الانضباط العسكري: أهمية كبرى لأجيال عمان الواعدة
تاريخ النشر: 9th, July 2024 GMT
سلطان بن ناصر القاسمي
خلال الأيام الماضية، تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي خبر قيام وزارة الثقافة والرياضة والشباب الموقرة، بالتعاون مع الجهات العسكرية والأمنية، بتنفيذ برنامج الانضباط العسكري لشباب عمان الواعد، حيث افتتح صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد دورة الانضباط العسكري في محافظة ظفار، مستقبلاً 700 طالب من مختلف محافظات السلطنة.
إنَّ أهمية الانضباط العسكري لهؤلاء الشباب، خصوصًا في هذا العمر تكمن في تعويدهم على الانضباط السلوكي مع أنفسهم ومع المجتمع، ويعلمهم الالتزام بالوقت والبرامج والخطط، مما ينعكس إيجابًا على مسيرتهم العملية والاجتماعية مستقبلًا، وإضافة إلى ذلك، يساعد البرنامج على تعزيز اللياقة البدنية وغرس حب الوطن والمواطنة في نفوسهم. هذه القيم هي ما يحتاجه الوطن في هذه الفترة، خصوصًا في ظل الهجمات الشرسة التي تواجه الشباب من خلال برامج التواصل الاجتماعي واستخدام الأجهزة الإلكترونية وما يصاحبها من برامج هدامة تستهدف إبعادهم عن هويتهم الإسلامية وعاداتهم وتقاليدهم العربية الأصيلة.
لقد كُنَّا نطالب ونأمل في تنفيذ مثل هذا البرنامج منذ زمن طويل لأبنائنا، وبناءً على تجربتي الشخصية في هذا المجال، أرى أن برنامج الانضباط العسكري قد ساهم في السابق في خلق جيل متعلم ومثقف. هذا الجيل يحتل الآن مراكز مرموقة في الدولة، منهم الأطباء، والمهندسون، والوكلاء، والضباط، والمعلمون، ورجال الأعمال الناجحون. أستطيع القول بفخر إنني ما زلت على تواصل مع هؤلاء الخريجين، وهم يمثلون أمثلة مشرفة للشباب العماني.
إذن؛ يعدُّ هذا البرنامج خطوة جميلة ومفيدة، ونؤكد على أهمية استمراريته وزيادة أعداد المشاركين فيه. نعلم أن هذا يتطلب تكاليف مالية وإدارية كبيرة على الدولة، لكن الفائدة المرجوة التي ستنعكس إيجابًا على أجيال وشباب عمان أكبر بكثير من تلك التكاليف. إن المهمة الحقيقية في هذا البرنامج تكمن في تنمية الوعي وغرس القيم وتعزيز روح القيادة للمشاركين، مما يسهم في تنشئة أجيال وطنية تتسم بحب الوطن والولاء للسلطان، ويسهم في بناء شخصية المشارك معرفيًا ومهاريًّا وسلوكيًّا.
وعلاوة على ذلك، سيُسهم البرنامج في تحقيق أهداف أخرى غير التي رسم من أجلها، ومنها شغل أوقات الصيف والفراغ خلال إجازة نهاية العام الدراسي، والابتعاد عن السهر وقضاء الأوقات في تجمعات وسهرات لا فائدة منها، وقد تؤثر سلبًا على حياتهم المستقبلية. وبناءً على ذلك، نناشد الحكومة الموقرة بإعطاء هذه البرامج أهمية أكبر، وتوسيع نطاقها لتشمل شريحة كبيرة من طلبة التعليم العالي، وأيضًا لا مانع من تنظيم دورات تستهدف أعدادًا كبيرة من موظفي الجهات الحكومية، حيث ستستفيد هذه الجهات من البرنامج الذي سينعكس على عطاء وانضباط الموظفين في أداء وظائفهم.
هنا.. يجب أن نركز على أهمية التدقيق الأمني والمجتمعي للمشاركين من خلال الجهات المعنية المتخصصة. يجب اختيار الشباب المجيدين الذين تزكيهم مؤسساتهم، سواء كانت التعليمية أو الوظيفية. مثل هذه التجمعات قد تؤدي إلى مخاطر إذا لم تكن هناك مراقبة جيدة لهذه النقاط وإعطائها الاهتمام اللازم.
كما أنَّي أبارك لوزارة الثقافة والرياضة والشباب الموقرة هذه الخطوة، وأوجه تحية تقدير واعتزاز للجهات العسكرية والأمنية القائمة على تنفيذ ومتابعة هذا البرنامج التدريبي لهؤلاء الشباب. بناءً على ما سبق، يجب تعزيز المهارات جنبًا إلى جنب مع الجانب الأكاديمي لدى الأفراد. إن الانضباط العسكري ليس مجرد تدريب جسدي، بل هو منظومة شاملة تهدف إلى بناء شخصيات قوية قادرة على مواجهة تحديات المستقبل. هذه الشخصيات ستكون قادرة على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الصائبة، مما يعزز من قوة الدولة وتقدمها.
إنَّ البرنامج يهدف لتنمية الشعور بالمسؤولية والانضباط الذاتي لدى المشاركين، كما يجب أن نفهم أن هذا الانضباط ليس مجرد تقييد للحرية، بل هو الطريق إلى الحرية الحقيقية التي تأتي من معرفة الواجبات والحقوق، والقدرة على التوازن بينهما. إن الانضباط العسكري يساعد الشباب على تطوير قدراتهم العقلية والجسدية، مما يجعلهم أكثر استعدادًا لمواجهة التحديات في حياتهم المهنية والشخصية.
كما أنَّ البرنامج يوفر فرصة لتعلم القيم الأساسية مثل العمل الجماعي، والقيادة، والاحترام، والانضباط. هذه القيم ليست فقط مفيدة في الحياة العسكرية، بل هي أساس النجاح في أي مجال من مجالات الحياة. إن تعلم هذه القيم في سن مبكرة يضع الأساس لشخصيات قوية ومسؤولة تستطيع تحقيق النجاح والتقدم.
وأخيرًا.. يجب أن ندرك أن الاستثمار في الشباب هو استثمار في مستقبل الوطن، فإعداد جيل قادر على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الصائبة هو مفتاح لتحقيق التنمية المستدامة والازدهار. لذلك، يجب أن نواصل دعم مثل هذه البرامج وتوسيع نطاقها لتشمل المزيد من الشباب في مختلف أنحاء سلطنة عمان. إن النجاح في هذا المسعى يتطلب تعاون جميع الجهات المعنية، من الحكومة والمؤسسات التعليمية إلى الأسر والمجتمع بأسره.
أقول نعم عندما تجتمع الشهادة الأكاديمية مع المهارات العملية، نفتح آفاقًا جديدة لتحقيق تقدم حقيقي في بناء جيل مستعد لمواجهة تحديات المستقبل. إن امتلاك الأفراد لشهادات أكاديمية يزودهم بالمعرفة النظرية اللازمة، بينما تسهم المهارات العملية في تنمية قدراتهم التنفيذية والتطبيقية. هذه التوليفة المتكاملة تخلق أفرادًا يتميزون بالإنتاجية العالية والوعي العميق بأهمية الوطن والانتماء إليه.
إن هذا الجيل المتكامل، بفضل تعليمهم الأكاديمي المتين ومهاراتهم العملية المتميزة، سيكون لديهم الفهم الشامل لكيفية تطبيق المعرفة النظرية في مواقف الحياة الواقعية. هذا لا يعزز فقط من قدرتهم على الأداء بكفاءة في مختلف المجالات، بل يغرس أيضًا فيهم قيم الانتماء والوطنية. هؤلاء الأفراد يصبحون على دراية بمدى أهمية مساهمتهم في رفعة وطنهم، مما يدفعهم للعمل بجد وإخلاص لتحقيق أهداف تنموية كبيرة.
وبالتالي؛ فإنَّ هذا النهج الشامل في التعليم والتدريب يمكّن هؤلاء الأفراد من التأهل لشغل مناصب قيادية في الدولة. فهم ليسوا مجرد حملة شهادات، بل هم قادة مؤهلون يمتلكون الرؤية والإدراك اللازمين لتوجيه مسارات التقدم والازدهار. إن تزويدهم بهذه القدرات الشاملة يجعلهم قادرين على اتخاذ قرارات استراتيجية تصب في مصلحة الوطن، وتؤهلهم ليكونوا قادة المستقبل الذين يساهمون بفاعلية في تحقيق رؤية شاملة لتطوير المجتمع والدولة على حد سواء.
وبهذه الروح، يمكننا أن نضمن أن شباب عمان سيكونون مستعدين لمواجهة تحديات المستقبل، وأنهم سيواصلون بناء الوطن بكل فخر واعتزاز.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
د. نزار قبيلات يكتب: فلسفة القيم
في كتابه «فلسفة القيم» يشير الفيلسوف الفرنسي «جان بول رزفبر» إلى مفهوم القيمة وتصورات الفلاسفة اليونانيين حوله، وبعد مطارحته لهذا المفهوم -القيمة- وجد أن القيمة تشير إلى ما هو ثمين وجدير بالثقة، وهي في اللغة العربية مشتقة من القيام والعزم والثبات، وهي عند «نيتشه» نزعة إنسانية؛ لأنها ترتبط بالسياقات البشرية كافة الاجتماعية والصناعية والثقافية، حتى بات الإنسان، أي إنسان، يُعرّف نفسه تبعاً لقيمة وجوده وتأثيره الخَيّر بمن حوله، فقيمة الإنسان بوجوده الحسن في محيطه وبتأثيره فيه، وهو ما نجده حين يضع أحدنا سيرته الذاتية، فيقدمها لجهات العمل أو حين التعريف بنفسه للآخرين، فهي وَسمه وصفته وهُويته، أما علاقة القيم بالأخلاق فتنبع من كون القيم على تعددها تحتاج إلى فعل أخلاقي حَسن ينهض بها ويبرزها، فهي ساكنة لا تتأتى إلا عملياً حين يصدر عن حاملها سلوك ما، فالقيم محاطة بمفهوم الأخلاق وبممارسته، لتواكب قيماً أخرى كالقيم الجمالية في الحُسن والجمال والأناقة، وتواكب كذلك قيماً أخرى منطقية تلتزم بالصواب والخطأ والمحتمل، وكذلك قيم تتعلق بالسياقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
فالقيمة، كما يذكر صاحب الكتاب أعلاه، تبقى اختيار الإنسان وقراره الذي يتحمل تبعاته، فهو وحده من سيبرزها، ذلك لأنها لن تُفرض عليه، حيث هي كامنة في مدار تحرك البشر بدءاً من الطبيعة، وحتى دواخل النفس العميقة، ومنها يُصدّر الإنسان الفضائل كلها والمتعلقة بقيم إنسانية وجودية مشتركة هي على التوالي: الخير، الحق، الجمال، فوجود هذه القيم ينفي الشّر والفظيع والعنف بشكل تلقائي، فهذه القيم الإنسانية الإيجابية ستجلب السعادة، التي هي محط بحث الإنسان وغايته في كل ما يسعى إليه، فيذكر الفيلسوف «كانت» أن العلاقة بالسعادة تحليلية، وربما قصد بها أنها نتيجة عمل الأخلاق بصفتها المُنفّذ، والقيم بصفتها مكونات للوجود، ووفقاً لطرح «سبينوزا» تجلب الفضائل السعادة حكماً، إذ الإنسان الفاضل سعيد بالضرورة؛ لأنه يتمتع بمستوى جمالي رفيع، حتى حين يقدم هذه الفضائل بقيم حسيّة كما في التخاطب والموسيقى والعمل الخيري.. فالمنطق يشير للقيم؛ لأن حضورها يعني مشاركة البشرية جمعاء دون إقصاء أو تخلٍ.
الكتاب يشير أيضاً إلى إشارات أو علامات تبرز قيماً عرّفتها المجتمعات الإنسانية نتيجة تنوع أدواتها ومرجعياتها الثقافية، فهناك من وسم القيمة بالمنجل بدلالة الخير، وبصورة الأب بدلالة الفخر والانتماء وبالشمس والشجر والميزان. كل ذلك كان بغية إرساء القيم، وإبرازها كعلامات حق وخير وجمال سوف تستلهمها الأجيال القادمة.
الكتاب غني ومكتنز بالأفكار والمعلومات، أجاد فيه المترجم نقل جهود الفيلسوف «رزفبر» في معالجة مفهوم القيم وفلسفتها.
* أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية