مُذَكِّرَاتُ مُغتَرِبٍ في دُوَلِ الخَلِيجِ العَرَبي (٢٩)
تاريخ النشر: 7th, October 2024 GMT
حَزَمنا أمتِعتَنا وأمْرَنا وبِتنا جاهزين للسفر والتمتُّع بالعُطلة الصَّيفية في بلادِنا حتى آخرَ رَشفَةٍ من عُصارةِ " دفءِ الأهلِ والعَشِيرة " . قامَ الأخ العزيز الأستاذ عادل العمدة بالتَّنسيقِ معنا على أنْ نَحجِز معاً لنُسافرَ سَوَيّاً على نفسِ رحلةِ الطَّيران . وتمَّ ذلك بالفِعل . كانتْ الرِّحلةُ مُباشِرةً direct flight من الدمام إلى الخرطوم التي وصَلناها بعد ثلاثِ ساعاتٍ ورُبع السَّاعة .
بعدَ وصُولِنا إلى وًد مَدَني عاصمةِ ولايةِ الجَزِيرة ، تَوجَّهنا صوبَ " القُصيرَة " لنَتَقبلَ ونُقدِّمَ واجبَ العَزاءِ لأهلِنا هناك . وصَلنا عقِبَ المَغرب فوَجَدنا " الحال ياهو نفس الحال " منذُ وصُول خَبر الحادِث قبل سبعةِ أشهُر والذي راحَ ضَحِيّتَه ثلاثةُ أشخاصٍ من أقربِ وأعزِّ الناسِ إلى قلبي ، بمعنى أنَّ سببَ الحادِث بالصُّورة التي اجتَرحَها الطبيبُ البيطري لم تتغيرْ في أذهانِ أسرةِ المرحومة . لمَستُ ذلك في استقبالِ عزائِنا بواسِطة والدِها ولَمَستْ أُمي ذلك في جَفاءِ وغِلظةِ أمِّها وأخَواتِها . وللهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعد . على أيَّة حالٍ الزمانُ كفيلٌ بِتلمِيعِ الرُّؤيا وتنظيفِ الغَبَشِ الذي رانَ على العُقُولِ والقُلُوب . وجزى الله أخانا عادل خيرَ الجَزاءِ إذ قامَ بِشَرحٍ وافٍ لما وقعَ في الحادثِ ومَن كانَ السَّببَ فيه وكيف أنَّنا ظلَلنا ثلاثَتُنا نتَلقى العلاج في المستشفى لمُدة شهرين . وقد أدى ذلك الشَّرحُ لبعضِ التَّطييبِ في خَواطرِ القومِ .
غادرتُ مع أمي وأبنائي من هناك إلى " ود الهندي " في نفسِ الليلةِ وغادرَ عادل وأسرتُه إلى مَسقَط رأسِه " فارِس " القرِيبة من سِنَّار .
أصبحَ الصُّبحُ وهاهُم أهلُ قريتِنا يُحيُون العزاءَ في فقدِ الزَّوجةِ والأبناءِ مِن جَديد .
إنقَضى الأسبُوع الأوّلُ مِن العُطلةِ سريعاً كما يَنسرِبُ الماءُ من بينِ الأصابِع . بدأنا نُفكِّرُ في ترتيبِ الزَّفاف وتحديدِ المَوعدِ مع أهلِ العَرُوس . تمَّ الاتفاقُ على عاشِر يومٍ من وصُولنَا على أنْ تكُونَ المُناسبةُ خاليةً مِن الاحتفالاتِ و " البَهرَجة " لدى الطَّرفِ الآخَر مُراعاةً للظُّروف التي نَمُرُّ بها ، مع السَّماحِ - طبعاً - بالذَّبائحِ ودَعوةِ النَّاسِ إلى الغداءِ كإعلانٍ وإشهارٍ لزواجِ الأُستَاذة إصلاح . حلَّ يومُ الزَّفاف فاقْتَصَرنا " السيرة " على حافلةٍ واحدةٍ وبعضِ الأهلِ والاقاربِ الذين لايتعدَّى عددُهم الخَمسِين رجُلاً وامرأةً.
وصَلنا إلى " الولي " فاستُقبِلنا بِحفاوةٍ بالغةٍ وكرمٍ شَديد . كانَ بِصُحبتِنا - كذلك - أخونا عادل العمدة . بعد الغداء وصلاة المغرب ، استلَمنَا العَرُوس وغادَرنا وسَطَ الابتِهاجِ وزغاريدِ النِّسوة . كانتْ لدي سَيّارة تويوتا بوكسي فاستلمَ عادل القِيادة من الولي وحتى الخرطوم وتَركَني مُرتاحاً بِجانبِ العَرُوس . وصلنا الخرطوم ونزلنا في شقة في حي أركويت كُنّا قد حَجَزناها مِن قبلُ . قضَينا الأسبوعَ الأوَّل مِن " العَسَل " ثُمّ طلَبنا من أخي فتح الرحمن أنْ يُحضِر لنا عمر وأحمد ليَقضُوا بِضعَةَ أيامٍ مع أمِّهمُ الجَديدةِ حتّى يتِمَّ التآلفُ وتنبَني المَودَّة قبلَ عَودَتِهم إلى السعودية .
انقَضَتْ أيامُ العسلِ سريعاً وفُوجِئنا بانتهاءِ حجزِنا للشقة ولم نُصدِّق أننا مكَثنا شهراً ، وصدقَ القائِلُ : " ما بينَ غمضَةِ عينٍ وانتباهَتِها يُبدِّلُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ " . عُدْنا إلى الجَزيرةِ وبدأنا بزيارةِ الولي التي كانتْ الأقرَب في طريقِ عَودَتِنا . قضَينا فيها أياماً حلوةً وسط الأهلِ والكَرمِ والاحتِفاءِ بنا على " عزائم " العَشَاء . ثمّ غادَرنَاها بعد أسبوعٍ إلى ود الهندي التي تقعُ إلى الجَنوبِ الغَربي من ود مدني ولا تَبعُد كثيراً عنها .
محمد عمر الشريف عبد الوهاب
m.omeralshrif114@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
عادل الباز: “رهائن لا حواضن”: تفكيك الأكذوبة
1 بارك الله في الدكتور أسامة العيدروس ونفعنا بعلمه. فقد تميز، منذ بداية الحرب، بتحليل واقعي وبصيرة نافذة لما يجري على الأرض. في الوقت الذي كان الناس فيه تائهين بين الشائعات واليأس، ظل الدكتور أسامة يكرر أن هذه المليشيا، رغم دعواها الفارغة بالسيطرة، ما هي إلا “قلعة رمل” سرعان ما تتهاوى. وقد صدق.
2
وبالفعل، من جبل موية إلى جبال كردفان، انهارت أوهام السيطرة الميدانية تباعًا. ومؤخرًا، عاد الدكتور أسامة ليطل من على شاشة قناة الجزيرة مكذبًا مزاعم المليشيا الإجرامية بأنها تحظى بـ”حواضن اجتماعية”. أكد الدكتور أسامة أن أولئك الذين تدعي المليشيا أنهم يشكلون حواضنها هم في الحقيقة رهائن ومختطفون من أبناء الوطن، اختطفتهم المليشيات عنوة. وقال بوضوح: “من واجبنا تحريرهم من براثنها”. وقد صدق.
3
اليوم، يمكن القول بثقة إن كل القبائل والمكونات الاجتماعية التي كانت تُستغل دعائيًا كظهير اجتماعي للمليشيات تبحث الآن عن مخرج، بل تتمرد على هذه العصابة علنًا. الأدلة على ذلك كثيرة:
• رغم دعوات المليشيا المتكررة للتجنيد، رفضت القبائل الدفع بأبنائها إلى محرقة حرب خاسرة، ولم تنفع الوعود بالمناصب أو المال. الناس يرون بأعينهم جثامين أبنائهم تُقبر بالعشرات، بل بالمئات، يوميًا، فلم يعد المال يعني شيئًا.
• تحدث الاستاذ الصحفي الصادق الرزيقي عن أن مدينة الضعين وحدها فقدت أكثر من 40 ألفًا من أبنائها في هذه الحرب العبثية.
• وليس هذا فحسب، بل خرج يوسف عزت، المستشار السياسي السابق لقائد المليشيا حميدتي، في تغريدة قبل أيام داعيًا إلى عدم الزج بالقبائل في الحرب، مؤكدًا أن الحرب نشأت أساسًا من خلاف داخل المؤسسة العسكرية، وأن إدخال المكونات الاجتماعية فيها سيحولها إلى حرب أهلية طويلة الأمد. هذه التغريدة تكشف عمق الانقسام داخل شظايا الدعم السريع.
• بل إن المليشيا، التي طالما تغنت بالحاضنة الشعبية، باتت تعترف ضمنيًا بانهيارها من خلال لغة التهديد والابتزاز التي يستخدمها قادتها. فقبل أيام، خرج عبد الرحيم دقلو محذرًا القبائل من التخاذل، مهددًا بمحاسبة زعمائها إن لم يساهموا في التجنيد. قالها بوقاحة: “ذقتم حلو الدعم السريع.. الآن ذوقوا مره.”
أي حواضن تلك التي تُهدَّد بالعقوبة إن لم تُسلّم أبناءها للموت؟
4
وفي مشهد آخر من مشاهد انهيار أكذوبة الحواضن، رُصدت أكثر من 18 نزاعًا مسلحًا خلال ثلاثة أشهر بين مجموعات إثنية داخل المليشيا نفسها، على خلفية اتهامات بالخيانة والصراع على الغنائم، مما أدى إلى اشتباكات مسلحة وانقسامات متزايدة. هذا الانقسام الداخلي يعكس عمق أزمة الشرعية الاجتماعية التي تعاني منها المليشيا، ويُسقط عنها آخر أوراق التوت.
لقد وثقت منظمة العفو الدولية في تقرير منتصف 2024 أن المليشيا اختطفت مدنيين من القرى واستخدمتهم كدروع بشرية، مما يؤكد أن مفهوم “الحواضن” هو أكذوبة لا تصمد أمام التحقيقات الميدانية.
كما أن انشقاق شخصيات قيادية من داخل المليشيا، مثل العميد المنشق محمد شرف الدين، الذي قال بوضوح إن “المليشيا تستغل أبناء القبائل كوقود رخيص”، يدعم ما ذهب إليه الدكتور العيدروس ويوسف عزت.
5
مفهوم “الحواضن الاجتماعية” ليس جديدًا في النزاعات السودانية، بل استُخدم عبر التاريخ كغطاء لتبرير وجود المليشيات المسلحة في مناطق محددة. لكن هذه الحواضن، كما أثبتت التجارب، كانت دائمًا هشة، تعتمد على المصالح الآنية أكثر من كونها تعبيرًا عن دعم شعبي حقيقي ومستدام.
الحديث عن الحواضن بات أداة سياسية لاستغلال الانتماءات القبلية في تقسيم المجتمع وشرعنة العنف، وليس تعبيرًا عن قاعدة دعم شعبي متماسكة. إن القبائل التي زُعِم أنها حواضن للمليشيات هي في الواقع ضحايا وأسرى، ترفض اليوم الاستمرار في دعم الحرب.
تخلت العديد من هذه القبائل عن المليشيات وتمردت ضدها، وبدأت تتجه نحو الجيش الوطني كحامٍ ومحرر، ما يؤكد هشاشة الحواضن التي تتحدث عنها المليشيات والدعاية الإعلامية التابعة لها، والتي لا تعكس الواقع على الأرض.
6
هذه الحقائق تدحض أسطورة الحواضن وتكشف أن الحديث عنها ما هو إلا جزء من الدعاية المضللة التي تهدف إلى إطالة أمد الصراع وتفتيت النسيج الاجتماعي السوداني.
إن الذين يتحدثون عن الحواضن يحاولون الانحراف بطبيعة الحرب، من تمرد على الدولة قادته أسرة عميلة أعماها المال، واستُخدمت كمخلب لنزع سيادة البلاد واستقلالها، بواسطة غزو شاركت فيه أكثر من تسع دول بأسلحتها ومرتزقتها. هؤلاء يحاولون تحويل طبيعة هذه الحرب إلى حرب أهلية، بينما الحديث عن الحواضن لا يتجاوز كونه غطاءً دعائيًا لجرائم ممنهجة.
وقريبًا، حين يصل الجيش إلى مرتع من يُسمَون اليوم “الحواضن”، سيدرك الناس أنه لا حاضنة أصلًا لهؤلاء المجرمين، وستنهار أوهام الحواضن والحرب الأهلية، كما انهارت من قبل قلعة الرمل.
عادل الباز
إنضم لقناة النيلين على واتساب