صحيفة الاتحاد:
2025-06-12@05:02:03 GMT

ناجون من مقاومة المضادات الحيوية يروون تجاربهم

تاريخ النشر: 27th, September 2024 GMT

يُتوقَّع أن تودي مقاومة المضادات الحيوية، التي غالبا ما يُستهان بها، بحياة 39 مليون إنسان في الربع المقبل من القرن.
لهذا السبب، صادق رؤساء الدول والحكومات، أمس الخميس، على إعلان سياسي يعنى بمقاومة مضادات الميكروبات وذلك خلال الاجتماع رفيع المستوى الذي عقدته الأمم المتحدة على هامش الدورة الـ 79 للجمعية العامة.


وقبل الاجتماع رفيع المستوى في نيويورك، تحدث ثلاثة ناجين من هذه المشكلة الصحية عن تجاربهم.
في أكتوبر 2020، انزلق الطبيب البيطري جون كاريوكي موهيا في حمامه في نيروبي عاصمة كينيا، وكسر أحد عظامه. فخضع لعملية جراحية لوضع دبابيس في مفصله.
ويقول "مباشرة بعد العملية، أصبحت مريضا جدا". فأُعطِيَ سلسلة كاملة من المضادات الحيوية، لكن من دون جدوى. والسيناريو نفسه حصل بعد عملية إزالة الدبابيس. وبات أطباؤه يخشون أن يموت. في تلك المرحلة، أصيب بمرض كوفيد-19 الناجم عن العدوى بفيروس كورونا المستجد. ويضيف "كنت أحارب من أجل البقاء".
بعد خمسة أشهر أمضاها في المستشفى، عاد إلى منزله لكنه بقي طريح الفراش. ويعتبر أنه كان "محظوظا" لأنه درس في السابق مقاومة مضادات الميكروبات واشتبه في أنه يواجهها.
فأجرى اختبار الحساسية للمضادات الحيوية على 18 مضادا حيويا مختلفا، وتبيّن أنّه يعاني حساسية على إحداها. وفي نوفمبر 2021، أُعلن شفاؤه.
لكنه بات "معوقا مدى الحياة"، إذ قصرت ساقه اليمنى بمقدار ثمانية سنتيمترات تقريبا. ويؤكد كاريوكي موهيا "نحن جميعا معرضون للخطر"، داعيا إلى التحرّك لمواجهة هذه المشكلة الصحية.
بالنسبة إلى أنطوني داركوفيتش، بدأ كل شيء في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين خلال ممارسته رياضة البيسبول، عندما أصيب بتمزق في الكفة المدورة في كتفه الأيمن، وهي إصابة "غير بليغة" نسبيا للأطباء، على ما يقول هذا الرجل البالغ 34 عاما والذي يعيش حاليا في مدينة نيويورك الأميركية.
- مقاومة خطرة للمضادات الحيوية
خضع داركوفيتش لسلسلة من العمليات الجراحية لتعود كتفه إلى طبيعتها ووقف الألم. وقبل كل عملية، كان يتم إعطاؤه مضادات حيوية شائعة للوقاية من أي عدوى محتملة. بعد العملية السابعة، اكتشف الأطباء وجود عدوى مقاومة للمضادات الحيوية في كتفه. ويقول إن "كل عملية أدت إلى زيادة انتشار العدوى".
وخضع داركوفيتش لاثني عشر تدخّلا صحيا آخر لإزالة "المواد المصابة"، بينها براغ وغضاريف. كان مفصله "مدمرا بالكامل"، واستبدل كتفه بطرف اصطناعي. ويأمل أن يتمكن يوما ما من "رفع ذراعه إلى علوّ الكتف".
وتختلف حالته عن حالات كثيرة أخرى لأن البكتيريا التي أصابت كتفه عادة ما تكون حميدة، وتسبب ظهور حب في البشرة. ولكن بما أنها أصبحت مقاومة للمضادات الحيوية، انتشرت في المفصل وتسببت بتلفه.
يقول داركوفيتش، الذي أصبح من المدافعين عن المرضى المصابين بعدوى مقاومة للمضادات الحيوية "نحن في عالم يمكننا غالبا فيه معالجة أنواع كثيرة من العدوى بفعالية كبيرة، ولكن مع مقاومة المضادات الحيوية، لم يعد هذا السيناريو قائما".
كانت بهاكتي تشافان قد أنهت حديثا دراستها في بومباي بالهند عام 2017 عندما لاحظت تورّما في رقبتها. فوصف لها طبيبها مضادات حيوية لكنّ التورم لم يتقلّص، وفق ما تقول هذه الباحثة البالغة 30 عاما.
بعد إجراء بعض الاختبارات، شُخّصت بالإصابة بمرض السل المقاوم للأدوية، وهو شكل شائع وخطر من الأمراض المقاومة للمضادات الحيوية.
لم تنجح مجموعة من الأدوية تناولتها على مرحلتين في تحسين وضعها، لكنّها تمكنت من الحصول على دواءين جديدين من خلال منظمة "أطباء بلا حدود". وقد أدخلتها الآثار الجانبية، التي كانت مؤلمة في كثير من الأحيان، في حالة من الاكتئاب، وأثنتها "وصمة العار" المرتبطة بمرض السل عن الحديث عن وضعها.
بعد عامين من العلاج بثمانية مضادات حيوية مختلفة، بينها "حقن يومية مؤلمة لثمانية أشهر"، أصبحت تشافان بصحة جيدة.
لكنها تشعر بالقلق من ألا يولي قلة من الناس بمن فيهم الأطباء، أهمية كبيرة لخطر مقاومة المضادات الحيوية.
وتحذر من أنّ "هذه المشكلة الصحية قد تحدث لأي شخص".

أخبار ذات صلة قادة العالم يعتمدون إعلانا بشأن "مقاومة مضادات الميكروبات" "الصحة العالمية" تصدر أول إرشاداتها بشأن التلوث بالمضادات الحيوية الناجم عن التصنيع المصدر: آ ف ب

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: المضادات الحيوية مضادات الميكروبات مضادات حيوية مقاومة المضادات الحيوية مقاومة للمضادات الحیویة مقاومة المضادات الحیویة

إقرأ أيضاً:

«رؤيــة فلـسفيــة» السياسة الحيوية والديموغرافيا بين التنمية والسيطرة

تحتل العلاقة الوثيقة بين علم السكان (الديموغرافيا) الذي يهدف لحصر سكان دولة معينة، ومعرفة التفاصيل العُمرية وخصائصها، مثل: معدلات المواليد والوفيات ومتوسط العمر المتوقع، والتي تُستخدم هذه المعلومات من قبل الحكومات للتنبؤ بالتغيرات السكانية في المستقبل، وطرق معالجتها، وبين السياسة الحيوية، التي تعني بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984م)، قدرة الحكومات على التحكم في حياة الأفراد وأجسادهم وتنظيم السكان، والتي كانت عنوان محاضراته في الفترة من 1975 إلى 1979 في الكوليج دو فرانس، وكما تطرق إليها في مقالته عن الأمن والأرض والسكان في عام 1978م، أهمية متزايدة يوما بعد يوم؛ حيث تتخذ هذه الصيغة أشكالا مختلفة للوصول إليها ولمعرفة تفاصيلها، وذلك مع تسارع التطورات العلمية، والتكنولوجية من جهة، وأساليب السيطرة المتزايدة التي تتخذها كل دولة على حدة من الجهة الأخرى.

وفي هذا الجانب، لم تعد السلطة ودوائرها وأساليبها المختلفة مقتصرة على الجوانب التقليدية والمتعارف عليها، والمتمثلة في السيطرة والعقاب والعنف، بل تداخلت لتصل لجوانب حيوية تتعلق بحق الحياة والموت وطرق تنظيمهما والسيطرة عليهما، ووضعهما ضمن سياق معرفي ومنهجي واضح، تستطيع من خلاله بالإضافة للضبط عن طريق العقاب والإجراءات القهرية القانونية، «أن تقوم بالممارسة السيادية للسلطة على الشعب بما فيها حق السلطة في الإماتة والإحياء»، ووضع الحياة ضمن مسار مؤهل ومنُظم ومسيطر عليه تحت أعين السلطة، وضمن بياناتها المتزايدة.

تقدم هذه الورقة مدخلا فلسفيا حول التداخل بين الاقتصاد والفلسفة وفنون الحُكم ومن ضمنها ظهور الديموغرافيا التي ساهمت في بروز تحول هيكلي وبنيوي عميق في فهم السلطة وممارساتها، وتحديدا مع تصاعد الاقتصاد الليبرالي في أوروبا إبان القرن الثامن عشر وما بعدها، الأمر الذي ساهم في حدوث تغير جوهري في السلطة، والأدوار التي تقوم بها الدولة تبعا لذلك.

السلطة: تحولات المفهوم وصعود الليبرالية

مع نهاية القرن الثامن عشر، وقبيل الحرب العالمية الأولى، كان فن الحُكم كما يقول فوكو أمام مرحلة جديدة من السلطة، أسماها «حكومة الاقتصاد» وهي مرحلة جديدة، لم نخرج منها، والتي ستشهد «تطورا كاملا لممارسة حكومية تتميز، في الوقت نفسه، بالامتداد والتوسع والكثافة، مع آثار سلبية ومقاومات وثورات»، الأمر الذي همش السؤال السياسي الآخر والذي ظل مرافقا للتفكير السياسي المتمثل في الدستور والملكية والديمقراطية، وهذا لا يعني بأي حال ٍ من الأحوال اختفاء السؤال السياسي بل تراجعه لصالح الاقتصاد السياسي الذي أصبح فيه الاقتصاديون هم المحُرك الأول والناصح الأكبر للدولة، وخططها، وبرامجها المختلفة. تزامن ذلك مع ظهور مفهوم السوق بالمعنى الحديث، وبأنه مجال من مجالات الحقيقة والعدل، الذي يقع في صلب التنظيم والسيطرة من جانب الدولة، وضرورة حماية السكان الأشد فقرا بهذا التنظيم.

علاوة على ذلك، من الضروري القول في البداية بأننا أمام مقاربات ومدارس مختلفة أسهمت في تشخيص هذه التحولات، ومنها المقاربة الألمانية والأمريكية والفرنسية والإيطالية، وهي التي هيمنت في تحليلاتها، وأسهمت بتوجهاتها في ظهور وتطور هذه المفاهيم، وساهمت بطرق مباشرة في بلورة مفهوم الإنسان الاقتصادي، وأسهمت في نفس الوقت في تقليل الممارسات الحكومية العقابية التقليدية، والانتقال لصيغ مختلفة أصبحت فيما بعد ضمن الممارسات الجديدة للسلطة كما تحدث عنها فوكو في محاضراته الأخيرة.

غير أن هذه المدارس والتوجهات تتفق في الخطوط العريضة للانتقال في السلطة، «من نمط السيادة الرعوية والقانونية إلى سلطة قائمة على الحياة، أو بتعبير آخر، اهتمام السلطة بالإنسان بوصفه كائنا حيا، أو بحدوث نوع من الدولنة للبيولوجي، أو على الأقل حدوث اتجاه لما يمكن أن نسميه بدولنة البيولوجي» كما جاء في محاضراته الأخيرة من عام 71-1984م.

ترافق ذلك، مع صعود آخر في العلوم البيولوجية والحيوية التي اهتمت بدرجة كبيرة بالطب والجزيئات وصحة السكان والأنماط المعيشية وطرق تدبير حياتهم، وحمايتها، بل ومراقبتها، ووضعها ضمن أطر ومشاريع واستراتيجيات نفعية، وذات جدوى، ومن الممكن قياسها، وبناء خطط وآفاق لهذا العرق أو ذاك، غير أن الدولة لم تعد عرقية، أو تهتم بعرق واحد فقط، وتفضله عن بقية الأعراق ضمن الحدود السياسية، بل أصبحت تنظر للجميع بهذه الرؤية تجاه جميع أفرادها، الأمر الذي ساهم بدرجة كبيرة في دخول الجسد في ضمن اهتمامات الدولة من جهة، والفلسفة السياسية والاجتماعية من الجهة الأخرى، والآثار المختلفة لذلك وهو موضوع الفقرة القادمة.

السياسة الصحية وضرورات الإنتاج

في مقالته بعنوان «السياسة الصحية في القرن الثامن عشر» المنشورة في عام 1979م، يتحدث فوكو عن ظاهرة صحية، أصبحت واضحة للعيان، ومنتشرة في كل بقاع الأرض، والتي تتلخص في وجود طب خاص، «حُر» يُغري بالمبادرة الفردية، ويخضع لآليات العرض والطلب. وإلى جانبه وربما وجها لوجه معه تسيير للطب الذي قررته السلطات، ويعتمد على جهاز إداري وتؤطره الهياكل التشريعية الصارمة، وموجه للمجتمع بأسره. ليتساءل: هل من المثمر الإشارة إلى تعارض صريح بينهما؟

لكن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب العودة للتحولات التي مرت بها ليس مهنة الطب فقط، بل ظهور ما أسماه فوكو «سياسة الصحة» والتي تتميز بأشكال متعددة، ومنها على سبيل المثال:

1. توسيع توقعات الأحداث الصحية لأفراد المجتمع.

2. تضاعف لمفهوم الصحة والتي أصبحت منذ تلك الفترة قابلة للوصف والقياس وتخضع للعديد من المعطيات الرقمية، مثل التكرار، الخطورة، طرق المقاومة.

3. المتغيرات التي يمر بها المجتمع، أو لجماعة معينة، كمعدل الوفيات، متوسط العُمر، معدل الحياة، الأمراض المنتشرة في هذه الجماعة.

4. تطوير أنواع التدخل غير العلاجي، والتي تتعلق بنمط المعيشة، التغذية، والمسكن، والبيئة، وطرق التربية.

5. دخول الطب والصحة العامة للمجتمع ضمن القرارات العامة للدولة، بهدف التسيير الاقتصادي والاجتماعي لهذه المجتمعات.

وبناء على هذه العوامل، من الممكن القول بأن الرؤية العامة للصحة، بما فيها رؤية الأفراد والمؤسسات، كانت قائمة على «تقنيات المساعدة» كما يقول فوكو، وهي تقنية تقوم على مساعدة الفقراء، والإجراءات التي يُعمل بها في أوقات الأوبئة الصحية العامة، كما هو الحال في الحجر الصحي. كما كانت من الناحية الاقتصادية تحت رعاية منظمات البر والإحسان التي تتكفل بهذا الجزء المهم من العمل وتقوم بتوفير هذه الخدمة. بينما من الناحية المؤسسية كانت تُمارس في إطار منظمات دينية أو علمانية، بهدف الخير أو تقديم خدمات للطبقة المسحوقة من البشر كالجوعى، والمشردين، وأصحاب العاهات، بهدف الأجر الأخروي.

غير أن تزايد هذه السلوكيات، وانتشار الفقر وتحديدا بعد الحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض المختلفة، أثرت بشكل كبير ليس على الإنتاج العام للدولة، بل كان السؤال الأساسي هنا: كيف نجعل الفقراء «مفيدين» في العمل؟ وكيف نحولهم لعمالة منُتجة؟ وكيف نسهم في تقليص هذا العدد المتزايد منهم بما يضمن فائدتهم ليس لأنفسهم فقط بل وللخير العام؟

كانت مقولة الخير العام هي المفهوم الذي ساهم في ظهور تحديد كبير للشرطة كما كان سائدا في فرنسا، والتي تعني «مجموع القوانين والأنظمة التي تخص الشأن الداخلي في دولة ما، والتي يُنتظر منها أن تقوي وتزيد من قوتها، وستساعد في حسن استخدام قواها وتحصيل السعادة لرعاياها» كما جاء في الأدبيات الفرنسية آنذاك، وهذا يعني بأن هذه القوانين والأنظمة توسعت لتشمل ليس الأمن فقط، بل أيضا الحرص على كل ما من شأنه أن يسهم في تقوية الدولة بما فيها السكان وكل ما يتعلق بهم: كالمسكن، الغذاء، الدواء، الأسعار، الصحة، والتفاصيل الأخرى المتعلقة بالأجساد، والتي ينبغي أن تصبح تحت سمع وبصر السلطة، ولها القدرة على التحكم فيها بالتنمية والسيطرة عليها، ووضعها ضمن وحدات كمية، ورقمية، قابلة للتحليل والقياس وليسوا مجرد أفراد يتحركون بعيدا عنها، وهو موضوع الفقرة القادمة.

الجسد: من الفرد إلى التعداد

اتسعت أعين السلطة، وتزايدت أدواتها، وتوغلت في الأرض بمعرفة عدد السكان، وطبيعة أجسادهم، ولكن هذه المعرفة في بدايتها كانت تقريبية، ولم تكن شاملة، لذلك أصبح من الضروري أن يرافق هذا التوغل تحويل جسد الفرد إلى عدد من جهة، والتدخل فيه من الجهة الأخرى.

غير أن هذا العدد المتناثر من البشر ضمن الإقليم الواحد المُسمى بالدولة، من الضروري الإحاطة به، وبتحركاته، واهتماماته، بما يشمل ذلك طموحاته، والنوازع التي تُحركه، والمعوقات التي تمنعه عن الحركة في المقابل. وفي الوقت حمايته بما يضمن تقليل المخاطر التي يتعرض لها، وتهدد قيمته الإنتاجية، والحؤول أن يتحول لعبء ليس على أفراد أسرته، بل على الأجهزة المختلفة للدولة.

كما أن هذا التدخل لم يكن عشوائيا، بل كان مؤسسيا، له مناهجه، وطرقه، وقوانينه، وغاياته وأهدافه أيضا. فمعرفة العدد تقتضي معرفة التفاصيل، حيث إن الأجساد ليست متطابقة، بالرغم من وجود سياسات عامة تحكمها وتتحكم بها. وهذه التفاصيل تستوجب بطريقة مباشرة وغير مباشرة رسم مسار سكاني منذ الولادة وحتى الموت، مرورا بالتربية، والتعليم، والعمل، وحتى ما بعد ذلك، بما فيها تنظيم الأسرة، وعدد أفرادها، وجنسهم، وجيناتهم، والأمراض الوراثية التي من المحتمل أن تتوارثها هذه الأسرة بسبب أنماط سلوكية متوارثة فيما بينها، والعلاجات التي من الممكن استخدامها في تقليلها وربما اختفائها.

وبقراءة متمعنة لمؤشرات التقارير السنوية أو الدورية التي تصدر عن المراكز الوطنية للإحصاء والمعلومات في كل دولة، ومنها التقارير المحلية، نجد أنها تشتمل على تفاصيل كثيرة، توضح الوضع العام للأفراد فيها، بدءا من عدد السكان، والمناطق، والأعمار، والجنس، والناتج المحلي الإجمالي، ودخل الفرد، وعدد العاملين وغيرها من التفاصيل والأرقام، كما نجد في المقابل مؤشرات أممية، سعت الأمم المتحدة لتنفيذها بناء على خطط وبرامج مدروسة، ومنها على سبيل المثال، القضاء على الفقر، والجوع، والصحة الجيدة، والحصول على الطاقة، ومستوى العمل ونوعيته، وغيرها من المؤشرات التي تجعل الفرد ضمن رقم عددي، وضمن خطة مدروسة، وبمصطلحات فوكو والأدبيات اللاحقة، ضمن سياسية حيوية تسهم ليس في تحسين المستويات المعيشية للأفراد، ومستوياتهم التعليمية، بل وهذا هو الأهم لوضع مقاييس ومؤشرات تسهم في رفع العملية الإنتاجية الاقتصادية، والسيطرة على تحركات الأفراد ووضعهم ضمن نطاق مرئي، يهدف لعد الخروج عن الخط الرسمي المرسوم، والمعُدّ سلفا.

وبالرغم من هذه البيانات التفصيلية المهمة التي استطاعت السلطات تجميعها والحصول عليها، نجد أن الظواهر التي سعت لمحاربتها والتقليل منها، ما زالت منتشرة، بل وتتزايد يوما بعد يوم، بما فيها الأمراض، والبطالة، والجرائم، وغيرها الكثير، لتجعل ذلك مؤشرا على أن الحياة خارج السلطة بكل أدواتها وتعقيداتها، قوانينها وطياتها الداخلية والخارجية، ما زالت تحمل بين جنباتها الكثير من المفاجآت، خارج التعداد، والأرقام والمؤشرات، بما يشمل ذلك السلوكيات البشرية غير المحسوبة، وخارج توقعات السلطة، وبعيدا عن دوائرها المعقدة، من جهة، وبأن هذه التدبير الحيوي المتداخل من قبل السلطة الحيوية، كما سبق التوضيح، لم يجد بعد المنافذ الفعلية والنفعية له، من الجهة الأخرى. من هنا تأتي أهمية ومركزية الجسد في الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، والتي من الواضح تُعد تعويضا عن عدم قدرة السلطة بمعناها الحديث من السيطرة على الجانب الروحي في العصر الراهن، والذي مازال يخرج عن التوقعات والتكهنات والخطط والأرقام. ففي هذا الجانب، وعلى المستوى التاريخي والفلسفي، «لم يجد الجسد في الفلسفة السياسية المعاصرة الاهتمام الكافي بما هو مبحث فلسفي، كما هو الحال لدى مفاهيم مثل الدولة، والحرية، وأنظمة الحُكم»، وغيرها من المواضيع. وبالرغم من ذلك، نجد حضورا متزايدا له في الأدبيات الفلسفية المعاصرة بدءا من الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي(1908-1961م)، وتعمق لدى تلميذه فوكو، وتزايد حضوره في الأدبيات اللاحقة بعد ذلك، بطرق مختلفة، و من زوايا متعددة، غير أن هذا الحضور قد اتسم «بوصفه رهانا لصراعات سياسية، واجتماعية، متعددة المستويات»(نفس المرجع)، ولم يكن بمنأى عن هذا التجاذب في فضاءات الحياة العمومية، كالفضاءات السياسية، والعمل، والطب، والسلطة وغيرها.

وبناء على ما سبق، وبحسب التشخيصات الواردة أعلاه، لم تعد السلطة تقليدية، بل تحولت، وتحورت، وتغيرت أدواتها، ووسائلها، والطرق التي تسعى من خلالها للمزج بين التنمية التي تسعى للخير العام، وبين السيطرة على الفعل البشري، ولكن هذه المرة بطرق ناعمة، تبدو في الكثير من الأحيان غير مرئية، بل وأصبحت بديهية، وضرورية، لبناء الدولة. غير أن هذه الخطط والمؤشرات الناعمة ليست دائما ناجحة، بل تسير بشكلٍ متعرج، ولا تحقق أهدافها دائما، في ظل عدم تغليب جوانب الفلسفة السياسية وخطوطها العريضة وتفاصيلها المختلفة، كما أنها لا تخلو من مفاجآت خارج الخطوط المرسومة والموجهة من قبل السلطة.

مقالات مشابهة

  • أستراليا تنجح في تنمية شعاب مرجانية مقاومة للحرارة
  • «رؤيــة فلـسفيــة» السياسة الحيوية والديموغرافيا بين التنمية والسيطرة
  • أعراض مقاومة الإنسولين..كيف تحمي نفسك من مقدمات السكري؟
  • حركة المجاهدين مقاومة انطلقت مع انتفاضة الأقصى
  • روسيا.. ابتكار مستشعرات نانوية لتحليل مقاومة البكتيريا لمضادات الحيوية
  • أثر المضادات الحيوية يظهر في كل أنهار العالم بمستويات مقلقة
  • مركب جديد قد يكون الدواء القادم للبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية
  • دعوات بكافة اللغات.. متطوعون صحيون يروون لـ"اليوم" تجاربهم الإنسانية مع الحجاج
  • متطوعون يروون قصصهم:دعوات الحجاج واكتساب المهارات والخبرات دفعنا للتطوع في الحج
  • الفاضلي: نحن في مرحلة مقاومة فلا تضيعوا البوصلة