لجريدة عمان:
2025-07-30@16:12:00 GMT

الغرب هو نحن

تاريخ النشر: 8th, July 2024 GMT

في الجاهلية كانوا يصنعون آلهتهم من التمر، وعندما يجوعون يلتهمون ما صنعوا، وجريًا على تلك العادة نحن، أيضًا، كانت لنا صنعتنا؛ شيء صنعناه من دمائنا وأرواحنا وأحلامنا، لكن نسينا أن نلتهمه، ربما كان عصيًّا أو ربما نحن أصلًا لم نجُع، لكنّه هو الذي لا ينسى يلتهمنا كل يوم.. وهو جوعان وهو متخم من الشبع. نحن صنعنا الغرب بكل تجلياته وعنفوانه.

قد نتساءل ما هو الغرب؟ هل هو تلك البقعة الجغرافية التي تتكون من أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، بتاريخه وشعوبه وتضاريسه وفضاءاته؟ أم هو كائن مختلف هلامي مخاتل زئبقي؟ يبدو أن الغرب ليس الذي إذا ذكر الشرق يحضر الغرب، وليس فقط هو أحد الاتجاهات الأربعة للكون المقابل للشرق، والمكان الذي تغرب فيه الشمس. ليت الغرب ذلك فقط، وليت الغرب كلمة بسيطة عادية متداولة، لكن بساطته ليس إلا ظاهريًّا. فهو يحضر معنا في كل شيء، في مخيلتنا وثقافتنا حضورًا طاغيًا، حضورًا ملتبسًا لا ينفك يلاحقنا، لا يتركنا لشأننا فهو معنا أينما ذهبنا في جلوسنا وفي منامنا وفي خلوتنا يزاحم فكرنا ويدخل بيوتنا، منذ خلقنا وهو هكذا ملاصق لنا.

لكن هل الغرب ضرورة؟ وهل هو مصير وقدر مكتوب علينا؟ ماذا لو صحونا يومًا ولم يكن شيء اسمه الغرب موجودًا في حياتنا، وهل اختفاؤه قد يخرق تماسكنا وقوتنا ويزيل هويتنا وديننا؟

في الذاكرة الملتبسة، يتكشف غرب انتهك حقوقنا واستعمرنا واحتل أراضينا ولا يزال يستغل ثرواتنا ويقف ضدنا في كل شيء، يستولي على كل شيء، لا يبقي ولا يذر، ينهب ثرواتنا ونحن راضون ضاحكون مبتسمون. يفرقنا بين عرب مسخّرين لخدمته وعرب يعاديهم، يمقتهم ويحاربهم ويتحالف ضدهم، هو الثابت كالصخرة أمامنا لا يغير ولا يتبدل ونحن المتبدلون. في فلسطين نراه مع الصهيونية جهارًا نهارًا، بيدٍ يرسل الأسلحة والجنود لقتلنا ولا يخجل ولا يتوارى خلف الكلمات والأفعال، وبيد أخرى يتوسط لوقف القتال، أي جنون هذا الذي نحن به؟ يقتلنا ويساعدنا. قل عنه ما تقول منافق، مزدوج الرؤية فكان كذلك، العنصري البغيض الحقود الذي لا يتوانى عن تدميرنا وسحقنا دون أن يرف له جفن. يحشد كل أسلحته ويشحذها في وجوهنا، يجيّش العالم ويدفعه ضدنا، هو الذي دمّر العراق وسوريا وليبيا واليمن، غرب بكل تداعياته والتباساته هو ضد عروبتنا وإسلامنا وضد المسلمين. أمريكا وهي رأس حربة الغرب وهي القوة لا تعاملنا ولا تريدنا متحدين متوحدين بل منفردين تعمل وفقا لقاعدة استعمارية بنيت عليها سياسات الاستعمارية والكونيالية وهي قاعدة فرّق تسد. وهو ليس إلا الوقاحة والبشع الانتهازي والاستغلالي واللاأخلاقي، مراوغة وكذب، تسلط وإمبريالية، فردانية وانقطاع، وعالم من المثلية والأجناس المتعددة العابرة للتصنيف. غرب ما أنتج إلا المتطرفين واليمينيين والشعوبيين، والحربين العالمية الأولى والثانية والدمار والإبادات وقنبلتي ناجازاكي وهيروشيما، الرأسمالية المتوحشة، العولمة والنيوليبرالية. وهذا الغرب الذي ظل نيتشه ثقافته والقيم الأخلاقية والسياسية والدينية والفلسفية السائدة فيه، وتمنى أن يأتي رجل خارق ينقذ البشرية من هذا الغرب.

وفي الجانب الآخر من الذاكرة غرب كيان ثقافي تراكم عبر العصور كما وصفه الفيلسوف الفرنسي فيليب نيمو. الغرب في ذاكرتنا وذاكرة العالم أجمع هو التاريخ والجغرافيا، منبع الثورات النضالية والنظريات والأيديولوجيات والديمقراطية وسيادة القانون، والحرية الفكرية، والعقلانية النقدية، والعلم، والاقتصاد الحر والأسواق المفتوحة، والثورات الصناعية وعصر الأنوار والتقنيات والذكاء الاصطناعي، حقوق الإنسان والدساتير والأحزاب وتداول السلطة، وفصل السلطات، والاختراعات والرفاهية، وهو أيضًا العلماء والكتاب العظماء والفلاسفة وكل شيء هو الغرب.

هل المؤرخون حرّفوا مفهوم الغرب من معناه الجغرافي إلى معنى جديد ثقافي وأيديولوجي غير مرتبط بمنطقة جغرافية معينة كما كان الحال في السابق «كما ذكر محمد أركون». أعتقد أن هذا هو الغرب الحقيقي الواضح المتجلي المتطور الحداثي الذي لا يخفي سوأته ولا قبحه ولا يضع المساحيق ليبدو أكثر جمالا. هذا هو الغرب النسخة الحقيقية الساطعة التي يراها كل العالم ويتعاملوا معها بما هو وأضح أمامهم. الغرب لم يتغير وهو طبيعي وإن التغيّر والتبدل الذي شابه ربما كان من الضروري ليبقى ويعيش ويترعرع. ورغم أن الغرب كلمة بسيطة لكنها كلمة حمالة للمعاني والدلالات عابرة الأفق مخاتلة إشكالية مخادعة وزئبقية. لكن يبدو لا شيء بسيط، ولا وجود للبساطة في الفهم أو في الكلمة، لو اقتصر الأمر كذلك لوقعنا في إشكالية التسطيح والتبسيط، عرفنا شيئًا وغابت عنا أشياء «لا وجود لمفهوم بسيط، كل مفهوم يملك مكوناته، ويكون محددًا بها» على حد قول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. نبحث عن الغرب فلا نجده، ندركه ولا ندركه، نعرفه ولا نعرفه، نراه أمامنا وقد لا نراه، سهل لكنه ممتنع. أهو كبير جدًا، شيء مطاطي هلامي لا قياس لحجمه ولا حدود لتمدده، كائن يتوسع ويتقلص وفقا للزمان والمكان وتبعا للظروف الجيوسياسية.

لكن هل لنا نحن غربنا أو الغرب هو نحن؟ في الحقيقة يبدو الأمر وكأن لنا غربًا نحن صنعناه. للعالم غربهم ولنا غربنا. نحن لنا غربنا المختلف، غرب صنعناه نحن فأصبح غربنا الخاص، لنا وحدنا لا أحد يشاركنا فيه، كبُر وترعرع معنا، لكن علاقته معنا علاقة ملتبسة رغم أنه يحضر في مخيلتنا وذواتنا. فنحن الذين تمادينا في صناعته وساهمنا في تقويته وترسيخه وطغيانه. غرب لا نرى فيه إلا ذلك الكائن المتعالي، فأصبح هو الذي يخيفنا وهو الذي لا يذكر لنا أي حسنة ولا يتوانى أن يضع إصبعه في عيوننا ويدوس أقدامنا وإذا ما رفع أحد منا رأسه يقطعها بسرعة.

هذا الذي بيننا وبينه ليس إلا نقطة على حرف، ذلك ما يفرقنا في الكتابة، لكن ما بيننا بون واتساع ومحيطات وبحار وثأر، هو الذي يتآمر علينا وعلى دولنا، ويفرض علينا التخلف والتراجع. لست من يؤمن بنظرية المؤامرة، لكن هناك حقيقة ساطعة أن الغرب هو سبب كل تخلفنا ودمارنا بشكل مباشر أو غير مباشر دون الخوض في التفاصيل التي يدركها الكل.

ماذا نفعل تجاه هذا الغرب وقد تلطخت جباهنا وغاصت أقدمنا في الوحل وشُلّ تفكيرنا، هل نجلس ونولول كل الزمن، أم ننتظر رجل نيتشه الخارق الذي تمناه أن يأتي وينقذ البشرية وينقذنا نحن معه. ويضع أسسا جديدة للعالم ولنا.

ليس بالضرورة أن يكون الغرب قدرنا ولا مصيرنا إلى ما لا نهاية، وليس ذلك المكتوب على جباهنا. في الحقيقة قد نحتاج إلى خطة على غرار خطة مارشال نستطيع من خلالها إعادة التوازن في العلاقة بيننا والغرب ونشرعن عالما جديدا مختلفا لنا.

الغرب هذا الذي خلقناه والمعشعش في عقولنا يجب علينا أن نتخلص منه وندفنه بلا رجعة. أن نلقي بهذا الجاثم فوقنا الذي نحمل ثقله، أن نتحرر من قبضته وهيمنته كما فعلت شعوب إفريقيا وأمريكا الجنوبية ودول من آسيا. يجب أن نتعامل مع الغرب كبنية ممكن تفكيكها والتعامل معها وإعادتها إلى حجمها الطبيعي، وأن نفكك تلك العلاقة المعقدة الإشكالية التي ساهمنا نحن في ولادتها وما زلنا. يجب أن ننظر له ونتعامل معه وفق ما نحن نريده وفقا لمبادئنا وأخلاقنا ومزاجنا وكأنه منا وفينا. أن نضعه في مكانه الذي هو يضع نفسه هو فيه، أن نعامله على أنه الآخر المختلف عنا له أخلاقه وقوانينه ومبادئه، ونترجم ذلك الاختلاف في علاقتنا معه. وقبل كل شيء يجب أن تسود الحرية والديمقراطية والعدالة في مجتمعاتنا وأن نحارب الكثير من الأشياء السيئة وأن نتماسك ونتحد كأمة عربية إسلامية وأن نواجه العالم بما فيه الغرب كجسد واحد لا يمكن اختراقه أو النفاذ منه، نعتمد على بعضنا في كل شيء. «العالم لا يحترم إلا الأقوياء» هذه المقولة يجب أن تكون نهجًا لنا. قد يكون طريقنا طويلا ولكن أن نصل متأخرين خير لنا من ألا نصل أبدًا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هو الغرب ا الغرب الذی لا هو الذی یجب أن کل شیء

إقرأ أيضاً:

ما الذي يُمكن تعلّمه من أحداث السويداء؟

الأحداث التي وقعت مؤخرًا في السويداء بسوريا لم تكن استثناء من العالم العربي، بل مرآة له. وعلى الرغم من أن جذور هذه الأزمة الطائفية لم تبدأ في الأحداث الأخيرة؛ إلا أن صدامات يمكن وصفها بالطائفية وقعت في شهر أبريل في جرمانا، وأشرفية صحنايا، ثم امتدت للسويداء، وتصاعدت الأحداث بعد ذلك إلى ما شاهده الجميع على الشاشات، ولا يعنينا هنا تسلسل الأحداث ذاتها بقدر ما يعنينا أن الحالة والخطاب الطائفي الذي وقع في السويداء ليس نشازًا في المنطقة العربية -كما هو معلوم-، بل نمط مأزوم من التسلسل التاريخي ليس حتميًّا بالطبع، لكنه متكرر بشكل كبير جدًّا، لا سيما مع سقوط دولة أو استبدالها بأخرى، ومثال عليه ما حدث عقب الإطاحة بنظام صدام حسين من حروب وقتالات طائفية، ما يصفه ستيفن سيدمان أنه «إرث استعماري بريطاني».

يتضح لنا أن المجتمعات العربية -أو كثير منها على الأقل- لا تزال حتى اليوم عاجزة عن تجاوز الطائفية، وكثير منها يعيش في الماضي على الرغم من تفاقم المشكلات التي نعانيها في هذه المنطقة، وتزايدها يوما بعد يوم، إلا أن كثيرًا من مجتمعاتنا لا تزال تستدعي الطائفة بل وتعيش في تاريخها محاولة أن تدافع عنها في كثير من الأحيان على أنها الحق الأوحد، «وكلٌّ يدّعي وصلًا بليلى/ وليلى لا تقرّ لهم بذاكا»؛ إذ الجميع يحاول باسم الحق والعدل والتوحيد والغيرة والتدين وغيرها أن يدافع عن الطائفة التي ينتمي إليها ناسيًا بذلك أن يعيش في عصره، ويطرح تساؤلات حول الوضع الذي يعيش فيه، أو عملية الإبادة الجماعية والتجويع التي يتعرض لها إخوته.

تبدأ الطائفية من الذات؛ لأن الحالة الجماعية للعيش داخل «الحظيرة» لا تتم إلا بإقناع الذات أولا بالتماهي مع الجماعة وإلا فلا قيمة لها؛ ولذلك تكثر عند الطائفيين الخطابات والشعارات التي تستدعي الماضي ورموزه دون باقي السياقات وتعقيداتها. لذلك فالذات هي المركز الأول للطائفية، وكلما كان الأمر منطلقا من الداخل أصبح أكثر استدامة؛ فالإرهابي الذي ينطلق إرهابه من الداخل لاعتقاده أنه بذلك يخدم فكرته أو دينه أو وطنه وغيره يكون أكثر تحمُّسًا وإقداما من الآخر الانتهازي؛ ولذلك يستغل هذا الصنف الأول لينفذ العمليات الانغماسية والانتحارية مقتنعين بذلك سيرهم إلى الجنة، أو خطوة في تحقيق الجنة على الأرض من خلال قتل المدنيين والأبرياء. والطائفيون كذلك؛ فكلما كان هذا الذي ينطلق في طائفيته مقتنعا من الداخل بالصحة المطلقة لفكرته والخطأ المطلق لأفكار الآخرين -وليتها بقيت عند الاعتقاد الداخلي فقط!-؛ فإن خطابه يتسم بالتشدد أكثر.

وهكذا يصنع منطق الانغلاق المذهبي دون محاولة النظر إلى الصورة الأكبر التي يُمكن للجميع العيش فيها في وطن واحد يكفيهم جميعًا. هذه الخطابات تصنع هويات طائفية لا هويات وطنية أو إنسانية -بعد أكثر من ربع قرن على كتاب أمين معلوف-، وهي المسيطرة على العقل، وليس أدل على ذلك من الأحداث المتكررة والمستمرة التي نراها؛ فالمشكلة أعمق من الخطاب الطائفي وحده، أو من عدم القدرة على الـ «عيش مع الآخر، لكنها تتعدى ذلك لتكون مشكلة عدم القدرة على بناء دولة، وعدم القدرة على بناء مجتمع من الأساس، ثم تصدير هذه الخطابات للأجيال التالية، وهكذا في دوامة مستمرة منذ ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية حتى ما بعد أحداث السويداء.

تعاني كثير من الدول العربية من غياب واضح للعقد الاجتماعي بين السلطة السياسية والمجتمع، وبالتالي؛ فإن الأمر يتطور من عدم الاستقرار السياسي والقانوني حتى يصبح الوطن وما يتعلق به من مفاهيم أو ألفاظ لا يشكّل ملاذًا آمنًا للأفراد، فيضطرون حينها للبحث عن ملاجئ مختلفة، وهنا تظهر الطائفة باعتبارها الملجأ والملاذ لأفرادها؛ لأنها تشكلهم في مجتمعات مغلقة -غيتوهات- الكلمة العليا فيها للقيادات الدينية أو العرقية، حتى يتماهى الفرد مع الجماعة في حماية المفهوم الوهمي أو الذهني المسمى بالطائفة. ولذلك؛ فغياب هذا العقد الاجتماعي الواضح الذي يُمكّن الدولة والمجتمع من معرفة حقوق كل طرف وواجباته يقود لمثل هذا، وفي كثير من الأحيان يقود إلى الطغيان الذي يحاول أن يفرض عقدًا بالإجبار لا بالتشارك والرضى.

إن عدم تجاوز الطائفية حتى اليوم في المجتمعات العربية يشكّل فشلًا ذريعًا للنخب، سواء النخب السياسية أو الثقافية أو غيرها؛ لأنها لم تستطع حتى اليوم إيجاد مشروع حقيقي ينهي هذه الماضوية والسكن في التاريخ، بل ربما زاد بعضهم من حدتها والقطبية التي تحدث من خلالها. ويجب أن تتحمل هذه النخب مسؤوليتها في الوصول بالوعي الذاتي إلى الواقع -إذ سؤال المستقبل حتى اليوم مبكر للأسف-؛ لأن الوعي يجب أن يكون حاضرًا في الواقع اليومي، لا في مشكلات من مضى، فـ«تلك أمة قد خلت» وما على أهل هذا العصر من مشكلات أولئك أو صراعاتهم أو غيرها، وفي أحسن الأحوال يمكن فقط أخذ العبرة منهم، ودراستهم لإصلاح الواقع المعاصر، لا العيش معهم حتى يصبح الفرد أو المجتمع في زمنين لا يصلح لأي منهما، فلا هو القادر على العودة بالزمن للماضي، ولا هو قادر على العيش مع أهل هذا العصر.

والمتتبع لجميع حالات الانقسام الطائفي في المنطقة يجد أنها استغلت من قِبل طرف خارجي لتنفيذ أجندته السياسية أو العسكرية. فالطائفية فرصة المتربص الخارجي الذي يستغلها ليطبق المقولة القديمة «فرّق تسد»، وكثيرًا ما استغلت الصراعات الطائفية وضخمت الخلافات التفصيلية العلمية التي كان ينبغي أن تناقش في أروقة العلم، ثم يغلق عليها الباب ولا تخرج للشارع، فجُعلت قضايا ذات أهمية كبرى ينهدم بها الدين أو المذهب أو الطائفة.

وقد استعملت هذه الطريقة القوى الاستعمارية لقرون، بل حاولت صنع خلافات جديدة لم تكن موجودة سواء طبقية أو فكرية أو غيرها، وبقيت جميع هذه الخلافات حتى اليوم، فانظر إلى مقولة سيدمان التي جاءت في بداية المقال «إرث استعماري بريطاني» تشَكّل وظهر واضحًا في ما بعد 2003، فقد كان يتراكم تحت التجربة التاريخية والسياسية، ولما تسنّت له الفرصة ظهر على شكل صراعات أهلية. وهكذا اليوم تستغل إسرائيل هذه الصراعات الطائفية لتتغلغل في الداخل العربي، ليس سرّا كما كان في السابق، بل أمام شاشات الإعلام والهواتف التي تُصوّر. فقد استغلت الصراع في السويداء لتضرب القصر الرئاسي في دمشق؛ إذ أعطت الصراعات الطائفية الدافع لإسرائيل من أجل الدخول، ولا أود أن أقول «الشرعية» بالطبع؛ فوجود إسرائيل بأكمله ليس شرعيًّا، لكن ما الشرعية في عالم الغابات الذي نعيش فيه اليوم؟

لا بد أن يبدأ الإصلاح المجتمعي في الوطن العربي من الذات الفردية أولًا أن ينشأ الفرد متصالحًا مع ذاته ومتقبّلا للآخر، فلا يشعر منه بالخوف، بل بالألفة، وأن ينظر إلى ما هو أبعد من طائفته أو مذهبه، وأن تكون هويته الأولى هي الهوية الوطنية أو المدنية التي يتشاركها مع غيره في إطار الدولة، لا هوية الطائفة والمذهب؛ لأن الهوية كلما ضاقت وأصبحت أكثر حدية أبرزت السمات المتطرفة والسلوكيات العنيفة في الإنسان على عكس إذا ما اتسعت؛ فإنها تتقبل الآخر المختلف ليس بالضرورة أن تؤمن بما يؤمن به، لكنها تؤمن بأن له الحق في الحياة بحرية أيضًا دون اعتداء عليه أو الإضرار به لمجرد مذهبه أو طائفته. ولذا فالتغيير يبدأ من مراجعة الذات والخطاب الموجّه إليها سواء من الداخل أو من الخارج، خطاب الأسرة والمدرسة والمجتمع، وأن تحاول الذات طرح أسئلة متعلقة بمدى تعددية الخطاب الموجه إليها في المقام الأول.

إذا بقينا على هذا الحال دون تجاوز الطائفية وخطاباتها المقيتة فإن كل حديث حول النهضة أو الديمقراطية أو الحرية هو ترف؛ فالمجتمع يقتل بعضه بعضا، لكن -ولأن الكتابة وسيلة مقاومة وإصلاح- أقول: إن علينا أن نعي أن عدونا واحد، وسبله في قتلنا واحدة، وأننا في مقتلة واحدة، ومصير واحد، فإن بقينا نقتل بعضنا بعضا لم نخدم إلا هذا العدو بأن أرحناه من عمله، فإن لم نستطع الآن في هذه اللحظة التي ربما لم ولن نمر بحالة أكثر انحطاطا منها أن نفكر في مصيرنا المشترك بدل التفكير في الانقسامات الصغيرة فمتى نقدر على ذلك؟

مقالات مشابهة

  • كاتب بريطاني: جريمة التجويع المتعمدة بغزة لم تنجح لولا تواطؤ الغرب
  • لم نَعُدْ .. كما كُنّا
  • مستشار عسكري: إسرائيل تواجه ضغوطًا دولية.. واحتجاجات عارمة في الغرب |فيديو
  • وزير الخارجية النرويجي يدين الغرب بازدواجية المعايير في تعامله مع “إسرائيل”
  • «خامنئي»: الغرب يستغل الملف النووي كذريعة للاصطدام مع إيران
  • حين يُسجَن العربي لأنه ناصر فلسطين.. فهل الغرب حقّا أكثر وفاء؟
  • ما الذي يُمكن تعلّمه من أحداث السويداء؟
  • لافروف: أمريكا تريد توسيع سيطرتها بآسيا.. وإخضاع أوروبا
  • بولندا تنشر طائرات لحماية مجالها الجوي من الهجمات الصاروخية الروسية
  • خمسة جرحى في هجوم روسي على كييف