[email protected]

سلطنة سنار والمركزية الأوربية ‏قراءة في كتاب "عصر البطولة في سنار"‏

د. محمد عبد الله الحسين

الكلمات المفتاحية:‏
السودان -سلطنة سنار–المفاهيم الإسلامية -المركزية الأوربية مقدمة:‏ قليل من الكتب بل النادر منها، تلك التي تثير في القارئ قلقاً معرفياً، قلقا لا يجعلك تكتفي بما ‏تورده من معلومات بل تدفعك لمزيد من التساؤل.

مثل هذه الكتب لا تقتصر قيمتها فقط في كونها ‏تفيض بالكثير من المعلومات المهمة، بل تحملك أيضاً إلى آفاق أرحب من التفكير والتأمل. ‏يعتبر كتاب جاي سبولدينق الموسوم "عصر البطولة في سنار من بين الكتب التي ينطبق عليها ‏مثل هذا القول، وذلك بما احتواه من العديد من المعلومات الغنية التي تم جمعها من مصادر أولية ‏ومصادر ثانوية فهو يحيلك إلى عدة موضوعات أخرى ذات الصلة، فيجعلك تحاول أن تربط بين ‏شتيتها وتصل بين أطرافها. يتضمن الكتاب ضمن تفاصيل سرده العديد من الإحالات والإشارات ‏إلى موضوعات فرعية وجانبية وإلى أحداث ووقائع تقودك لا تجعلك تكتفي من الاستنتاجات بل ‏يثير في الذهن زخماً من التساؤلات حول شتى الموضوعات. ذكرت هذه المقدمة لكي أشير إلى ‏أن فكرة هذا المقال جاءت بناء على مقاربة الواردة جاي سبولدينق في كتابه: (عصر البطولة في ‏سنار) وما يمكن أن نستنتجه منها. ‏ يتناول المقال العوالم التي ساعدت في إحداث التغيير في بنية ونظام الحكم في دولة سنار في ‏النصف الثاني من القرن السابع عشر، مع استصحاب بعض الموضوعات ذات الصلة.‏ تمحورت مقاربة سبولدينق بشكل رئيسي حول تأثير كل من العامل الثقافي(الديني) في النمو ‏الرأسمالي، وحسب سبولدينق فقد جاء تأثير الدين من خلال موقع السلطنة وبالتالي علاقاتها ‏وعلاقات وتداخلات مواطنيها مع الخارج (التجارة، الدراسة زيارات الأماكن المقدسة الخ.). ويعتبر ‏النظر في أثر العوامل الخارجية لتفسير ديناميات التغيير الاقتصادية والاجتماعية، فكرة مخالفة ‏لمعظم التحليلات والدراسات السابقة حول تاريخ السودان /سلطنة سنار التي اهتم معظمها للأخذ ‏بتأثير ‏العوامل المحلية.‏ بالإضافة لما تقدم، هناك ‏جانب آخر مهم في تحليل سبولدينق المشار إليه، وهو استبعاده بشكل ‏غير مباشر لمفهوم المركزية الأوربية أو (السردية الغربية) في حدوث نهوض رأسمالي في بلدان ‏الأطراف بتأثير مباشر من الرأسمالية الغربية، كما ‏سيأتي شرحه لاحقاً.‏ ينطلق هذا المقال بناء على ما سبقت الإشارة إليه آنفاً من دور الموقع الجغرافي ‏والعلاقات/المصالح الخارجية في إحداث التغيير الداخلي، وتتضمن حيثيات الموضوع بالتالي ‏النظر في علاقات سلطنة سنار/السودان بعلاقاته الخارجية خاصة مع الدول المتاخمة، ‏وهي ‏مصر والحجاز على وجه الخصوص. ‏ قبل أن يتعمد سبولدينق إلى مناقشة حيثيات وأسباب التغيير في سلطنة سنار، قدم صورة تفصيلية ‏لصورة الدولة ولكيفية تداول الأسرة الحاكمة للحكم بشكل مرتب. تناول سبولدينق كذلك العوامل ‏التي تمكنت الأسرة الحاكمة بموجبها من خلال أيديولوجيا متكاملة، من إرساء قواعد الحكم، ‏وإضفاء الشرعية على الحكم والحكام. ‏ أرجع سبولدينق أسباب وعوامل التغير في نظام وطبيعة ‏الحكم إلى الأخذ‏ بما أسماها ب: ‏"بالمفاهيم الإسلامية" أو (مفاهيم العرب). ونتجت تلك المفاهيم ‏المشار إليها من خلال العلاقات المركبة والمتعددة مع الخارج والتي أفضت إلى نوع من التداخل ‏والتلاقح الثقافي والمعرفي (وبالطبع الاجتماعي) مع الخارج، من خلال الدراسة في مصر، ومن ‏خلال الأسفار للاماكن المقدسة في الحجاز. ‏ في إطار شرح سبولدينق كانت (المحميات الدينية) كما أسماها سبولدينق، والتي كان قد أنشأها ‏رجال الدين هي جزء من العوامل المُفضِية للتغيير في هيكل الدولة الإداري والاقتصادي وأخير في ‏هيكل الحكم نفسه. فقد أدخل رجال الدين القوانين والممارسات الإسلامية في المعاملات ‏الاقتصادية، وتبع ذلك العديد من التغييرات المتتابعة، فتوسع السوق ونشأت عديد من المدن في ‏السلطنة، كما دخلت الأرض والرقيق ضمن التبادلات والمعاملات التجارية. ترافق كل ذلك مع ‏اكتساب رجال الدين والتجار لسلطة كانت تزداد يوما إثر يوم مع تراخي يد البلاط السلطاني ‏تدريجياً، مما مهد في نهاية الأمر إلى حدوث انقلاب على الأسرة الحاكمة. وهكذا يمكن القول، ‏وفقا لمقاربة سبولدينق فإن عوامل التغيير التي حدثت في سلطنة حدثت بتأثير مباشر للعوامل ‏الثقافية/الدينية المختلفة، والتي جاءت كنتيجة للعلاقات مع الخارج.‏ من أجل توسيع مجال الرؤية الأوسع سنحاول النظر إلى مقاربة سبودلينق ضمن إطار الجدل ‏المعرفي حول ظهور ونمو الرأسمالية الغربية ومفاهيم مثل المركزية الأوربية. حيث سيتيح ذلك ‏وضع تاريخ السودان ضمن إطار والجدل النظري والرؤية العامة للتطورات الاقتصاد السياسية في ‏العالم. ‏ بناء عليه سنحاول بما تيسّر لنا أن نربط تحليل سبولدينق بما سبقه من أفكار، حول تأثير الدين ‏في التغير الاقتصادي والاجتماعي، باعتبار الدين عامل ثقافي ذا سطوة وتأثير كبيرين خاصة في ‏مجتمعات في مرحلة ما قبل الرأسمالية (أو ما القبل حداثية). وكانت الفكرة الرائدة في العلاقة بين ‏العامل الديني والنمو الرأسمالي، هي ما أورده "ماكس فيبر" في كتابه (الأخلاق البروتستانتية وروح ‏الرأسمالية)، والتي أشار فيه إلى دور الدين في تعزيز النمو الرأسمالي في مناطق نفوذ الديانة ‏البروتستانتية في بريطانيا وألمانيا وأوروبا، من خلال استيعاب القيم ‏البروتستانتية(الكالفينية). ‏ في نفس هذا السياق فقد أشار سبودلينق إلى كتابات كانت لها تأثير في تحليله، خاصة كتاب ‏مكسيم روبنسون،" الرأسمالية والإسلام" (1966)، وكتاب بيتر غران :(الجذور الإسلامية ‏للرأسمالية، مصر 1840-1760‏. نشير هنا إلى التقارب في أفكار جاي سبولدينق حول تأثير ‏المفاهيم الإسلامية (أو مفاهيم العرب كما اسماها سبولدينق) وبين بعض أفكار بعض المفكرين ‏السابقين خاصة بيتر غران، حيث نرى التشابه بين ما ورد في كتاب بيتر غران" الجذور ‏الإسلامية للرأسمالية" ومقاربة سبولدينق حول التغيير في سلطنة سنار. كانت أفكار غران في هذا ‏الكتاب وفي كتاباته اللاحقة مثل " صعود أصحاب النفوذ" في إطار تقديم رؤية بديلة لمفهوم ‏المركزية الأوربية. ذكر غران في كتابه “الجذور الإسلامية للرأسمالية" أن مصر العثمانية شهدت ‏في الفترة بين 1750-1850 نهوضا اقتصاديا محليا أي دون تأثير خارجي من الرأسمالية الغربية ‏‏(وهي فترة مقاربة تقريبا للفترة التي أتخذها سبولدينق كأساس لتحليله).‏ في نفس الاتجاه نلاحظ التشابه أو التماثل في المقاربتين، فقد أرجع سبولدينق التغيير الاقتصادي ‏لدور رجال الدين في التغيير الاقتصادي، وهو مماثل ما ذكره غران في تحليله حول دور الفهم ‏الجديد أو التأويل للنصوص الدينية في حدوث نهضة رأسمالية في مصر خلال فترة الحكم ‏العثماني بالإضافة، إلى ترافق ذلك مع ظهور طبقة وسطى من التجار. من ناحية أخرى اعتمد كل ‏من سبولدينق وغران على منهج تحليل المحتوى، فقد اعتمد غران على تحليل كتابات العطار ‏والجبرتي لإثبات التغيير في المفاهيم، في المقابل اعتمد سبولدينق في تحليله على كتابات الرحالة ‏وعلى الوثائق السلطانية ووثائق المحاكم. الجدير بالذكر أن مقاربة غران قد وجدت قبولا لدى ‏البعض مثل ما ورد في كتاب د. نللي حنا، "ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية إلا أنها ‏وجدت بعض الانتقادات من بعض المفكرين من أبرزهم وجيه كوثراني وآخرون. ‏ من ناحية أخرى قد يثار سؤال علاقة مقاربة سبولدينق حول ما حدث في سلطنة سنار مع الجدل ‏حول مفهوم "المركزية الأوربية"؟ فمن المعروف أن السردية الغربية ممثلة في "المركزية الأوربية" ‏كانت هي المفهوم السائد لمئات السنين، لتبرير ازدهار الرأسمالية في الغرب باعتباره نتيجة ‏لطبيعة المجتمع والعقلية الأوربية الراشدة، وظلت بالتالي هذه السردية الغربية مهيمنة لمئات ‏السنين. كان الجدل قد تصاعد خلال فترة السبعينات والثمانيات من القرن العشرين الجدل الناقد ‏للمركزية الأوربية. وهو الجدل الذي أثرى التراكم المعرفي بمساهمات العديد من المفكرين بالكتابات ‏المناهضة للرأسمالية والإمبريالية من أمثال المفكر الماركسي المصري سمير أمين، والعديد من ‏مفكري أمريكا اللاتينية الذين مثل فرانز فانون، وفرناندو بروديل، وإنريكي دوسيل، وإيمانويل ‏الرشتاين وغيرهما).‏ ‏ فيما يتعلق بمقاربة سبولدينق حول التغير الاجتماعي الاقتصادي السياسي في القرن السابع عشر ‏سلطنة سنار يمكن النظر إليها بأنها مناقضة للسردية الغربية/ المركزية الأوربية. حيث أن السردية ‏الغربية تقول بإمكانية حدوث نمو رأسمالي في أطراف العالم بتأثير مباشر من الرأسمالية الغربية، ‏وهو مناقض لما حدث في سلطنة سنار بناء على تحليل جاي سبولدينق. هذه محاولة ‏لاستصحاب ديناميات الاجتماعية والاقتصادية المحلية وتاريخنا السياسي ضمن الجدل الفكري ‏العالمي حول دور الرأسمالية الغربية تاريخيا.‏

[email protected]

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: عصر البطولة فی رجال الدین التغییر فی العدید من مع الخارج فی تحلیل من خلال فی کتاب

إقرأ أيضاً:

الغرب يُسلّح “إسرائيل” ويُرسل الطحين ببطاقات عبور

 

في عالم باتت فيه الكلمة تُصاغ بمداد القوة، لا بالحقيقة، تتحول الكارثة الإنسانية في غزة إلى مشهد رمزي يكشف زيف النظام الدولي، وانهيار القيم التي طالما تباهى بها الغرب: حقوق الإنسان، القانون الدولي، العدالة. إذ بينما تمطر الطائرات «الإسرائيلية»، بدعم عسكري أميركي وأوروبي سافر، أحياء غزة بالصواريخ، تُرسل بعض الدول الغربية -بمنتهى النفاق- شاحنات طحين عبر مؤسسات دولية، محكومة ببطاقات عبور، إلى أولئك الذين نجوا من المجازر إلى حين.

إنّ المعضلة هنا ليست فقط في التواطؤ، بل في التأسيس لمنظومة إبادة جديدة، لا تتجلى فقط في أدوات القتل، بل في أدوات «المساعدة». لقد تحوّل الطحين إلى أداة سياسية بامتياز، يُوزّع بحذر شديد، ويُقرَّر من يستحقه ومن يُترك للجوع، كل ذلك تحت شعارات «العمل الإنساني»، في الوقت الذي تتكدّس فيه مخازن الأسلحة الأميركية في قلب فلسطين المحتلة، ويُمرَّر الدعم العسكري تحت بند «الدفاع المشروع عن النفس».

التجويع.. من الإبادة الصامتة إلى أداة الضبط الجيوسياسي

منذ بداية الحرب على غزة، كان من الواضح أنّ «إسرائيل» لا تستهدف المقاومة الفلسطينية فحسب، بل تخوض حربًا شاملة على المجتمع الفلسطيني، بكل مكوّناته. والغرب، بدلاً من أن يلجم هذا السعار الدموي، يزوده بكل ما يحتاجه للاستمرار: الغطاء السياسي، الدعم المالي، والمعدّات العسكرية.

لكنّ أخطر ما في هذا المشهد، هو «إدارة التجويع» بوصفها شكلاً متقدماً من الحرب النفسية والاجتماعية. لم تعد المجازر وحدها كافية لتروي عطش «المؤسسة الأمنية الإسرائيلية»، بل بات المطلوب تفكيك بنية المجتمع الفلسطيني بالكامل، عبر إيصاله إلى حافة الانهيار البيولوجي، ثم تقديم فتات المعونة بوصفه منّة دولية مشروطة.

في هذا السياق، لم تعد المساعدات تُرسل لرفع المجاعة، بل لضبطها. يُراد للموت ألا يكون شاملًا، بل انتقائيًا، منظّمًا، يمكن التحكم بإيقاعه ومساحته، بحيث يُبقي على غزة على قيد الحياة، بالكاد.

الطحين المشروط.. »الهولوكوست المدني« بنسخة ناعمة

حين يُمنح الفلسطيني في غزة كيس طحين فقط بعد أن يتعرض لإذلال مرير، ويُطلب منه السير لكيلومترات ما بين الركام، وتحت تهديد القنص، للوصول إلى مركز توزيع تسيطر عليه «إسرائيل» أمنياً، فهذا ليس «إغاثة»، بل نموذج دقيق لـ»الهولوكوست المدني» بنسخته الحديثة: لا غرف غاز، بل حفر رملية (الجورة) يُنتظر فيها «إذن الحياة».

هذا النموذج يُدار تحت شعار الإنسانية. ولكن أيّ إنسانية تلك التي تُرشد طائرات الاستطلاع الغربية، والطائرات «الإسرائيلية»، جموع الجياع نحو مركز الإعدام؟ وأي عدالة حين يُستشهد العشرات أثناء انتظارهم للغذاء، بينما لا يُحاسب أحد؟

إنّ ما يُسمّى بـ»الإنزال الجوي للمساعدات» ليس سوى صورة فاقعة من صور التواطؤ بين آلة القتل «الإسرائيلية» والهيئات الدولية التي ارتضت أن تتحوّل من أدوات إنقاذ إلى أدوات تلميع. فالاحتلال، الذي أغلق المعابر، ودمّر البنية التحتية الصحية، وجرّد مليونَي إنسان من شروط الحياة الأساسية، يدّعي فجأةً أن له دورًا «إنسانيًا» في إسقاط عُلب غذاء من السماء. هذا الفعل، بحد ذاته، يُعيد إنتاج منطق الاستعمار الخيري: الجلّاد يلبس قناع المُنقذ، في الوقت الذي يُمسك فيه بخنجر الحصار في يده الأخرى. لا يكفي أن نُدين محدودية المساعدات أو انعدام فعاليتها، بل علينا أن نُفكك بنيتها السياسية، لأنها لم تأتِ خارج سياق الإبادة، بل كجزء منها. فهي لا تعالج الجوع، بل تُديره. لا تنهي الحصار، بل تُعطيه شكلاً مقبولًا في أعين المتفرجين. إنها ليست خطّة طوارئ، بل سياسة ممنهجة لإبقاء القطاع تحت السقف الأدنى للحياة، بما يسمح باستمرار المشروع الاستيطاني دون حرج أخلاقي أمام الكاميرات.

الغرب الرسمي.. ديمقراطيات تموّل المجازر وتكتب بيانات إنسانية

الدول الغربية تعرف، بكل تفاصيلها، ما يجري في غزة. ليس لأنّ الفلسطينيين أو الإعلام المستقل يبلّغونهم، بل لأنّ طائراتهم وجنرالاتهم وخبراء أمنهم موجودون في الميدان. هم لا يجهلون الإبادة، بل يديرونها.

وحين تصدر بيانات من الاتحاد الأوروبي تدعو إلى «تحسين الوضع الإنساني» في غزة، أو تُفرض عقوبات شكلية على وزراء من أمثال بن غفير وسموتريتش، فإنّ الغرض ليس وقف الجريمة، بل التخفيف من ثقلها الأخلاقي على الرأي العام الغربي، الذي قد يستفيق للحظة. لكنّ هذه العقوبات، كما في العراق سابقًا، لا تُفرض على الدولة المعتدية، بل على هوامشها، ولا تمسّ جوهر المشروع: التجويع المُمنهج كسلاح شرعي.

وفي المحصلة، يُعاد تعريف القانون الدولي ليخدم بنية الهيمنة: ما يُعدّ «جريمة حرب» في أوكرانيا، يُصبح «تكتيكًا عسكريًا مشروعًا» في غزة. أما محكمة العدل الدولية، فتبقى أداة انتقائية لا تصمد أمام «الفيتو الأخلاقي» الأميركي.

الغذاء كسلاح استعماري.. التاريخ يعيد إنتاج نفسه

ليس ما يجري في غزة استثناءً، بل استمرارٌ لنمطٍ إمبريالي مألوف، حيث يُستبدل القصف بالتجويع، وتُغلف الإبادة بورقٍ إنساني مصقول. لقد فعلها الغرب والأمريكيون من قبل في العراق، حين أُخضِعَ شعبٌ بأكمله لحصارٍ دمّر البنية التحتية الصحية والتعليمية، وقُدّرت آثاره بمقتل نصف مليون طفل، وهو رقمٌ وصفته وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت آنذاك بأنه «ثمنٌ مستحق». وفي السودان، جُعل الغذاء مشروطًا بالولاء السياسي، وغُذّيت الانقسامات الداخلية عبر تجويف المجتمعات من الداخل. في كل مرة، يظهر الغرب كمن «يحاول المساعدة»، بينما يُبقي يده على صمّام الحياة، يفتحه ويُغلقه حسب مصالحه الجيوسياسية. فالتجويع ليس خللًا طارئًا، بل أداة متعمدة لإخضاع الشعوب وتفكيك قدرتها على الصمود والمقاومة.

الصمت العربي.. تواطؤ يشرعن الجريمة

وفي مواجهة هذا المشروع، تبدو الأنظمة العربية -خصوصًا الدول ذات الوزن الجغرافي كالسعودية ومصر والأردن- عاجزة أو متواطئة. القرارات الصادرة عن القمم الإسلامية والعربية بقيت حبرًا على ورق. لماذا؟ لأنّ المعضلة ليست في عدم القدرة على إرسال المساعدات، بل في الخوف من كسر التوازنات التي تُبقي هذه الأنظمة آمنة تحت المظلة الأميركية.

إنّ المساعدات تكدّست على الجانب المصري من الحدود، لا لأنّ مصر غير قادرة على إدخالها، بل لأنها لا تملك الإرادة السياسية لمواجهة ما يُعتبر «الخط الأحمر الإسرائيلي-الأميركي». وهذا الصمت، أخطر من القصف، فهو يمنح الإبادة شرعية عربية، يُوظّفها الغرب في خطاباته ليقول: «حتى العرب لا يعارضون ما يحدث».

بين الطحين والسلاح.. الغرب يُعرّي ذاته

لقد بات واضحًا أنّ الغرب، في صيغته الحالية، لا يمثل نموذجًا أخلاقيًا ولا مرجعية قانونية. إنه تحالف سلطوي، يُعيد إنتاج الهيمنة بأشكال متجددة. يُسلّح «إسرائيل» بأحدث أدوات القتل، ثم يُرسل الطحين على دفعات، محكومًا ببطاقات عبور، كي يبقي على الفلسطينيين في مستوى الصراع الأدنى: صراع البقاء لا التحرير.

لكنّ التاريخ لا يُكتب فقط من غرف مجلس الأمن، بل من الساحات. وإذا كان الغرب قد نجح في تحويل غزة إلى مختبر للإبادة، فإنّ ما بعد غزة، سيكون اختبارًا حقيقيًا للشعوب، لا للحكومات.

فما لا تستطيع الدول قوله، يجب أن تقوله الشعوب. وما لا تجرؤ الأنظمة على فعله، يجب أن يفعله الناس. وإلا فإنّ الطحين سيظل يُرسل ببطاقات عبور، فيما السلاح يُمنح بلا حساب، وتُكتب النكبة مجددًا باسم الإنسانية.

كاتب صحفي فلسطيني

 

مقالات مشابهة

  • كتاب يعيد قراءة سقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين
  • الغرب يُسلّح “إسرائيل” ويُرسل الطحين ببطاقات عبور
  • أستاذ “الجالون”..
  • مشروع الانبعاث الحضاري وصناعة الوعي.. مشاتل التغيير (29)
  • “الأدب والنشر والترجمة” تُطلِق النسخة الرابعة من “كتاب المدينة” بمشاركة أكثر من 300 دار نشر
  • “صمود” يعقد اجتماعات مغلقة في أبوظبي
  • الضم الإسرائيلي للضفة الغربية: فشلٌ متكرر للنظام الدولي (قراءة قانونية)
  • سلمى المبارك تلتقي أعضاء المكتب التنفيذي لمسار الوسط بولاية سنار برئاسة هجو
  • العمري: النصر يُدار اليوم بفكر اللاعب الماركة “رونالدو”
  • قراءة في كتاب "القواسم في عُمان" للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي