بمحافظة البصرة أقصى جنوبي العراق، تجلس لوديا ريمون، الناشطة العراقية البارزة، وتتصفح في هاتفها الذكي، ما يُذكرها به الفيس بوك لأشياء كتبتها قبل خمس سنوات.

صارت احتجاجات تشرين 2019 بالنسبة لها، ذكرى "تفتخر" بها.

يعود بها شريط الذكريات إلى يوم السابع عشر من أغسطس 2020، أي بعد عشرة أشهر من اندلاع الاحتجاجات.

في ذلك اليوم، مرّت الرصاصات من جانبها، عندما حاول مسلحون اغتيالها، وهي في طريقها لمجلس عزاء رفيقها في الاحتجاجات، تحسين أسامة، الذي اغتيل في 14 أغسطس 2020 في محافظة البصرة.

اندلعت احتجاجات تشرين في الأول من أكتوبر 2019، ورفع فيها المحتجون شعارات تندد بالفساد والمحاصصة السياسية. استخدمت حكومة عادل عبد المهدي آنذاك، أساليب عنف عديدة تجاه المحتجين، وفقاً لمنظمات حقوقية.

يُظهر مقطع الفيديو الذي نُشر آنذاك، ويوثق محاولة اغتيال ريمون، كيف كانت سيارة تويوتا (كراون)، وتُعرف بالعراق باسم "البطة" تنتظرها بالقرب من منزلها.

لحظة محاولة إغتيال الناشطين العراقيين "عباس صبحي" و "لوديا ريمون" بالرصاص الحي من قبل المجاميع المسلحة وسط #البصرة عصر الأثنين ونُقل الناشطين الى المشفى بعد إصابتهم بجروح. pic.twitter.com/HmyZ03ipeg

— الخوة النظيفة (@Brothersirq) August 19, 2020

تقول خلال مقابلة مع موقع "الحرة": "قبل ساعات من محاولة الاغتيال، اتفقنا على الذهاب لمجلس عزاء تحسين في منطقة الكرمة. لم أستطع الذهاب لوحدي، فطلبت من صديقي فهد الزيدي وعباس صبحي أن يقلاني معهما".

اتفقوا على أن يستقلوا سيارة الزيدي، لأنها تسع سبعة أشخاص، وهي كافية بالنسبة لهم.

كان الموعد بينهم في الساعة الخامسة، في الشارع الذي يقابل منزل ريمون. عندما وصلوا إلى "رأس الشارع" وفقاً للتعبير العراقي، وهو بداية الشارع المؤدي إلى المنزل، خرجت لهم ريمون.

قبل ثلاثة أيام من عملية الاغتيال، لم تخرج من المنزل، أي منذ مقتل تحسين. كانت تخرج إلى ساحة الاحتجاج في الساعة الرابعة عصراً، وهو توقيت واظبت عليه، إلا أنها توقفت عن ذلك، مذ قُتل رفيقها.

"قبل يوم من الاغتيال، أبلغني جيراني بأن هناك سيارة تراقب منزلي، وتقف بالقرب منه عند الساعة الرابعة عصراً، وهو موعد خروجي للساحة" تقول ريمون.

عندما اقتربت من سيارة أصدقائها، وشاهدت سيارة "البطة"، تذكرت ما أبلغها به جيرانها، فركضت مسرعة ورمت نفسها بسيارة رفيقها.

تتحدث وهي تستذكر تلك اللحظات التي كادت أن تُفقدها حياتها: "لو لم يبلغني جيراني، ولو لم أتذكر مواصفات السيارة، لفقدت حياتي. لولا شجاعة فهد وتداركه للأمر سريعاً، لقُتِلنا".

أصيب عباس برصاصة استقرت في منطقة الرئة.

سريعاً، نقلوه إلى المستشفى التعليمي في البصرة. هناك عرفت ريمون، بأن إحدى الرصاصات أصابتها، لكن إصابتها، لم تكن خطرة.

صارت احتجاجات تشرين التي خرجت فيها ريمون، وقبلها في احتجاجات عامي 2015 و2018، بمثابة الفرص التي يُمكنها من خلالها تغيير ما تُريد تغييره. 

سلاح منفلت، فساد، ميليشيات، فقر، وغياب للقانون، كلها أسباب دفعتها للنزول إلى الشارع.

منذ ثلاث سنوات، لم تعش ريمون باستقرار. كانت تتنقل بين مدينة وأخرى، لكنها مكثت طويلاً في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق.

لجأ الكثير من النشطاء إلى الإقليم الكوردي، وبعضهم غادر  إلى تركيا ودول أخرى.

قُتل نحو 600 متظاهر في احتجاجات تشرين، وجُرح الآلاف، وعلى إثرها قدمت حكومة عادل عبد المهدي استقالتها.

تقول متألمة وهي تسترجع شريط لحظات كادت أن تنتهي فيها حياتها: "لم أعرف بأنني أصبت. في المستشفى، شعرت بحرارة في قدمي. عرفت حينها بأنني مصابة، فصرخت بصوت عالٍ".

هناك كُشف عليها، فظهرت إصابتها بجرح بمنطقة قريبة من الورك، نتيجة ملامسة الرصاصة، لكنها لم تخترقها "الحمد لله الذي نجاني"، تقول ريمون.

في ذلك اليوم، كانت ترتدي الحجاب والعباءة السوداء، وهو زي لم ترده سابقاً، خاصة وأنه زي إسلامي، وهي مسيحية.

ارتدته لأنها ستذهب إلى مجلس عزاء في منطقة عشائرية. كان من حسن حظها ارتداء زي لم تُعرَف به سابقاً.

"لم يعرفني القتلة، لأنهم لم يروني بهذا الزي. عندما ركضت تعرفوا علي. لو أنهم عرفوني منذ البداية، لتمكنوا من قتلي" تضيف الناشطة البصرية.

قبل شهرين من حادثة محاولة الاغتيال، وردت ريمون مكالمة من رقم "غير مُعرّف".

 هذه الأرقام لا يُمكن التعرف عليها، وتُستخدم لإبقاء هوية المتصل مجهولة، وعادة ما تمتلك السلطات والقِوى المتنفذة في مؤسسات الدولة، هذه الآلية.

كان صوت الاتصال لشخص في عمر متوسط، مثلما تقول ريمون. تحدث معها بدبلوماسية، وأبلغها بأنه "مثل والدها ويُريد نصيحتها فقط".

طلب منها أن تتوقف عن المشاركة في الاحتجاجات. كان يقول لها "أنت تؤثرين في الشباب، والبث المباشر الذي تظهرين به بشكل مستمر، يُحفزهم على الاحتجاج".

تقول ريمون: "عندما انتشر فايروس كورونا، وفُرض حظر التجوال، وضعفت الاحتجاجات، كُنت أخرج يومياً سيراً على الأقدام لساحة الاحتجاج. من هناك، كنت أظهر ببث مباشر على الفيس بوك، أحفز الشباب. بعد كل بث بربع ساعة تقريباً، يتوافد الشباب إلى الساحة".

عرض عليها المتصل المجهول، اختيار أي مؤسسة حكومية للتوظف فيها، مقابل إنهاء نشاطها الاحتجاجي.

في لحظة ما وخلال الحديث، سألته ريمون: ماذا لو لم أتوقف?

تنقل عنه الناشطة البصرية قوله: "لن تُكلفينا أكثر من 1500 دينار عراقي" في إشارة إلى سعر الرصاصة.

لم تفهم ما كان يقصد، فردت عليه: لماذا تعرض عليّ وظيفة، إن كُنت تراني بهذه القيمة.

سخر منها لأنها "لم تفهم ما قاله".

محاولة اغتيال ناشطين في البصرة بعد أيام من مقتل تحسين أسامة قالت مصادر محلية عراقية، الإثنين، إن ناشطين من محافظة البصرة، جنوبي العراق، تعرضا لمحاولة اغتيال نقلا على إثرها إلى المستشفى "في حالة خطرة".

في تلك الفترة، تلقى المتظاهرون تهديدات عديدة، بعضها بالقتل، وأخرى بقضايا تتعلق بشؤون خاصة، مثل وظائفهم، خاصة الذين يعملون في مؤسسات حكومية، وأخرى بذويهم.

في اليوم الذي تلى الاتصال، ظهرت ريمون ببث مباشر على صفحتها في الفيس بوك. وردها تعليق من مُتابع كتب لها: "تُريدينها تحدٍ. إذن، لتكن كذلك". تعتقد الناشطة، بأن التعليق كان لصاحب الاتصال.

لم تتوقع أن تتعرض لمحاولة اغتيال، أو أن تكون ضمن خارطة المستهدفين من النشطاء، حتى لحظة اغتيال صديقها تحسين، الذي اغتيل قبلها بثلاثة أيام.

"لم أتوقع أنهم سيقتلون النساء"، تقول ريمون مستغربة مما حدث لها ولرفيقتها ريهام يعقوب، التي اغتيلت بعد يومين من محاولة اغتيالها.

تُعتبر يعقوب، أبرز الوجوه النسائية التي اغتيلت في احتجاجات تشرين، وربما في التاريخ النسوي العراقي في القرن الأخير.

أثار مقتل الفتاة العشرينية، جدلاً واسعاً في العراق، ووصفت بأنها "أيقونة الاحتجاجات".

بعد مقتل ريهام يعقوب.. بيان أميركي عن "الاغتيالات المستهدفة" في البصرة ادانت الولايات المتحدة، الخميس، "بأشد العبارات الاعتداءات الأخيرة التي طالت ناشطي المجتمع المدني ومحتجين في البصرة، بما في ذلك عدد من الاغتيالات المستهدفة".

نشطت يعقوب في احتجاجات عام 2018، وأسست نادياً صحياً لتشجيع النساء على ممارسة الرياضة، وكانت تبث نشاطاتها بشكل مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي.

بعد أيام من مقتلها، زار رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي منزلها، والتقى عائلتها. آنذاك، أقسم الكاظمي بأن "الجناة لن يفلتوا من العقاب".

ورغم مرور نحو أربع سنوات على اغتيالها، إلا أن الجناة ما زالوا يفلتون من العقاب.

لم تثمر اللجان الحكومية التي شُكلت في حكومتي عادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي، للتحقيق بشأن عمليات القتل في الاحتجاجات، عن أية نتائج.

"كانت التحقيقات مضحكة جداً"، تقول ريمون.

بعد ساعات من محاولة الاغتيال، زار وفد أمني منزلها. كان الوفد برئاسة عميد في جهاز الأمن الوطني.

سألني العميد: "هل لديك أعداء من الممكن أن ينفذوا هكذا عملية، لأن ليس من المعقول أن تُستهدفي لأنكِ شاركت في الاحتجاجات. هناك الآلاف غيرك".

استفز السؤال ريمون، فتجادلت مع الضابط. اتهمته حينها بمحاولة "تسويف" قضيتها. قالت له: "تعرف السيارة جيداً، وتعرف من أراد قتلي، وهي ذات السيارة التي قتلت تحسين".

بسبب الجدال بينهما، وجه العميد كلامه إلى والدها: "الآن عرفنا لماذا أرادوا قتلها، بسبب لسانها الطويل".

صرخت ريمون في وجه الضابط، وطلبت منه مغادرة المنزل.

بعد ثلاث سنوات على الحادثة، استدعي والدها إلى مركز شرطة الأصمعي في البصرة، ونصحه الضابط المسؤول عن القضية بـ"تسجيلها ضد مجهول".

"حتى الآن، وضعي الأمني غير مستقر. لا أعرف في أية لحظة أكون ضحية سلاحهم. أعرف بأنهم لن يجعلوني أستمر طويلاً"، تختم ريمون بألم.

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: احتجاجات تشرین فی الاحتجاجات محاولة اغتیال فی احتجاجات فی البصرة

إقرأ أيضاً:

مراكز المساعدات الدموية ..مصائد الموت

غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:

عندما غادر محمد الزبن بيته المهدم في خان يونس نحو رفح، كان يظن أن حمل كيس من الطحين يستحق مجازفة الرصاص، فقد صار الخبز في غزة أمنية أكبر من النجاة. عند الثالثة فجر الأحد الموافق الأول من شهر يونيو عام 2025، سار بين آلاف الأجساد التي التحفت الظلام، وكلٌّ منهم يحمل وجعًا مختلفًا. يقول الشاب ذو الثمانية والعشرين عامًا: «اعتدت النوم على صوت الرصاص، لكن تلك الليلة كانت تختلف، وكأن الموت خرج يتمشى بيننا».

فجر الموت قرب دوار العلم

لم يكن في مركز المساعدات الأميركي قرب دوار العلم سوى أربع شاحنات، لا تكفي حتى لكسر وجبة جوع. وما إن بدأت الحشود بالتراجع تحت وقع الرصاص المنهمر من الدبابات، حتى باغتتهم الزوارق من البحر، وأطلقت نيرانها على من احتمى بالموج. وخلال دقائق، تحوّل الشاطئ إلى مشهد جنائزي مفتوح، حيث سقط العشرات مضرجين بدمائهم، وارتفعت صرخات لا يسمعها إلا البحر والسماء.

المشهد كان مهيبًا لا يُنسى، الجثث ملقاة بين الرمال وبين الأمواج التي تهمس بالحزن، والناس يصرخون طالبين النجدة وسط ظلام فجر لا يرحم. النساء تئنّ بألم الفقد، والأطفال يختبئون خلف أجساد آبائهم، أما الشبان فكانوا يحاولون حمل المصابين على أكفهم الهزيلة، وسط أزيز الرصاص الذي لم يتوقف.

في ذلك الوقت، كان محمد الزبن وسط الحشود، يشاهد بأم عينيه كيف تحوّل انتظار المساعدات إلى كابوس مرعب. بينما كان الشباب يحملون المصابين على الدراجات الهوائية، كان يعي تمامًا حجم الخطر الذي يحيط بهم، وكيف تُزهَق أرواح أبرياء في لحظة يبحثون فيها فقط عن لقمة تسد جوعهم.

من شردته الحرب، أكلته المعونات

محمد لم يكن وحده. شبان من غزة وشمال القطاع قضوا ليلتهم قرب المركز، بحثًا عن علبة طحين أو قطعة جبن. البعض حمل أطفاله على الأكتاف، والآخرون افترشوا الرمل. حين بدأت الدبابات تطلق النار، احتموا خلف السواتر الترابية، لكن القذائف لم تترك لهم فرصة حتى للبكاء.

تراجع محمد مع الشباب الآخرين إلى شاطئ البحر هرباً من كثافة الرصاص، وهناك حدثت المأساة الكبرى، إذ لم يقتصر الاستهداف على الأرض، بل امتد من البحر عبر زوارق حربية أطلقت نيرانها على الفارين، مما أسفر عن سقوط العديد من الشهداء والمصابين. بين الحاضرين، سقط شاب يقف بالقرب من محمد فجأة، ضحية رصاص البحر المباشر، في لحظة تركت الجميع في صدمة عميقة.

مع توقف إطلاق النار عند طلوع الفجر، اندفع الناجون إلى مركز التوزيع ليجدوا أمامهم كمية محدودة جداً من المساعدات، لا تكفي سوى جزءًا صغيرًا من الحضور، مما زاد من وجعهم وسط فقدان أصدقائهم وأحبائهم الذين لم يتمكنوا من اللحاق بالنجاة.

المساعدات.. مشروع فوضى بإشراف عسكري

منذ بدء عمل ما يُعرف بـ«مؤسسة غزة الإنسانية» الأميركية المدعومة من الاحتلال، تكررت مشاهد الفوضى، والتدافع، والانفلات الأمني، وسط غياب شبه كامل لأي تنظيم أو حماية للمدنيين. لم تشهد مراكز التوزيع سوى شحنات محدودة، في مقابل آلاف الجائعين، بينما تكررت حالات الاستهداف، وكأن الجوع صار فخاً للموت.

أبرزها «مجزرة الأحد»، عندما استهدفت القوات الإسرائيلية مركز توزيع المساعدات في منطقة تل السلطان غرب رفح، ما أسفر عن استشهاد 31 فلسطينيًا وإصابة81 آخرين، غالبيتهم من الأطفال والنساء. جاء الهجوم بينما كان مئات المواطنين يتجمعون تحت شمس الظهيرة، على أمل الحصول على طرد من الأرز أو كيس دقيق، لكن الرصاص والدبابات باغتتهم

المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أكد أن 52 شهيدًا و340 جريحًا سقطوا في مراكز التوزيع التي تشرف عليها المؤسسة الأميركية، منذ 27 مايو 2025، وهو ما يعيد طرح تساؤلات صعبة عن حقيقة الدور الإغاثي لهذه الجهة، وطبيعة علاقتها المباشرة مع قوات الاحتلال التي تحميها، بل وتنسق معها في لحظة إطلاق الرصاص.

رصاصة في الرأس بدلاً من وجبة

شحدة محمد بركة، رجل في منتصف العمر من سكان دير البلح، حمل على عاتقه هموم ستة أطفال وأعباء الحياة القاسية في ظل الحصار والظروف المعيشية المتردية. لم يكن من بين أولئك الذين يثقون في مراكز توزيع المساعدات أو ينتظرون تحت شمس غزة الحارقة، بل خرج يبحث عن قوت يومه في سوق قريب، أملاً في أن يجد شيئًا يطعم به عائلته المتعبة. لكنه وجد نفسه فجأة في قلب العاصفة التي لم تكن ترحم أحدًا.

في تلك الليلة التي قضى فيها شحدة تحت السماء المفتوحة قرب دوار العلم في رفح، لم يكن يتخيل أن مشهد البحث عن طعام يتحول إلى مأساة لا حدود لها. وبينما كان يحاول الإمساك بقطعة من الأمل في زحمة الانتظار، اخترقت رصاصة دخان الليل والبرد جسده، مستهدفةً رأسه، لتسقطه شهيدًا قبل أن يسمع أحد صرخاته أو يجد له يدًا تواسيه.

حكى شقيقه هاني، بصوت متقطع يحمل ألم الفقد، أن شحدة لم يكن يقصد التوجه إلى مركز المساعدات، وكان بعيدًا عن دائرة الخطر. لكنه بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، وغياب أي حل لأزمات العائلات، اضطر إلى المخاطرة بكل شيء. «لم يكن يريد أن يقف في الطوابير، لكنه دفع ثمن الجوع والاحتلال»، قال هاني، وهو يسترجع لحظات الفاجعة التي قلبت حياة العائلة رأسًا على عقب.

المشفى لا يحتمل المزيد

يارين أبو النجا، أم لأربعة أطفال، لم يكن أمامها خيار سوى أن تمسك بيد شقيقها محمد وتجرّه معها في رحلة الخوف إلى مركز توزيع المساعدات غرب رفح. كانت تعلم أن أبناءها وأبناء أخيها لم يذوقوا طعاماً منذ ثلاثة أيام، وكان الأمل معلقًا على طرد غذائي صغير يعيد الحياة إلى بطونهم الفارغة. مع اقترابهما من الساحة، بدأت الدبابات تطلق نيرانها بكثافة، فاختلط الصراخ بدوي الرصاص، وتبددت الحشود كغبار في مهب الهلع.

وسط الفوضى، تاهت يارين عن شقيقها. لم تعِ كيف فقدت أثره، فقط تتبعت صوت الرصاص، ثم الركض، ثم الصمت، حتى جاءها النبأ بأن محمد أصيب في بطنه برصاصة إسرائيلية. أسرعت إلى مجمع ناصر الطبي، وهناك بدأت مأساة أخرى. تقول وهي تحاول كبت ارتجاف صوتها: «كان المستشفى يغلي بالدم والأنين. المصابون يتدفّقون بالعشرات، والكوادر الطبية تحاول المستحيل. بعد إسعاف أخي، قالوا إن عليه المغادرة لأنه لا توجد أسرّة كافية، فأخرجوه ليمنحوا مكانه لحالة أخطر».

لم تكن إصابة محمد طفيفة، لكن في المشفى المحاصر بالجرحى، لا مكان للتفاصيل. تضيف يارين: "أمسك بيدي وقال لي: ما تخافيش، أنا بقدر أتحمل، خلّي السرير لحد تاني يمكن ينقذوه. بس أنا كنت شايفة وجهه شاحب، وجرحه ينزف. حسّيت إني تركته على باب الموت". وبينما حملوه إلى مكان قريب خارج قسم الطوارئ، لم يكن في يد العائلة إلا الصبر، والانتظار على أمل أن يتوفر سرير، أو يتراجع سيل الدم، أو تهدأ السماء قليلاً.

"المساعدات" التي تخطف الأرواح

بعيداً عن رفح، في منطقة "محور نتساريم" القريبة من جسر وادي غزة، لم يكن المشهد أقل مأساوية. ففي الوقت الذي كان الناس يقفون في انتظار المساعدات، فتحت قوات الاحتلال نيرانها عليهم. الشاب ساهر تيسير عيد أصيب برصاصتين رغم مرضه بالسرطان.

يحكي شقيقه صائب، وهو يلازمه في المشفى الأميركي بدير البلح: "كان يمدّ يده للمساعدة، لا لأخذ الطرد فقط. حمل ثلاثة جرحى، وفي الرابعة أصابوه. كأنهم لا يطيقون حتى أن نتعاون مع بعضنا لإنقاذ من يسقط".

عبيدة.. الطفل الذي ضاع بين الرصاص

جبر موسى، والد الطفل عبيدة، ينام منذ أيام على بعد أمتار من مركز المساعدات في وادي غزة. لا يطلب طحينًا ولا سكرًا، بل خبرًا عن ابنه. يقول حاتم، شقيق عبيدة: "ذهب معنا دون أن نعلم، وكان يحمل هوية أمي ليحصل على الطحين. عندما أطلقت الدبابات النار، حاول الهرب مع أحد جيراننا، لكن ثلاث دبابات حاصرته من ثلاث جهات. أصيب في بطنه، وسمعناه يقول: أمانة لا تتركوني. لكن القذائف منعت أي أحد من الاقتراب".

ما يبعث بعض الأمل في نفوس العائلة، أن شهودًا رأوا مروحية إسرائيلية تقلع من المكان، وجيبًا عسكريًا قرب نقطة إصابته. لا أحد يعلم إن كان عبيدة قد نُقل مصابًا أم جثمانًا، لكنهم أبلغوا الصليب الأحمر والمركز الفلسطيني للمفقودين، دون أن تصلهم أي إجابة.

مشاهد صادمة... وسلاح في وجه الجوعى

أظهرت مقاطع مصورة عناصر أمن المؤسسة الأميركية وهم يشهرون أسلحتهم في وجه المحتشدين، في مشهد لا يمتّ للعمل الإنساني بصلة. ووفق روايات الأهالي، فإن أحد مسؤولي التوزيع صعد إلى تلّة ترابية، وأعطى إشارة انسحاب إلى جنود الاحتلال، ليبدأ بعدها إطلاق النار.

في اليوم التالي، عاد جبر موسى إلى الموقع ذاته، لا ليحصل على طرد، بل ليعرف فقط: هل مات عبيدة؟ وعلى بعد 100 متر فقط، أطلقت دبابة وطائرات مُسيّرة وابلًا جديدًا من الرصاص، فسقط جارهم محمد أبو حجير شهيدًا، وأصيب آخرون.

الموت بإشراف إنساني

أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، حذّر من استمرار ما وصفه بـ"المسار الدموي لتوزيع المساعدات في غزة"، مؤكدًا أن الطريقة التي تُدار بها تلك العمليات لا تندرج تحت أي إطار إنساني، بل تُستخدم كأداة للقتل المنهجي.

وأوضح أن مراكز توزيع المساعدات التي تُقام تحت مظلة أميركية، وبتنسيق مباشر مع جيش الاحتلال، تحوّلت إلى كمائن معدّة سلفًا لاستدراج المدنيين الفلسطينيين، لا سيما النازحين والجوعى، بهدف استهدافهم بدمٍ بارد.

وأضاف الشوا لـ«عُمان» أن ما يجري على الأرض ليس سوى جزء من حملة متكاملة لتبييض وجه الاحتلال، عبر تقديم واجهة إنسانية خادعة، يُراد بها خداع الرأي العام العالمي، وإظهار رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بمظهر من يسعى لحل الأزمة الإنسانية، بينما هو في الواقع يُشرف على تكتيك إجرامي مزدوج: قتل المدنيين واستثمار دمائهم في خطاب علاقات عامة موجه للغرب.

وأشار إلى أن هذا النموذج من "الإغاثة القاتلة" يُعد انتهاكًا صارخًا لكل المواثيق الدولية، داعيًا المجتمع الدولي إلى رفض هذا المسار المشوَّه، ومطالبة الأمم المتحدة باستعادة دورها الكامل في الإشراف على الإغاثة، بعيدًا عن أجندات الاحتلال ومخططاته. وشدد على أن الفلسطينيين لا يريدون فتاتًا مشروطًا بالدم، بل حقهم في الغذاء والكرامة دون أن يُقتلوا وهم يصطفون من أجل كيس عدس.

وختم الشوا بالتأكيد على أن من يزرع الفوضى تحت راية المساعدات، إنما يستثمر في معاناة الناس لأغراض سياسية، مؤكدًا أن أي مشروع إغاثي لا يضمن الحماية الكاملة للمدنيين هو شريك ضمني في الجريمة، وليس جزءًا من الحل.

مقالات مشابهة

  • مراكز المساعدات الدموية ..مصائد الموت
  • ???? البرهان المرعب .. حكايات من ارض المعركة
  • من لوس أنجلوس إلى نيويورك.. تصاعد الاحتجاجات المناهضة لسياسة الهجرة.. إليكم الأماكن
  • ترامب يتراجع عن وصف احتجاجات لوس أنجلوس بـالتمرد
  • جحبم لوس أنجلوس.. الشرطة الأمريكية تطلق الرصاص على مراسلة تليفزيونية
  • إصابة شرطيين خلال أعمال شغب في لوس أنجلوس على خلفية احتجاجات الهجرة
  • ترامب يأمر بإرسال قوة عسكرية إلى لوس أنجلوس على خلفية اندلاع الاحتجاجات
  • الحرس الوطني لمواجهة احتجاجات لوس انجلوس
  • من تحت القصف إلى قلب الحقل.. هكذا أنقذت نساء الجنوب الأرض من الموت
  • 50 شهيدًا بينهم نساء وأطفال بغارات صهيونية ونسف منازل وخيام في قطاع غزة