لماذا تظل رواية جورج أورويل أهم من ذي قبل؟
تاريخ النشر: 24th, July 2024 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
عندنا أورويل الإنسان، عندنا أورويل الروائي، وعندنا أورويل المثقف، والناقد، والصحفي، وكاتب المقال، والراديكالي. ولكننا رأينا أخيرًا أن جورج أورويل ـ الذي ولد باسم إريك آرثر بلير ولم يهجر قط اسمه الأصلي هجرانًا تامًا ـ بات يعد أكثر فأكثر عرَّافًا حديثًا، ومتبصِّرًا موهوبًا تنبأ بدقة مرعبة بمدى هشاشة أنظمتنا السياسية وقابليتها للخطأ، ومدى قرب شبح الاستبدادية.
كنت طالبة جامعية في تركيا حينما اكتشفت للمرة الأولى تلك الرواية التحذيرية، في نسخة بالية تناولتها بالصدفة في متجر للكتب المستعملة. اكتشفتها، ببطلها ونستن سميث، وهو متمرد لكنه ليس من فئة أبطال الخرافات والأساطير، فهو فرد وحيد متأمل يعيش في ظل نظام قمعي، وبشخصية الأخ الكبير، الرقيب الدائم، المهيمن على كل شبر من الحياة اليومية بنظرة سماوية ثاقبة لا تغيب عنها شاردة أو واردة، وبإعادة صياغة تاريخ بلد بما يلائم أوامر واحتياجات حكومة ودولة وحزب، وبرمال الذاكرة الشخصية؛ إذ تحاول النجاة من موجات فقدان الذاكرة الجماعي المتلاطمة.
هزَّني ذلك كله حتى النخاع. فإذا بي أفكر في القصة لوقت طويل بعدما انتهيت من آخر صفحة فيها. وفي تلك الأيام البعيدة، كنت قد بدأت في هدوء أكتب الأدب، مستبقية إياه لنفسي، حالمة بأن أصبح روائية دون أن أتجاسر على الجهر بتلك الأمنية الصغيرة. تزامن ذلك أيضًا مع قراءاتي الكثيفة في الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان التي وقعت وكانت لا تزال تقع في بلدي.
الحقائق المنسية. القصص المكتشفة. الموضوعات المحرمة. السجلات التاريخية إذ تمحوها البروبجندا الرسمية محوا. تخوين كل من يتجاسر على التشكيك في الرواية المهيمنة. المعاناة والسكوت الكامنان أسفل قشرة «الحياة الطبيعية». لم يبد العالم وفقًا لوصف أورويل بعيدًا قط. ولا سرياليا. بدا مألوفًا للغاية، وقريبًا إلى درجة الخطر.
أعتقد، حينما أنظر بأثر رجعي، أنني لم أكن وحدي في إحساسي ذلك. فلا بد أن كثيرين للغاية منا في شتَّى أرجاء العالم قد مروا بتجارب مماثلة لإحساس (ديجا فو) وهم يقرؤون (1984) للمرة الأولى. وهذا لأن أوقيانيا ـ بالنسبة لمن ينتمون منا إلى «ديمقراطيات جريحة» أو أوتقراطيات في طور التكوين، أو دكتاتوريات صريحة ـ لم تكن قط تلك الأرض الدستوبية بعيدة المنال الواقعة في مستقبل غير منظور، وإنما أقرب من ذلك، بل هي أقرب من حبل الوريد. ومفزعة أيضًا. بل ولم تكن أيضًا تحذيرًا بصيرًا مما قد تفضي إليه الأمور لو اعترى السياسة خطأ غير متوقع. كانت (1984) بالنسبة لنا قائمة بالفعل. كانت واقعة لنا.
*
في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي، شاعت رؤية استقطابية للعالم شيوعًا كبيرًا وملحًّا. وبموجب هذه الرؤية، انقسم كوكب الأرض إلى «أراض صلبة» في مقابل «أراض سائلة». يغلب الظن على الأولى منهما -وهي في الغالب البلاد الديمقراطية الغربية المتقدمة- بأنها قوية وآمنة وثابتة، ولم يعد مواطنوها قلقين على حقوق الإنسان والحريات الأساسية -من قبيل حرية التعبير أو حقوق المرأة- لأن كل هذه أمور تحققت بالفعل، ولأن عتبة التنمية الاجتماعية والسياسية قد اجتيزت منذ أمد بعيد.
وفي «أماكن أخرى»، في تلك البلاد السائلة المضطربة الواقعة في مهب الريح كان لتلك المخاوف مبرر أكبر. لم تكن تلك البلاد، في نهاية المطاف»، «موجودة بعد»، لم تكن قد صلبت بعد، كانت لا تزال في طور التكون، لا تزال سائلة. لكن بما أن التاريخ هو قصة التقدم، فحتى تلك البلاد الـ«متأخرة» كانت لتلحق عاجلًا أم آجلًا بركاب الغرب. فقد سقط سور برلين، ولم يبق من وجود للاتحاد السوفييتي. والمثال السياسي الوحيد الذي بدا قابلا للحياة وللدوام على المدى البعيد هو نموذج الديمقراطية الليبرالية. وقديمًا في تلك الأيام، كانت الثقة هائلة، آمن بها الكثير في الإعلام والوسط الأكاديمي، ثقة في أن الديمقراطية هي مستقبل البشرية المشترك.
وعلى هذه الخلفية ظهرت شبكة الإنترنت العالمية، وترافقت مع الإثارة المحيطة بالتقنيات الرقمية الجديدة. وأعقبت ذلك حقبة من الإفراط في التفاؤل بأن التكنولوجيا والتبادل التجاري سوف يجعلاننا جميعًا مترابطين يعتمد بعضنا على بعض، وبأننا سوف نتحول جميعا -بفضل انتشار منصات التواصل الاجتماعي وتزايد التفاعل بين الأمم من خلال تبادل الخدمات والسلع ورأس المال- إلى قرية عالمية واحدة، قرية ديمقراطية، وبأنه بدءًا من الآن، سوف تتوسع الديمقراطية فلا يوقفها شيء؛ لأنه لا مقدرة لشيء على الوقوف في وجه تدفق المعلومات.
ولا حتى الطغاة، ولا حتى أسوأ المستبدين. سوف تقوم شبكات الإعلام الاجتماعي بنشر المعلومات في كل حدب وصوب. وسوف يصبح الناس «مواطنين مطَّلعين»، والمواطنون المطَّلعون سوف ينشدون حلولًا مثمرةً وبناءةً، وإذا ما تحركت المعلومات حرةً، منفتحةً، فكيف للطغاة أن يواصلوا إخفاء الحقيقة عن شعوبهم؟ لقد انتهى عصر الاستبداد.
بلغت سذاجة الثقة في قدرة الإعلام الاجتماعي على التعجيل بالتغيير الديمقراطي والخير حد أن أطلق زوجان شابان في مصر على المولود الجديد لهما اسم فيسبوك، كما أطلقت أسرة في إسرائيل بعد بضعة أشهر على مولودها الجديد اسم «إعجاب» [أي like]. فلما بلغ كلا المولودين سن المراهقة كان العالم قد تغير تغيرًا كاملًا ودراماتيكيا، وتدهور تفاؤل العقود الماضية المفرط حتى أصبح تشاؤما صارخا.
ولما أقبل عام 2016، كان قد وضح للغالبية أن الديمقراطية لم تكن في صعود وفقًا للتنبؤات، وإنما هي على النقيض من ذلك في حالة ضعف. وسرت في أرجاء العالم أصداء خطاب إثاري، هو خطاب الانعزالية والقومية المتطرفة والاستبدادية. والمدهش أن ذلك لم يجر فقط في «الأراضي السائلة» وإنما في «الأراضي الصلبة» أيضا. وفجأة أخذت تتهاوى تركة عقود سابقة من الفرضيات الساذجة القائمة على الثنائيات التي طالما بدت إشكالية. فربما كانت الديمقراطية أشد هشاشة مما تصورنا. وربما كان ينبغي علينا جميعا أن نخشى على حقوق الإنسان أو حرية التعبير أو مستقبل المؤسسات والأعراف الديمقراطية. وربما ما كان من وجود لشيء من قبيل الأراضي الصلبة في مقابل الأراضي السائلة وأننا كنا جميعا في حقيقة الأمر نعيش «أزمنة سائلة».
حتى بلاد الغرب الثابتة الآمنة لم تبد بمأمن من أخطار الاستبداد. ومع رسوخ هذا الفهم رسوخا تاما، بدأت مبيعات (1984) لجورج أورويل ترتفع ارتفاعًا صاروخيًا. وشوهد هذا الارتفاع بوضوح في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قالت إدارة ترامب بصفاقة للصحفيين: إن هناك حقائق ولكن هناك أيضًا «حقائق بديلة». فبدا ذلك شبيهًا بما قد تصادفه في (1984). ولا عجب إذن أن رأينا معالجات للرواية تتوالى في دور السينما ومسارح برودواي. بدأ كثير من الأمريكيين يشعرون بما شعرنا به، في أماكن أخرى من العالم، ونحن نقرأ (1984) للمرة الأولى، وهو أنها ليست دستوبيا بعيدة تجري وقائعها في مكان وزمان بعيدين. وإنما هي هنا، وأن أحداثها تجري بالفعل.
*
كتب أورويل (1984) وهو متكدر المزاج من جراء مرضه وخوفه العميق على نفسه وعلى العالم. فضلا عن أنه كان قلقًا بصفة خاصة من أن الحقيقة الموضوعية تتلاشى. وتتناول الرواية -ضمن أمور كثيرة- ثيمة الفقد. فقد الحقيقة، والذاكرة، والحب والتعاطف. وليس هذا بمصادفة. فلا سبيل إلى ممارسة السلطة والقسوة إلا بعد السيطرة التامة على الحقيقة والذاكرة والحب/التعاطف. فحينئذ فقط يمكن اختزال الإنسان في «نكرة»، والمجتمع كله في محض أرقام.
حينما تتلاشى الحقيقة على هذا النطاق الهائل، فإننا نندفع اندفاعًا إلى قاعة مرايا مشوهة كل ما فيها مقلوب رأسا على عقب. فوزارة السلام منخرطة في اختلاق الحرب والكراهية وغياب الثقة. ووزارة الوفرة تنشئ تفاوتات هائلة تفضي إلى العوز والمجاعة. ووزارة الحقيقة تلفق الأكاذيب. والمهمة الأساسية لوزارة المحبة هي الممارسة الممنهجة للتعذيب والانتهاك. والحرب وفقًا لهذا النظام الجديد هي السلام، والحرية هي العبودية، ومعسكرات العمل القسري تحمل لافتة «معسكرات البهجة». ويمكن أن يستمر تشويه الحقيقة ما بقي المواطنون غافلين، لا يشكّكون، ولا يستجيبون، ومن هنا ينبع الشعار التالي: الجهل قوة.
تركت (1984) أثرًا عميقًا على فنانين وكتاب لا حصر لهم أو حدود لتنوع خلفياتهم. وباتت المصطلحات الجديدة التي صاغها أورويل ببراعة من قبيل (جريمة التفكير) و(فجوة الذاكرة) و(التفكير المزدوج) و(الكلام الجديد) وغيرها أساسيات في تراثنا الثقافي والأدبي. في عام 1974 أراد ديفيد باوي أن يصدر أغنية منفردة بعنوان (1984) ولكنها لم تظهر قط كاملة لأنه لم يستطع الحصول على تصريح من زوجة أورويل. وأنتجت فرقة راديوهيد أغنية بعنوان (2+2=5)، وأصدرت فرقة مانيك ستريت بريتشرز أغنية اسمها «أورويلي».
والواقع أن «الأورويلي» اليوم هي الأكثر استعمالًا بين الصفات المشتقة من أسماء الكتاب والشعراء والمفكرين من قبيل «الديكنزي» و«البيروني» و«الفرويدي» و«الكافكاوي» و«المكيافيلي». وإنني أتساءل في بعض الأحيان هل كان جورج أورويل ليشعر بعدم الارتياح أو حتى بالحزن حينما يرى اسمه وقد بات مرادفا لكل تلك الأمور التي عارضها أشد المعارضة، أم تراه كان ليتفهم ذلك ويتقبل ما ينطوي عليه من مفارقة خالصة؟
عصرنا هذا هو عصر الرقابة الجماعية، وحركات الاستبداد الشعبوية، والديمقراطيات الهشة. وقد أدت منصات الإعلام الاجتماعي إلى تسريع تآكل الحقيقة ونشر المعلومات المغلوطة والافتراءات وخطاب الكراهية. لقد كان من الخطأ أن ننظر تلك النظرة الرومانسية إلى المعلومات ونعدها بمنزلة العلاج السحري لمشكلات العالم. لأن الاختلاف تام بين ثلاثة أمور: المعلومات، والمعرفة، والحكمة. فنحن نتعرض في كل يوم لوابل من آلاف المعلومات، ولكننا لا نكاد نجني معرفة، ولا وقت لدينا للتمهل من أجل اكتساب المعرفة، ناهيكم بالحكمة.
رواية (1984) اليوم أهم منها في زمن مضى. ولا تبرز هذه الرواية اللافتة بسبب الحكاية التحذيرية التي تحكيها وحسب، ولكنها تبرز أيضا؛ لأنها تدرك إدراكًا حادًا سلطة اللغة. فالكلمات قادرة أن تداوي، وأن تؤذي. أن تبني وأن تهدم. وبما أن البشر يفكرون ويتذكرون ويعالجون العواطف عبر الكلمات، ومن أجل السيطرة على كل من التفكير النقدي والذكاء العاطفي، لا بد من الإشراف على اللغة من أعلى. ولأوقيانيا لغة رسمية هي «الكلام الجديد»، وما يمحى من كلماتها لا بد من نسيانه فورًا.
تكره الدول البوليسية الشمولية الغموض، ومن ثم لا تسمح بالفويرقات في الأفكار. ولقد قال مرة الفيلسوف الناجي من الهولوكوست تيودور أدورنو: إن «عدم التسامح مع الغموض سمة الشخصية الاستبدادية». ففي هذه الذهنية المنغلقة لا مجال لتذوق التنوع أو التعدد. ولا مجال للشك. لا بد من تضييق كل شيء في مقابلة ثنائية صارمة: أي نحن مقابل هم. وقد يتغير تحديد «هم» بناء على أهواء النظام الحاكم، على أن يبقى «عدو» ما حاضرا على الدوام، ولا بد من تعديل التاريخ وإعادة كتابته ليلائم البروبجندا الجديدة. فالحزب يعرف أن «من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، وأن من يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي».
وفيما أكتب هذه المقدمة، تصاعد حظر الكتب في المدارس الأمريكية العامة بنحو 35% في ما بين يوليو 2022 ويونيو 2023. وكل موضوع يعد «غير مرغوب فيه» أو «غير ملائم»، من التفاوت العرقي إلى الجنسية إلى حقوق المثليين، يمكن التذرع به للرقابة. وقد يأتي يوم نرى فيه (1984) محذوفة من أرفف المكتبات. ولكي لا يحل علينا هذا اليوم، لا بد من قراءة هذه الرواية القوية المهمة وإعادة قراءتها، وتداولها في العالم. وهذا ما ندين به لجورج أورويل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: یسیطر على لا بد من من قبیل لم تکن
إقرأ أيضاً:
لماذا اندلعت أعمال شغب مناهضة للهجرة في أيرلندا الشمالية؟
تطورت الاحتجاجات المناهضة للهجرة إلى اشتباكات مع الشرطة في عدة بلدات بأيرلندا الشمالية هذا الأسبوع، مما يشير إلى موجة جديدة من الاضطرابات التي تضرب المملكة المتحدة، وفق ما جاء في تقرير لموقع الجزيرة الانجليزية.
استمرت الاضطرابات في بلدات مختلفة في المنطقة لليلة الرابعة على التوالي أمس الخميس، ودارت مواجهات في بعض البلدات، منها مقاطعة أرما، إذ أُصيب نحو 40 ضابط شرطة في حين جرى تنفيذ 15 عملية اعتقال.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2المنظمة الدولية للهجرة: 100 ألف مهاجر عادوا طوعا إلى بلدانهم من ليبياlist 2 of 2الأمم المتحدة: الجوع الحاد يفتك بـ17 مليون يمنيend of listبدأت الاحتجاجات في بلدة باليمينا، التي يسكنها نحو 31 ألف شخص، وتقع على بُعد 40 كيلومترًا شمال غربي بلفاست، يوم الاثنين بعد اعتقال فتيين رومانيين يبلغان من العمر 14 عامًا للاشتباه باعتدائهما جنسيًا على فتاة مراهقة، وفق تقارير صحفية.
وبلغ العنف ذروته الثلاثاء الماضي في باليمينا، حينما هاجم مئات من مثيري الشغب المقنعين الشرطة وأضرموا النيران في مبانٍ وسيارات، في حين ألقى حشد صغير يوم الأربعاء، الحجارة والألعاب النارية والقنابل الحارقة على الشرطة، التي ردت باستخدام خراطيم المياه.
وأضرم مثيرو الشغب النار أيضًا في مركز ترفيهي في مدينة لارني الساحلية، التي تبعد نحو 30 كيلومترًا عن باليمينا، حيث تم إيواء بعض العائلات المهاجرة بعد اضطرابات باليمينا لينتشر العنف إلى بلفاست، كوليرين، أنترم، وليسبورن ومدن أخرى.
اندلعت أعمال الشغب في باليمينا بعد مثول المراهقين الرومانيين لدى محكمة كوليرين يوم الاثنين بتهم "الاعتداء الجنسي"، وهي تهم أنكروها.
إعلانوفي حين نُشر منشور على فيسبوك يروّج لـ "احتجاج سلمي للتعبير عن غضبنا تجاه ما لا يمكن ولا ينبغي التسامح معه في هذه البلدة"، بدأ التجمع المخطط له في باليمينا مساءً، حيث تجمع حشد في شارع "كلونافون تراس"، وهو موقع الاعتداء المزعوم، وراقبت الشرطة مظاهرة كانت في الغالب سلمية.
لكن الشرطة قالت، إن عدة أشخاص ملثمين انفصلوا عن الحشد وبدؤوا في إقامة حواجز ومهاجمة ممتلكات خاصة تسكنها عائلات مهاجرة، قائلة إنهم هاجموا ضباط الشرطة بقنابل الدخان، والألعاب النارية، والزجاجات، والطوب، مما أدى إلى اشتباكات استمرت عدة أيام.
من أثار الشغب؟لم تكن هوية المئات من الأشخاص –العديد منهم مقنعون ويغطون رؤوسهم– الذين هاجموا منازل وأعمال المهاجرين واضحة فورا.
في السابق، كانت مثل هذه الأعمال العنيفة غالبًا ما تحدث في بلدات مثل باليمينا، وهي معقل للاتحاد السياسي مع المملكة المتحدة. ومع ذلك، أفادت تقارير إعلامية، أن بعض الكاثوليك قد شاركوا أيضًا في هذه الاحتجاجات هذه المرة.
شهدت أيرلندا الشمالية عقودًا من الصراع بين الاتحاديين، وهم في الغالب من البروتستانت الذين يريدون البقاء ضمن المملكة المتحدة، والقوميين، في الغالب من الكاثوليك الذين يطمحون إلى إعادة التوحيد مع بقية أيرلندا.
وقد لعبت الجماعات شبه العسكرية دورًا كبيرًا في هذا الصراع الطائفي المعروف باسم "الاضطرابات"، الذي استمر نحو 30 عامًا منذ أواخر الستينيات حتى عام 1998، حين تم التوصل إلى اتفاق "الجمعة العظيمة" الذي أسس لنظام تقاسم السلطة.
ومع ذلك، واجه هذا الاتفاق معارضة من بعض الجماعات الاتحادية، و"لا تزال بعض المظالم دون حل".
وتعليقا على هذه التطورات، يقول عالم الاجتماع جون نيجل، المحاضر في جامعة كوينز في بلفاست، للجزيرة: "تشعر بعض المناطق العمالية ذات الأغلبية الاتحادية، أنها خسرت خلال عملية السلام". وأضاف: "أعتقد أن الشعور بالاستياء من عملية السلام يندمج في المخاوف الأوسع بشأن الهجرة".
إعلانوقد أوضحت شرطة أيرلندا الشمالية (PSNI) في هذه المرحلة، أنها لم تعثر على أدلة على تورط الجماعات شبه العسكرية الاتحادية في أعمال العنف الأخيرة.
ومع ذلك، فإن تقريرًا نُشر الشهر الماضي من مجموعة حقوقية مستقلة تدعى "لجنة إدارة العدالة" (CAJ)، يشير إلى وجود صلة محتملة.
وتناول التقرير، بعنوان "رسم خريطة أنشطة اليمين المتطرف على الإنترنت في أيرلندا الشمالية"، سبعة حوادث من احتجاجات مناهضة للهجرة منذ عام 2023.
ويقول دانيال هولدر من لجنة إدارة العدالة (CAJ) "ما لاحظناه هو أن جميع هذه الاحتجاجات تُنظَّم وتحدث في مناطق تشهد نشاطًا كبيرًا للموالين، وتُظهر قدرًا من السيطرة من الجماعات شبه العسكرية".
وأضاف أن مثل هذه الاضطرابات غالبًا ما تحدث في فصل الصيف، تزامنًا مع موسم مسيرات الموالين، وهو تقليد سائد لدى المجتمعات البروتستانتية.
ما القضايا المغذية للاضطرابات؟تبدو الهجرة هي الشاغل الرئيسي للمحتجين، فمنذ عام 2015، تم توطين أكثر من 1800 لاجئ سوري في أيرلندا الشمالية ضمن برنامج إعادة توطين الأشخاص السوريين المعرضين للخطر، والذي أعيدت تسميته لاحقًا في عام 2020 ليُصبح برنامج إعادة توطين الأشخاص المعرضين للخطر (NIRRS).
في حين أن معدلات الهجرة العامة في ازدياد أيضًا، قال بول فرو، وهو عضو من الحزب الوحدوي الديمقراطي (DUP)، لهيئة الإذاعة البريطانية، إن التوترات بشأن هذا الموضوع تتصاعد منذ فترة في باليمينا، وإن الناس "يشعرون بالخوف من الهجرة غير النظامية".
وزاد من تفاقم المخاوف المتعلقة بالهجرة الغضب من سياسات التقشف والتراجع في برامج الرعاية الاجتماعية منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008.
ويوضح دانيال هولدر، أن المظالم بشأن سوء حالة الإسكان استُخدمت ذريعة لتحميل المهاجرين المسؤولية والترويج لرواية "الهجرة الجماعية غير المضبوطة" التي "لا تستند إلى وقائع حقيقية".
إعلانوأضاف أن تقرير اللجنة لم يجد علاقة واضحة بين المناطق التي اندلعت فيها أعمال العنف منذ عام 2023 ومعدلات الفقر أو كثافة الهجرة.
وقال: "عندما تنظر إلى نمط الهجمات، لا تحدث في أكثر المناطق حرمانًا". وتابع: "ما يشير إليه هذا، هو أن الهجمات تنفذها عناصر يمينية متطرفة معينة، بمن فيهم بعض أفراد المنظمات شبه العسكرية الموالية، وليس لها علاقة مباشرة بمعدلات الهجرة أو الفقر".
ما رد السياسيين على العنف؟مع أن بعض الوزراء واجهوا اتهامات بتأجيج التوترات، فقد أدان العديد منهم العنف بأشد العبارات، إذ قالت رئيسة الوزراء ميشيل أونيل إن "الهجمات العنصرية والطائفية على العائلات" كانت "مروعة ويجب أن تتوقف فورًا".
وفي حين وصف وزير المالية جون أوداود المهاجمين بأنهم "بلطجية عنصريون"، قالت وزيرة العدل نعومي لونغ، إن العنف "غير مبرر تمامًا".
كما يصف القائد العام للشرطة، جون بوتشر الأحداث بأنها "أعمال مدفوعة بالكراهية وحكم الغوغاء، التي لا تفعل شيئًا سوى تمزيق نسيج مجتمعنا".
وأمس الخميس، رفض وزير المجتمعات غوردون ليونز الدعوات للاستقالة بعد منشور على وسائل التواصل الاجتماعي كشف فيه عن موقع المركز الترفيهي في لارني، الذي تم استهدافه لاحقًا.
من جانبه، أدان تايلر هوي، عضو المجلس البلدي من الحزب الوحدوي الديمقراطي، أعمال العنف، لكنه أيضًا اتهم الحكومة البريطانية بأنها تنقل "حافلات مليئة بالمهاجرين غير المدققين" إلى المنطقة.
كما قال عالم الاجتماع جون نيجل، إن بعض السياسيين الوحدويين أدانوا أعمال الشغب، لكنهم في الوقت نفسه رددوا ادعاءات غير مثبتة بأن باليمينا أصبحت "مكانًا لتجميع المهاجرين".
هل معدلات الهجرة مرتفعة؟
تُظهر الأرقام الرسمية من جمعية أيرلندا الشمالية، أنها الأقل تنوعًا بين أجزاء المملكة المتحدة، إذ يعرّف 3.4% فقط من السكان أنفسهم كجزء من مجموعة عرقية أقلية، مقارنةً بـ18.3% في إنجلترا وويلز و12.9% في أسكتلندا.
إعلانووفقًا لأحدث بيانات التعداد لعام 2021، فإن الهجرة إلى أيرلندا الشمالية لا تزال منخفضة نسبيًا، لكنها في ارتفاع. فقد ارتفعت نسبة السكان المولودين خارج المملكة المتحدة من 6.5% في عام 2011 إلى 8.6% في عام 2021.
هل تزايد الهجرة مقلق؟تقول عالمة الاجتماع روث ماكأريفاي، المحاضرة في جامعة نيوكاسل، إن الدراسات الاستقصائية العامة تُظهر أن أيرلندا الشمالية أصبحت أكثر ترحيبًا بالمهاجرين بمرور الوقت، وأقل رغبة في تقليل أعدادهم.
وأشارت دراسة "مسح الحياة والآراء في أيرلندا الشمالية" إلى أن 94% من المشاركين عام 2024 قالوا إنهم يقبلون بالسكن إلى جوار شخص من مجموعة عرقية أقلية، مقارنةً بـ53% فقط في عام 2005.
مع ذلك، أوضحت ماكأريفاي، أن التغييرات الديموغرافية السريعة حدثت ضمن بيئة "اجتماعية محافظة"، في وقت تواجه فيه البلاد اضطرابات اقتصادية عالمية، بما فيها تراجع في قطاعاتها الصناعية مثل بناء السفن وصناعة النسيج.
وأضافت: "هناك قدر من الاستياء يدفع الناس إلى لنزول إلى الشارع"، موضحة أن سياسات التقشف التي أضعفت دولة الرفاهية قد زادت الأمر سوءًا.
وتابعت: "غياب الموارد لا يساعد على دمج المجموعات الاجتماعية المختلفة داخل المجتمع، ولا على تحقيق التماسك الاجتماعي". واختتمت: "يشعر الناس أنهم فقدوا السيطرة، وأن الأمور تحدث لهم بدلًا من أن تحدث معهم طبيعيا وفي نظام".