء يبدو أنه تشكَّل على نحو طاغ بأرقام التضخم والتي يمكنه أن يزعم بأنها عادت إلى الوضع «العادي»، لكنها مع ذلك اشتملت على ما يدعو إلى القلق من استمرارٍ للتضخم الأساسي في الخدمات، كما أنها ليست جيدة على النحو المأمول.
لقد صار من المشكوك فيه أن ثمة مجالا لبنك إنجلترا لخفض أسعار الفائدة وأيضا توافر هامش لخفض الضرائب في موازنة الخريف، وهو ما بدا أن الحكومة الحالية تريده بشدة.
من اللافت إذن أن رئيس الوزراء البريطاني فيما يؤكد على تحسن أخبار الاقتصاد إلا أنه يركز بقدر أكبر على الأخطار العالمية. لقد عرض للشعب البريطاني حمايته من عواقب هذه الأخطار في روسيا وغزة والصين، وبذات القدر زعم لنفسه دورا في حلها.
هذه نظرة واقعية كما أوضحنا في تقريرنا (تقرير شاتام هاوس) حول القرارات الرئيسية الثلاثة في السياسة الخارجية التي ينبغي أن تتخذها الحكومة البريطانية القادمة. إنها باختصار تصحيح العلاقات مع الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وإنفاق بعض الوقت على العلاقات مع القوى «المتوسطة الحجم» التي لدى بريطانيا نفوذ فيها وإنفاق المزيد من المال على الدفاع والعون والدبلوماسية. والأهم أننا أوصينا بوجوب أن تكون بريطانيا واقعية ولا تبالغ بشأن ما يمكن أن تفعله.
يَعِد زعيما كلا الحزبين (المحافظين والعمال) بالعمل على بسط الاستقرار والأمن في أوقات صعبة. قال سوناك أن بريطانيا مرت بالفترة الأشد تحديا منذ الحرب العالمية الثانية والتي شهدت الجائحة وعودة الحرب إلى أوروبا وأن ما يركز عليه هو تأمين الاستقرار الاقتصادي اللازم للاستثمار في الخدمات العامة والدفاع عن بريطانيا.
قال كير ستارمر زعيم حزب العمال في رده على ذلك « البلد أصبحت عرضة للأخطار وغير آمنة في ظل هذه الحكومة».
تأطير رئيس الوزراء سيوجه المزيد من الاهتمام للقرارات الأشد صعوبة في السياسة الخارجية.
لا يريد أي من الحزبين الحديث بالتفصيل عن الاتحاد الأوروبي كما أوضحت راشيل ريفز (وزيرة الخزانة بحكومة الظل العمالية) وأيضا ديفيد لامي (وزير خارجية حكومة الظل) من على منبر شاتام هاوس مؤخرا. لكن الاتحاد هيمن على معظم القرارات الراهنة ولا يمكن لهما تجنب الأسئلة المتعلقة به في الأسابيع القادمة.
توثيق العلاقة الاقتصادية بالاتحاد الأوروبي أحد السبل لتحقيق المزيد من النمو الاقتصادي، لكن من الصعب تأمين ذلك بأي قدر مهم عندما تكون حرية حركة الناس غير مقبولة تماما من كلا الحزبين. في الافتقار إلى ذلك، قد تثور مسألة الاتحاد الجمركي مرة أخرى إذا فاز حزب العمال في الانتخابات القادمة على الرغم من أن وزراء الظل في الوقت الحاضر يرفضون ذلك بشدة.
بخلاف ذلك ستقتصر مهام الحكومة القادمة على قضايا بسيطة مثل تبادل الطلاب ونقل الحيوانات، وهي قضايا مهمة لتلطيف العلاقة وتنقية الأجواء مع الاتحاد الأوروبي، لكن أثرها الاقتصادي ضئيل.
الأسابيع القادمة ستسلط الضوء على الاختلافات بين الحزبين في مجال السياسة الخارجية، وهي ليست عديدة لكنها مهمة. الهجرة أوضحها، سيدير سوناك حملته حول سياسة رواندا (ترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى رواندا) والتي تعهد ستارمر بالتخلي عنها فورا إذا تولى رئاسة الوزارة.
الاختلاف الأكبر التالي بين الحزبين يتعلق بموقفهما تجاه أوروبا حيث يبدو حزب العمال أكثر إيجابية. كلا الحزبين يريدان أساسا استخلاص أكبر قدر من المنافع التي يمكن أن يفكر الاتحاد الأوروبي في عرضها دون تقديم تنازلات في أي من القضايا الإشكالية كالهجرة. بخلاف ذلك مواقفهما متماثلة تقريبا حول الصين والولايات المتحدة وأوكرانيا والإنفاق الدفاعي.
ليس هنالك اختلاف يذكر في موقفي زعيمي الحزبين تجاه دعم إسرائيل. لكن غضب أعضاء حزب العمال من أعداد القتلى في غزة يعني أن ستارمر قد يتعرض إلى ضغوط جديدة في الحملة الانتخابية كي يتشدد في موقفه ضد نتنياهو.
مخاطر السياسة الخارجية التي يمكن أن تواجهها الحكومة القادمة مرتفعة. فأوكرانيا ستكون وسط معمعة قتال دموي قد يكون حاسما في الصيف. والبلدان التي أيدت إسرائيل قد تواجه بوجوب حسم موقفها من إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه إلى جانب ثلاثة قادة من حماس.
اختارت الصين الوقوف بقدر أكبر من الصراحة إلى جانب روسيا والصين. وفرضت بذلك تحديد نوع الاستثمار الذي ربما تقلصه الحكومة البريطانية الجديدة وسلاسل التوريد التي قد لا تشجع عليها.
انتخابات يوليو (البريطانية) تفيد حقا رئيس الوزراء القادم في مجال السياسة الخارجية. فانتخابات الخريف (الأمريكية) تعني أن رئيس الوزراء الجديد سيتولى مهامه في داوننج ستريت إما في بدايتها أو بعد انتهائها مع تعقيدات التعامل إما مع إدارة جديدة لبايدن تركز على الرسوم الجمركية أو فترة رئاسية ثانية لدونالد ترامب لا يمكن التنبؤ بما ستأتي به.
في الواقع ستشارك الحكومة البريطانية الجديدة في قمة الناتو (9-11 يوليو) والتي سيكون التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أوروبا القضية المركزية لمحادثاتها، كما ستستضيف أيضا اجتماع قادة الجماعة السياسية الأوروبية في 18 يوليو، ولدى حكومة بريطانيا الآن الفرصة لبناء بعض العلاقات الأوروبية والدفاعية قبل الانتخابات الأمريكية.
برونوين مادوكس الرئيسة التنفيذية ومديرة المعهد الملكي للشؤون الخارجية (شاتام هاوس)
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی السیاسة الخارجیة رئیس الوزراء حزب العمال
إقرأ أيضاً:
حزب ماسك.. مناورة ضد ترامب أم محاولة جادة لكسر احتكار الحزبين؟
واشنطن- في ظل تزايد الدعوات لإيجاد بديل عن النظام السياسي الأميركي القائم على الثنائية الحزبية، ومع تدني مستويات رضا الناخبين عن أداء الحزبين الديمقراطي والجمهوري، أعلن الملياردير إيلون ماسك عن نيته تأسيس حزب جديد يحمل اسم "حزب أميركا".
وجاء هذا التوجه بعد توتر علني بين ماسك والرئيس دونالد ترامب، بلغ ذروته عقب تمرير الجمهوريين لما يُعرف بـ"مشروع القانون الكبير والجميل"، الذي وصفه ماسك بأنه قانون "غير مسؤول ويضعف قوة أميركا في الساحة العالمية".
ماسك، الذي يمتلك تأثيرا استثنائيا عبر ثروته التي تقدّر بـ342 مليار دولار ومنصاته الرقمية، وجّه في الأشهر الأخيرة انتقادات متكررة لما يصفه بـ"الاختلال المؤسسي" في معالجة الدين العام، وطرح أمام الملايين من متابعيه على منصة "إكس" فكرة تأسيس حزب جديد يسعى -حسب تعبيره- إلى تمثيل "الإرادة الحقيقية للشعب"، في مقابل ما يعتبره تواطؤا بين الحزبين التقليديين ضد المصالح العامة.
ردّ فعل شخصيوتبدو مبادرة ماسك للكثير ردّ فعل شخصيا على تصعيد صدامه مع ترامب، أكثر من كونها خطة مدروسة لبناء مشروع سياسي مؤسساتي. وهذا ما يذهب إليه النائب الجمهوري السابق توماس غاريت، الذي وصف الحزب الجديد بأنه "مزحة على المدى الطويل"، لافتا إلى أن "ماسك لا يملك قاعدة انتخابية واضحة، ولا برنامجا سياسيا محددا، بل يعتمد على شهرته وثروته فقط".
وأضاف للجزيرة نت أن "نسبة من يحبون ماسك ولا يحبون ترامب لا تتجاوز 4% من الناخبين، وهذه قاعدة هزيلة لا يُبنى عليها مشروع وطني جاد"، وذلك في إشارة إلى تحليل بيانات أعدته شبكة "سي إن إن" أظهر أن نسبة الذين يؤيدون ماسك ويعارضون ترامب تمثل أقل من 1 من كل 20 ناخبا.
في المقابل، يرى كبير الباحثين في جامعة جونز هوبكنز حافظ الغويل أن في مبادرة ماسك ما يستحق التوقف والتحليل، موضحا أن "السياسة الأميركية اليوم تدار بالمال والتقنيات، وماسك يمتلكهما معا"، بالإضافة إلى ما يصفه بـ"شعبوية رقمية قادرة على استقطاب جيل جديد من الناخبين الساخطين على النظام الحزبي التقليدي".
إعلانورغم ما يمتلكه إيلون ماسك من موارد مالية ضخمة ومنصات رقمية واسعة التأثير، فإن تأسيس حزب سياسي في الولايات المتحدة لا يخضع فقط لمنطق النفوذ المالي والتقني، بل يمر عبر منظومة قانونية ومعقدة تفرض شروطا صارمة على مستوى كل ولاية على حدة.
فحسب القوانين الانتخابية المحلية، يتعين على الحزب الجديد جمع عدد كبير من التوقيعات في كل ولاية من الولايات الـ50، ويختلف العدد المطلوب وفقا لعدد الناخبين في كل منها. فمثلا، تشترط ولاية كارولاينا الشمالية جمع نحو 14 ألف توقيع من 3 دوائر انتخابية مختلفة، كي يُعترف بالحزب رسميا ويُدرج على ورقة الاقتراع.
ويتطلب الاعتراف الوطني بالحزب تقديم استشارة رسمية للجنة الانتخابات الفدرالية، مع الالتزام بقوانين التمويل الانتخابي والإفصاح الدوري عن مصادر التبرعات.
خطة ماسكإلا أن بريت كابل، المحامي المختص في قوانين الانتخابات، يرى أن ماسك قد يلجأ إلى تصنيف "المنظمة السياسية" بموجب البند 527، وهي صيغة تنظيمية تعترف بها مصلحة الضرائب الأميركية وتتيح للأحزاب جمع الأموال بدون سقف محدد، شرط عدم الترشح المباشر باسم الحزب على المستوى الفدرالي.
وأوضح المحامي كابل -لموقع أكسيوس- أن هذه الصيغة لا تفرض أي قيود على حجم التبرعات أو مصادرها، مما يجعلها خيارا مرنا للحملات الناشئة التي تركز على التأثير المحلي.
رغم غياب الهيكل التنظيمي والبرنامج السياسي الواضح للحزب حتى الآن، يبدو أن ماسك يراهن على لعب دور "الصوت المرجّح" في السباقات المتقاربة، عبر الدفع بمرشحين مستقلين أو من حزبه في دوائر محددة قادرة على قلب موازين التصويت.
وقد ألمح في منشورات على منصة "إكس" إلى رغبته في أن يكون حزبه عنصر الحسم في تمرير أو إسقاط التشريعات المثيرة للجدل داخل الكونغرس، باعتبار هذه المقاربة تمثل -حسبه- الإرادة الحقيقية للشعب مقابل اصطفاف الحزبين تقليديا حول مصالحهما.
ويذهب بعض المحللين إلى أن لديه القدرة على الاستفادة من الانتقادات التي يواجهها ترامب، ومنافسته على سلاح "الشعبوية" لجذب شرائح غير تقليدية من الناخبين الأميركيين، لا سيما بين فئة الشباب المستقلين والساخطين على أداء الحزبين التقليديين، خاصة في انتخابات التجديد النصفي لعام 2026.
في هذا السياق، يقول الباحث حافظ الغويل للجزيرة نت إن "ماسك يملك رأس المال السياسي الجديد: المال والمنصات والشعبوية الرقمية".
ويضيف أن حضوره الكثيف على منصات التواصل، وتقديمه لنفسه كصوت "خارج المؤسسة والنظام"، قد يمنحه جاذبية لدى فئات تبحث عن خطاب بديل، خصوصا من الفئة المستاءة من أداء الحزبين الديمقراطي والجمهوري في ملفات مثل الحروب والمناخ والاقتصاد.
ويعتقد الغويل أن ماسك قد يجد دعما من شخصيات نافذة في عالم التكنولوجيا وريادة الأعمال، ممن يتبنون موقفا نقديا من المؤسسة السياسية التقليدية، دون أن يكونوا بالضرورة على يمين الخريطة السياسية أو يسارها، كما يمكنه أن يستميل "أنصار الحكومة الصغيرة" الذين قد يجدون فيه "صوتا مناهضا للبيروقراطية والضرائب المفرطة".
إعلان تجارب سابقةليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها شخص ذو نفوذ مالي أو رمزي كسر احتكار الحزبين للمشهد السياسي الأميركي.
ففي عام 1992، خاض الملياردير روس بيرو انتخابات الرئاسة كمرشح مستقل، وحصل على نحو 19% من الأصوات الشعبية دون أن يفوز بأي ولاية. ورغم ذلك يُعتقد على نطاق واسع أنه ساهم في خسارة جورج بوش الأب أمام بيل كلينتون، من خلال تشتيت أصوات المحافظين.
وخاص حزب الخضر تجارب مماثلة، أبرزها في انتخابات عام 2000 بترشح رالف نادر، حيث رجّح كثيرون أن الأصوات التي حصل عليها الحزب، خاصة في ولاية فلوريدا، ساهمت في فوز جورج بوش الابن على آل غور بفارق ضئيل.
ويسمي الباحثون هذا "تأثير الكفة المرجّحة"، أي قدرة طرف ثالث على إمالة النتائج في لحظات الحسم، لا من خلال الأغلبية، بل عبر احتلال موقع إستراتيجي في الخريطة السياسية. ورغم هذه اللحظات المفصلية، لم تنجح أي من هذه المبادرات في تأسيس بنية حزبية مستدامة تكسر نظام الحزبين التقليديين.
ويعلّق النائب الجمهوري السابق توماس غاريت، قائلا "روس بيرو كان يملك المال أيضا. ربما أكون مخطئا، لكنني لا أرى أي قابلية للاستمرار على المدى الطويل، بل تبدو فكرة مثيرة للسخرية".
وبرأيه، فإن التأثير المحتمل لحزب ماسك -إن حصل- سيكون "قصير الأجل"، وقد يُلمس فقط في الانتخابات النصفية إذا تدخّل في بعض السباقات المحلية. لكنه لا يرى أي تهديد جدي من حزب ماسك على الجمهوري. ويعتبر أن الانقسام الحقيقي الذي قد يفتح المجال لحزب ثالث قد يأتي من داخل الحزب الديمقراطي، لا من اليمين، خاصة مع تزايد الهوة بين التقدميين والديمقراطيين التقليديين.