كربلاءُ آل الرميمة.. مظلوميةٌ تأبى النسيان
تاريخ النشر: 17th, August 2024 GMT
كتب /دينا الرميمة
دفقةُ أحزان تملاؤنا حتى أقاصي الروح، وتستحضر فينا ذكرى تتشبث بها قلوبنا المتخمة بأوجاعها حَــدّ الترف وفاءا لدماء سفكتها يد الخيانة والجحود، وبذات الوقت تتمنى لو أن للنسيان سوقًا تبتاع منه جرعة تنهي صلاتنا في محراب الحزن!! مثل هذا التناقض الذي يدمي الروح ويخنق العبرات بالعيون يجعلني مع حلول يوم الذكرى افتح محفظة المأساة واقلب في أحداثها لأتلو لكم يا سادة بعضا منها، حَيثُ لا يتسع المقام لذكرها كاملة لعلي بذلك أحرك المياه الراكدة حول المظلومية المظلومة إعلاميا ربما دون قصد، لكنها وبأدق تفاصيلها لا تزال تنزف بها قلوبنا وجعا طريا على الرغم من أنها بلغت من العمر سنوات تسع.
وربما كانت هذا العام أكثر حُضُورًا في الوجدان في ظل الحرب التي تخوضها غزة نرى أنفسنا في كُـلّ روح تزهق ودموع أم تحتضن أبنائها شهداء وغربة نسائها الفاقدات رجالهن وأماكن تلم أحزانهن!
قد يكون مثل هذا الشعور يلازم الكثير في يمننا الحبيب الذي على ذات غارة وصاروخ فجع أبناؤه بحرب تذبحهم وتستبيح أرضهم دون ذنب، غير أن آل الرميمة كان نصيبهم منها مضاعف وأنا هنا لا أقلل من معاناة أحد إنما واقع الحال يشهد بذلك، حَيثُ وإلى جانب وجعهم على مصاب وطنهم المغدور به، كانوا على موعد مع حرب أُخرى وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مجبرون على خوضها ترشقهم سهام الحقد من كل جانب على أرض لطالما تغنت بقصائد الصوفية في الحب والسلام ومنذ أكثر من قرون ثمانية سكنها جدهم الأول أحمد بن علي الرميمة وكان له ولأبنائه فضل في تعميرها ونشر العلم فيها وخير لا ينكره إلا جاحد!!
لكنها فجأة تنكرت لهم وحرمت عليهم منذ أن تلوثت عقول أبنائها بالإسلام الوهَّـابي الذي غزى كُـلّ المدن اليمنية غير أن تعز التي أحاطها النظام السابق بالفقر والتهميش كانت الأكثر تأثرًا به وتحت تأثير المال الممنوح من جمعيات تابعة للسعوديّة، أصبحت شوارعها تعج بأصحاب اللحى الطويلة وعلى منابرها يصدحون بخطب يحرمون ويبيحون ويكفرون تحت مظلة دين وهَّـابي زرع الحقد ورائحة الدم والبارود في ضواحيها وجبالها بديلا عن مشاقرها ووردها، خَاصَّة مع انطلاق عاصفة العدوان التي جعلت من تعز ملتقى سيل لكل من نبذتهم مدنهم الرافضة للعدوان وعليها حطوا رحالهم لتنفيذ أجندة أربابهم في تمزيق النسيج اليمني بما حملوه من سلاح المناطقية والطائفية إلى جانب السلاح العسكري وكان آل الرميمة وجهتهم الأولى.
وَإذَا ما جئنا لنبحث عن السبب الذي جعل دواعش تعز يحيطون آل الرميمة بالمكر ودائرة العداء فلن نجد سوى النسب الهاشمي الذي كرمهم الله به تكليفا لا تشريف عاشوا به مع بقية القبائل بسلام وعقول تطهرت من رجس الوهَّـابية وامتلأت بالثقافة القرآنية والوعي الذي أحدثه السيد حسين بدر الدين الحوثي،
أضف إلى وطنيتهم التي أشعلت قلوبهم غيرة على اليمن فانطلقوا إلى الجبهات للتصدي للغازي حاملين أرواحهم على أكف الشهادة!! مثل هذه القيم والمبادئ التي حملها آل الرميمة كانت بنظر دواعش تعز آثامًا وجب عليهم تطهير تعز من حامليها،
فبدأوها بحملة تشويه ضدهم مثل سب الصحابة ونساء النبي والتغيير في الدين وأطلقوا عليهم لقب الحوثة والمجوس والرافضة!
اتبعوها بالمكائد التي من شأنها إشعال نيران الحرب وأطبقوا عليهم حصار خانق.
وأمام هذه الهجمة الشرسة لم يكن أمام آل الرميمة إلا التصدي لها رغم قلة العدد والعدة مقابل عدد وعدة عدوهم بما حملته قلوبهم من مبادئ ثورة جدهم الحسين دفاعا عن الأرض والعرض وقيم الدين المحمدي الأصيل، فقاتلوا وارتقى منهم الكثير شهداء سواء من المرابطين أَو من الأطفال والنساء الآمنين في منازل باتت أهداف عسكرية للقناصة وأحرق ونهب الكثير منها،
ومع أن الوضع كان صعبا، حَيثُ لا صوت إلا صوت الرصاص وتكبيرات داعش وسواطير تحد وحياة لا تعرف إلا الموت وروائح الدخان لأكثر من شهر ونصف إلا أنها لم تزد آل الرميمة إلا صمودًا وثباتًا ونصرا طبعوه على جباه أرضهم بزنود الإرادَة التي الحقة الهزائم بالأعداء ما جعلهم يلجؤون إلى المكر والخديعة بالمنادَاة لصلح يحقن الدماء ويحفظ علاقة الجوار والأُخوَّة ولم يجد آل الرميمة من سبيل إلا القبول بالصلح في محاولة لإنهاء مأساة الجرحى والحصار.
فذهبوا لعقده في المكان المحدّد بتاريخ ١٦/٨/٢٠١٥ عزلًا من السلاح واثقين بالعهود والمواثيق التي طبعت ببصمات الأصابع على وجوه تقنعت بالسلام زيفا وزورا !
ولم يكونوا على علم بأن مشانق الموت قد نصبت لهم وصحائف كتبت عليها أسماؤهم وجرائم الصقت بهم منهم من وصل إليها وعليها أعدم،
ومنهم من أعدم قبل أن يصل وترك جثة مرمية في قارعة الطريق،
لتتفاجأ النساء بتكبيرات تشق الأرجاء بتحقيق النصر والقضاء على المجوس من آل الرميمة أسرى ومختطفي حرب في جريمة منافيه لكل قيم الدين والأعراف!
حينها لم يكن أمامهن إلا أن يتلحفن بصبر وشجاعة زينب الحوراء بالطف لمواراة شهدائهن الثرى ممن استطاعت أياديهن إلى جثثهم، بينما بقية الجثث لا تزال مجهولة الأثر حتى اليوم بعد أن مورس بها جريمة التمثيل والسحل بطريقة داعش الموصل.
فكانت جنازةً لم يشهدها تاريخ اليمن من قبل في موقف عز فيه رجال الرجال وانهالت فيه عليهن رصاصات المتربصين وألسنة تقذفهن بقبائح الصفات وتتوعدهن بالسبي ومحو أثر من تبقى بين أيديهن من أطفال خرجن بهم خائفات يترقبن مصير ينتظرهن تحت كُـلّ حجر في أرض حوت مأساة يقف أمامها التأريخ خجلا ليدونها بحبر من دم وعار يلاحق تعز التي ألبست ثوبا داعشيا وعبث الارتزاق في أحشائها الطاهرة ودمّـر كُـلّ أثر تأريخي عليها وأضرحة الأولياء على رأسها ضريح السيد الرميمة!
ثم بعد معاناة وخوف كان الملتقى في صنعاء مع من تبقى من رجالهن ممن كانوا في جبهات العزة!!
وبمواقفهن الثابتة استطعن إخراج بعض الأسرى بصفقة تبادل ممن شاءت الأقدار أن يبقوا أحياءً ليكونوا شهود عيان على الجرائم التي تمارس بحق الأسرى وما تسببته لهم من عاهات أودت بحياة الكثير منهم في دلالة على منهجية هؤلاء الذين بحمد الله لم يتمكّنوا من صنعاء التي احتضنت الجميع كأم رؤوم!
ويبقى السؤال الذي نكرّره في كُـلّ ذكرى أمام المحافل الدولية حول المصير المجهول لبقية الأسرى إن كانوا قد ذبحوا مع من ذبحوهم أم لا يزالون يتجرعون الموت البطيء حتى اللحظة؟!
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: آل الرمیمة
إقرأ أيضاً:
في اليوم الذي يسمونه يوم القدس
في اليوم الذي يسمونه "يوم القدس"، لا يتم الاحتفاء بالقدس وإنما تتعرض البلدة القديمة للتدنيس، حيث تتحول مسيرة العلم الإسرائيلي، التي تنظم سنوياً تحت راية الفخر القومي إلى مشهد من مشاهد الكراهية التي لا حدود لها.
وهذا العام انحطت إلى قعر الخسة والفجور.
أوردت صحيفة هآريتز أن الفتيان الإسرائيليين انطلقوا في مسيرة عبر الحي الإسلامي وهم يهتفون "الموت للعرب"، "امسحوا غزة"، "لا توجد في غزة مدرسة، لم يبق فيها أطفال". كانت صواري الأعلام تدق في الأبواب العتيقة، بينما ينهال المشاركون في المسيرة بالسباب والشتائم على النبي محمد ويسخرون من ذكرى فلسطين.
لم يُلق القبض على أحد بتهمة التحريض.
في يوم القدس يتم فعلياً تجميد قانون التحريض، وتصبح الكراهية سلوكاً تحض عليه الدولة. ما تنطلق به الحناجر من شعارات ليس هتافاً موجهاً ضد حماس، وإنما إعلان حرب على العرب والمسلمين – وعلى روح المدينة نفسها.
وعلى النقيض من المزاعم بأن هذا من فعل مجموعة هامشية، تبدو الحقيقة أكثر بشاعة. فكما يلاحظ صحفي هآريتز نير حسون، الهاشميون ليسوا العنصريين، وإنما أولئك الذين يرفضون الانضمام إليهم.
وحتى المنظمات المتحالفة مع التيار اليميني السائد، مثل إم ترتوز المنتسب إلى الليكود، انطلقت عناصرها وهي ترفع لوحات كتب عليها "لا نصر بلا نكبة". تلقى مسرح الكراهية هذا تمويله بشكل مباشر من بلدية القدس، التي خصصت 700 ألف شيكل (ما يعادل 200 ألف دولار) – بدون مناقصة عامة – لدعم منظمي المسيرة.
الغزو والتطهير
هذه ليست فورة عاطفية، وإنما عقيدة قيد التطبيق، واستعراض للاهوت يقوم على الاعتقاد بالتفوق العنصري على الآخر، تتواجد في القلب منه رؤية تنبؤية ليس من أجل إقامة السلام أو التعددية وإنما من أجل الغزو والتطهير.
من أبرز مهندسي هذه الرؤية الحاخام إسحق غينزبيرغ، الأب الروحي لما يسمي "شباب رؤوس التلال"، وهي مليشيا مكونة من المستوطنين، تمارس العنف قتلاً وإفساداً في مختلف أرجاء الضفة الغربية. يشيد غينزبيرغ علانية بباروخ غولدستين الذي ارتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل في عام 1994 وأزهق أرواح 29 فلسطينياً بينما هم ركوع في صلاة الفجر بالحرم الإبراهيمي. بل نشر غينزبيرغ كتابات يحض فيها على قتل نساء وأطفال غير اليهود.
وكان غينزبيرغ قبل عقدين اثنين من الزمن قد ألقى خطبته الشهيرة بعنوان "حان الوقت لكسر الجوزة"، حيث شبه إسرائيل بثمرة محاطة بأربعة أغلفة – تتكون من الدولةل العلمانية ومؤسساتها – كانت لها من قبل غاية ومبررات، ولكنها باتت الآن عقبة تعيق الخلاص.
أعلن في خطبته أنه ينبغي تدمير هذه الأغلفة، ألا وهي الإعلام، والقضاء، والحكومة، والميثاق الأخلاقي للجيش. فقط من خلال القضاء عليها يمكن أن يبرز اللب الخالص للتفوق اليهودي ويمكن للعهد المهدوي أن ينطلق.
هذه ليست حالة من الفوضى وإنما عملية منظمة قيد تنفيذ.
إن الهتافات التي تردد صداها في طرقات القدس هذا العام لم تكن تشوهات، بل أعراضاً لمنظومة تخلصت من رداء الديمقراطية العلمانية. وما تبقى منها غير قومية عرقية ومهدوية معراة، رؤيتها مستمدة من سفر الرؤيا، وتوجهاتها تشي بارتكاب الإبادة الجماعية.
من الوزراء اليمينيين المتطرفين إيتامار بن غفير وبيزاليل سموتريتش، لم تعد النزوة مقصورة على الهمس، بل باتت تذاع على الملأ. في هذه الأثناء، انطلق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عبر نفق "طريق الحاج" تحت المسجد الأقصى، معلناً أمام طلاب المعاهد الدينية اليهودية: "سوف تنطلقون من هناك وتخرجون [إلى الهيكل]."
إلا أن سموتريتش، كعادته، كان أكثر صراحة، فقد أعلن في نفس ذلك اليوم، متحدثاً أمام جمهور من الأتباع المتحمسين: "بعون من الرب، سوف نوسع حدود إسرائيل، ونحقق الخلاص التام، ونعيد بناء الهيكل ههنا."
إن الدعوة إلى بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى ليست مجرد انتهاك للوضع القائم، وإنما هي إعلان شامل للحرب الدينية، الأمر الذي يتبدد معه وهم التعايش، وذلك أن المشروع الصهيوني ليس إعلان حرب على المسلمين فقط، وإنما هو حرب معلنة على المسيحيين كذلك. ها هو الوجود المسيحي في القدس – بكل عراقته وأصالته وقدسيته – يتعرض للاستئصال بشكل منتظم.
حقبة جديدة
في وقت مبكر من عام 2023، أي قبل شهور من السابع من أكتوبر، حذر زعماء الكنائس من الهجمات المتصاعدة، ومن الاستيلاء على الأراضي، ومن الحصانة من المساءلة والمحاسبة التي تمنح لمن يرتكبون ذلك.
أعلن الأب دون بيندر، من كنيسة القديس جورج، قائلاً: "إن العناصر اليمينية المتطرفة عازمة على تهويد البلدة القديمة." أما الكاردينال بيتزابالا فقال إن عام 2024 كان "أسوأ فترة عشتها على الإطلاق." وبحلول عام 2025، مُنع المسيحيون من حضور الصلوات في عيد الفصح، وارتفع منسوب المضايقات التي يواجهونها والاعتداءات التي تتعرض لها ممتلكاتهم وأعمال التخريب. وغدا البصق على المسحيين روتينا، بحث عليه بن غفير ويصفه بأنه "تقليد يهودي".
هذه ليست أعمالا معزولة، بل جزءا من حملة منظمة. فالصهيونية لا تسعى فقط إلى الهيمنة على المدينة، وإنما إلى مسح خصائصها العربية والإسلامية والمسيحية كذلك.
ما نشهده ليس مجرد عنصرية، بل تهويد، مشروع الغاية منه إعادة تشكيل المدينة لتجسد عقيدة التفوق العرقي اليهودي.
ومع ذلك ثمة نموذج آخر ينبع لا من القهر بل على التعايش. في القرن السابع، كانت القدس المدينة الوحيدة التي شد إليها الخليفة عمر بن الخطاب الرحال لتسلم مفاتيحها، نزولا عند طلب زعيمها الديني المسيحي البطريرك صوفرونيوس. رفض عمر الصلاة داخل كنيسة القيامة خشية أن يراه المسلمين فيستحوذوا عليها لاحقا، وأدى الصلاة بدلاً من ذلك بتواضع على الدرجات في الخارج، ثم ألصدر مرسوماً بتحريم مصادرتها.
بل سمح العهد الإسلامي الجديد في القدس لليهود بالعيش في المدينة بعد أن كان ذلك محظوراً عليهم لعقود تحت الحكم البيزنطي. في كتابه بعنوان "التاريخ المقتضب لإسرائيل"، يلاحظ المؤلف بيرنارد ريتش أنه "منذ بداية الحكم الإسلامي، استؤنف التواجد اليهودي في القدس، ومُنح المجتمع اليهودي الإذن بالعيش تحت "الحماية"، وهو الوضع المتعارف عليه لغير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي، والذي يصون حياتهم وممتلكاتهم وحريتهم في العبادة، مقابل دفع جزية خاصة وضرائب على الممتلكات."
بعد ذلك بقرون، وفي ظل تنازع الطوائف المسيحية على أحقية الإشراف على الكنيسة، عهد السلطان صلاح الدين بمفاتيح نفس تلك الكنيسة إلى عائلتين مسلمتين، آل جودة وآل نسيبة، ظلتا على مدى 850 عاماً هما من يفتح ويغلق أبوابها بكل إخلاص ونزاهة.
"القلق الصليبي"
هذه هي القدس كما ينبغي لها أن تكون، مدينة الأمانة لا الهيمنة، والتوقير لا التطهير.
إلا أن المعركة على روح القدس لم تنته، بل إنه الصراع الأكثر رمزية على الإطلاق، بين الغزاة وأهل البلاد، بين دعاة الإقصاء ودعاة الاستيعاب، بين عقيدة استيطانية استعمارية تعبد النقاء الخالص عبر العنف، ومدينة كانت عظمتها ذات يوم ثمرة تعدديتها المقدسة.
ثمة تشابه مع الحروب الصليبية. ففي عام 1099، اجتاحت جيوش الصليبيين القدس وذبحت الآلاف من المسلمين واليهود. واليوم، ها هم الصهاينة يرددون نفس منطق الصليبيين، ويستعيدون صورهم، وينهجون سبيلهم. من إيماءات نتنياهو حول الهيكل إلى عقيدة الإبادة التي يحملها غينزبيرغ، ها هي الصليبية تنبعث من جديد.
إلا أن ممالك الصليبيين تهاوت. فقد حرر صلاح الدين القدس من الصليبيين بعد ثمانية عقود من الاحتلال، وانهارت المغامرة الصليبية بأسرها خلال قرنين، تاركة خلفها ندوباً عميقة، وفي نفس الوقت عزماً قوياً وثابتاً على مقاومة الغزاة.
يشعر الجنود الإسرائيليون أنفسهم بهذه المقارنة. كتب المؤرخ ديفيد أوهانا يقول إن "القلق الصليبي" يطارد النفسية الإسرائيلية – إنها الخشية الدفينة من أن الصهيونية، كما كان حال سلفها في القرون الوسطى، قد تنتهي ذات يوم وكأنها لم تكن من قبل. وهذا حق، لأن القدس لا تجوز لمن ينتهكون حرمتها.
قد تحترق غزة، وقد تنزف الضفة الغربية، ولكن تبقى القدس هي درة التاج. مهما بلغ توحش الصهيونية، فإنها لن تتمكن من طمس ما تشكل بفعل التاريخ والجغرافيا والعقيدة. تعيش فلسطين في قلوب الملايين، والقدس ليست على الهامش من ذلك، بل إنها تتربع في القلب من العالمين العربي والإسلامي.
مهما حفر الصهاينة من أنفاق، ومهما رفعوا من أعلام، ومهما بثوا من أحقاد، سوف يستمر الفلسطينيون في الإنشاد، كما غردت ذات يوم المغنية اللبنانية المسيحية فيروز "يا قدس، يا مدينة الصلاة. عيوننا إليك ترحل كل يوم. تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد .... وبأيدينا سنعيد بهاء القدس، بأيدينا للقدس سلام."
قد تكون مسيرة الكراهية صاخبة اليوم، ولكنها سوف تصمت يوماً لا محالة. وفي ذلك اليوم سوف تتحرر القدس من الاحتلال ومن الغلو ومن العنصرية، وسوف تعود إلى أهلها، لم تنكسر روحها، ولم تُنتقص قدسيتها.