عام على الطوفان.. حرب الوجود ومعارك الحدود
تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT
- "الحرب في غزة وجودية إما نحن أو وحوش حماس" (بنيامين نتنياهو- 13 أيار/ مايو 2024)
- "اسرائيل بحاجة إلى الأسلحة الأمريكي في حرب تخوضها من أجل وجودها" (بنيامين نتنياهو- 24 حزيران/ يونيو 2024)
عام مضى منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى وما تلاها من غزو همجي لعصابات الصهاينة في فلسطين المحتلة، وبالرغم من كل ما جرى من دمار وتخريب وقتل على الهوية راح ضحيته قرابة خمسين ألف نفس بشرية، من بينها أطفال ونساء وشيوخ، إلا أن التاريخ سيذكر صمود المقاومة الفلسطينية على مدار عام رغم الحصار الذي يمارسه الصديق قبل العدو، ورغم التكفير الذي يمارسه بعض من المحسوبين على السلفية وهي منهم براء، ورغم الخذلان الذي يمارسه قطعان المحبطين والمثبطين في وسائل الإعلام العربية، ورغم حروب البروباجندا التي تمارسها وسائل الإعلام الصهيونية عبر العالم، رغم كل شيء لا تزال المقاومة في الساحات تمارس دورها المرسوم، وهو حرب استنزاف قد تطول ولكنها بكل تأكيد ستدفع العدو إلى الخروج من الأراضي المحتلة مخذولا محسورا يوما ما.
عام على الطوفان، وليس الصمود الأسطوري للمقاومة وحده هو ما يثير الإعجاب والتأمل، بل إن تحولا كبيرا يستحق الالتفات إليه والاعتناء به وتفسيره على نحو صحيح لأنه ربما لم يأخذ حقه على مدار عام، وأعتقد أنه تحول استراتيجي سيغير المنطقة كلها سواء من زاوية السياسة وما يتعلق بها أو من ناحية الجغرافيا ومن ثم التاريخ الذي سيسجل ما يجري بطريقة تدعو الأجيال المقبلة للفخر والاعتزاز.
إن تحولا كبيرا يستحق الالتفات إليه والاعتناء به وتفسيره على نحو صحيح لأنه ربما لم يأخذ حقه على مدار عام، وأعتقد أنه تحول استراتيجي سيغير المنطقة كلها سواء من زاوية السياسة وما يتعلق بها أو من ناحية الجغرافيا ومن ثم التاريخ
في كلمة له بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لعملية طوفان الأقصى، قال رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو: "نحن في حرب ولسنا في عملية عسكرية ولا في جولات قتالية وإنما في حرب وسنرد بحرب شعواء بشدة لم يعهدها العدو"، و"هذه حرب على وجودنا، حرب القيامة هكذا أسميها" وأنه "كان الهجوم الأشد على الشعب اليهودي منذ المحرقة". وهذا الكلام يعني أن عملية طوفان الأقصى قد دشنت مرحلة جديدة من الصراع مع العدو الغاصب، الذي عاش لعقود على فكرة المعارك الخاطفة من أجل اقتطاع جزء صغير من هذه الدولة أو تفريغ مساحات (منزوعة السلاح) على الحدود من تلك الدولة، أو تحييد دول كبيرة من الصراع حتى يتفرد العدو بالشعب الفلسطيني ظنا منه أنه سيقدر عليه، فجاءه الطوفان ليدمر ما كان يفعل وما يعتقد ويدفعه للتفكير من جديد في حقيقة المشروع الصهيوني التوسعي وفي قدرته على البقاء في المنطقة، وتحول الحديث إلى صراع من أجل البقاء وليس معارك من أجل الحدود.
أدرك نتنياهو أن كل المعارك السابقة انتهت إلى لا شيء حتى في ظل توقيع عدد من الدول العربية اتفاقيات تطبيع، وآخرها اتفاقيات أبراهام التي وقعت تحت وطأة السيوف المشهرة في وجه الحكام العرب من قبل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كل هذه الاتفاقيات لم تجد نفعا ما دامت الشعوب العربية ترفض وجود هذا الكيان الغاصب وما دامت هناك حركة إسلامية ترفع لواء المقاومة من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
لقد عمقت عملية طوفان الأقصى من مخاوف الصهاينة ليس على بعض الحدود أو الموارد الطبيعية التي خاضوا من أجل الاستيلاء عليها معارك قتالية وأخرى سياسية بدعم كبير وهائل من أمريكا والغرب، بل مخاوف الزوال والوصول إلى نقطة الفناء. وأعتقد أن تحليلهم العسكري والسياسي لعملية الطوفان قد أكد لهم أن المقاومة لا تسعى من أجل تحريك القضية فحسب، بل من أجل بدء مشروع كبير لتحرير فلسطين، وإلا فما كنا لنشهد كل هذا الرد الإجرامي على العملية التي للأسف يعتقد بعض الصهاينة العرب أنها جاءت على هوى الكيان ورغبته، بل زعم البعض زورا أنها بتنسيق مع العدو.
عمقت عملية طوفان الأقصى من مخاوف الصهاينة ليس على بعض الحدود أو الموارد الطبيعية التي خاضوا من أجل الاستيلاء عليها معارك قتالية وأخرى سياسية بدعم كبير وهائل من أمريكا والغرب، بل مخاوف الزوال والوصول إلى نقطة الفناء
لقد أعادت عملية طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى المربع الأول وهو مربع عام 1947 (عام التقسيم)، وتبين لنا جميعا أن حكام العرب الحاليين كأجدادهم لم يتغيروا وأنهم لم ينتفضوا لوقف المشروع الصهيوني؛ الذي تجلت معالمه في حرب 1948 التي تحركت فيها الشعوب وتراجعت أو تآمرت فيها الحكومات وانتهت بالإعلان عن قيام دولة الكيان في 14 أيار/ مايو 1948.
نجح الطوفان في إعادة المخاوف إلى لقب العدو المغتصب، ونجحت المقاومة على مدار عام في تعزيز هذه المخاوف رغم ما يبدو من انتصار عسكري قام فيه العدو بتدمير المدارس والجامعات قبل المساجد والكنائس، كما قام بدك المستشفيات قبل الورش والمصانع وقتل الأطفال والنساء قبل أن تصل يده إلى المقاومة، وهي كلها أهداف تكتيكية لم يستطع العدو ترجمتها إلى مكاسب استراتيجية تعزز وجوده في المنطقة أو تحسن صورته التي أصبحت ملطخة بالدماء في كل مكان حول العالم.
وهنا استحضر أحدث تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان الذي قال: "التحدي الذي تواجهه اسرائيل الآن هو تحويل الانتصار التكتيكي إلى استراتيجية تضمن بها بقاء إسرائيل"، أي أن المخاوف من عدم بقاء دولة الكيان قد امتدت إلى أمريكا الراعي الرئيسي للكيان الغاصب، وأن فكرة الزوال أو عدم الاستقرار والاستمرار لا تزال تسيطر على الذهن الصهيوني بمكوناته في فلسطين وأمريكا.
والسؤال هو: لماذا يشعر الكيان بهذا الشعور بقرب الزوال والفناء رغم أن علاقته السياسية والعسكرية والاقتصادية مع معظم الحكومات العربية تعتبر قوية ومتشعبة، ولطالما افتخر رئيس وزراء الكيان بهذه العلاقات وبأنها ترسم ملامح شرق أوسط جديد؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من التذكير بما قلته في مقال سابق من أن الحرب الحالية ليست حرب جيوش نظامية، وهذا في حد ذاته أحدث فرقا كبيرا، فقد اعتاد الكيان الصهيوني على سحق الجيوش النظامية من خلال اختراقها عبر عملائه؛ الذين كان بعضهم يعتلي سدة الحكم ويحذر الكيان من تحركات دول المواجهة آنذاك (حرب أكتوبر 1973 هي آخر حرب نظامية بين العرب والصهاينة في فلسطين)، وبالتالي كانت حروبه خاطفة وسريعة تقوم على فكرة الصدمة والرعب مما يؤدي إلى انسحاب الجيوش فرارا من قوة الصدمة ومن رعب القتال، مشكلتي ليست مع نتنياهو وكبار مجرمي الصهاينة من اليهود، بل مع الصهاينة العرب الذين يمنون النفس بهزيمة المقاومة بينما نتنياهو ينتظر لحظة التخلص من كابوس زوال دولة الكيانبينما الحرب الدائرة اليوم هي حرب غير نظامية، هي حرب المقاومة الشعبية وبالأحرى المقاومة الإسلامية التي تتحرك عن عقيدة ودين وإرادة صلبة وعز ويقين في النصر أو الشهادة في سبيل الله.
ويدرك نتنياهو ورفاقه في الكيان أو في دول الجدار (الجوار سابقا) أن هذه المقاومة هي من نبت هذه الأرض ومن غرس هذا الدين العظيم الذي لا يقبل بالكيان الغاصب، وإن سمح بمعاملة أهل الكتاب معاملة حسنة فهذا لا يعني أن يسمح له باغتصاب الأرض والموارد تحت أي شعار وتحت أي ذريعة، كما يدرك أن التطبيع الراهن هو مجرد وهم في ظل رفض الشعوب له، ويدرك أن الحكومات الحالية هي حكومات مغتصبة للسلطة، وأنه إذا ما أتيح لها (أي الشعوب) فرصة الاختيار فإنها ستنتقي حكاما يقفون مع المقاومة الفلسطينية ويدعمونها، مثلما فعل الرئيس الشهيد محمد مرسي حين قال قولته المدوية: "لن نترك غزة وحدها".
الحرب الدائرة اليوم هي حرب الشعوب التي تبنت واحتضنت المقاومة في عدة دول رغم إرادة الحكومات، في لبنان وفي اليمن وفي العراق، وسوف تنتج هذه المقاومة إن لم يكن اليوم فغدا.
ويدرك نتنياهو الذي يزعم زورا أنه انتصر، أنه مهزوم ومأزوم وأن كل أمنياته اليوم أن يحافظ على دولة الكيان من الزوال والفناء، وأن المقاومة قامت بتقزيم وتحجيم إن لم يكن تحطيم أسطورة "من النيل إلى الفرات".
مشكلتي ليست مع نتنياهو وكبار مجرمي الصهاينة من اليهود، بل مع الصهاينة العرب الذين يمنون النفس بهزيمة المقاومة بينما نتنياهو ينتظر لحظة التخلص من كابوس زوال دولة الكيان.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة المقاومة إسرائيل إسرائيل غزة المقاومة طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة رياضة سياسة صحافة سياسة تكنولوجيا صحافة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عملیة طوفان الأقصى على مدار عام دولة الکیان فی حرب من أجل
إقرأ أيضاً:
أصداء الطوفان.. حين تصير الكلمة بندقية
حين تصير الكتابة فعل نجاة، ويغدو الحرف مركبا صغيرا في بحر متلاطم الأمواج، نحتاج إلى أكثر من محلل سياسي أو مراسل حربي… نحتاج إلى شاهد يسجّل بالألم ما عجزت عنه المصوِّرات/أجهزة التصوير، شاهد يكتب ليقاوم النسيان فضلا عن أن يقنع أو يؤثر.
كتاب عبد الحي كريط "أصداء الطوفان؛ صوت غزة في زمن الانكسار" ليس مجموعة مقالات أو حوارات عابرة عن حرب مروّعة فحسب، بل هو وثيقة وجدانية فكرية، تقف على تخوم الصدمة، وتعيد تعريف المثقف بوصفه أولا إنسانا محكوما بالحب والعجز تحرقه أخبار المجازر والشهداء، قبل أن يكون كاتبا أو خبيرا أو مثقفا. والكتاب صدر حديثا عن دار مؤسسة أفرا للدراسات والأبحاث.
في هذا المقال، نفتح صفحات هذا العمل، لننصت إلى صوت مختلف للكتابة، صوت يجرّح أكثر مما يداوي، لكنه يصرّ على أن الكلمة، إذا كُتبت بلسان صادق، فقد تَشِي بشيء من المعنى، وتحفظ شيئا من المعنى ومن ماء الوجه في عالم فقد كل معنى.
يشكّل كتاب أصداء الطوفان صوت غزة في زمن الانكسار للكاتب والصحفي المغربي عبد الحي كريط، عملا أدبيا وفكريا مختلفا في مرحلة من تاريخ العروبة يتآكل فيها المعنى وتتشظى فيها القيم تحت وطأة القتل الجماعي والتواطؤ السياسي والإعلامي، والكتاب لا يأتي في صيغة توثيقية نمطية، ولا يتخذ من الحياد قناعا، بل ينهض بوصفه موقفا أخلاقيا، وصيحة احتجاج ضد الصمت، وانحيازا صارخا للحياة في وجه آلة القتل والتدمير الصهيونية المستمرة.
في مقدمة الكتاب، يعلن عبد الحي كريط بوضوح انحيازه الإنساني والسياسي حين يقول: "لا أكتب من موقع الراوي المحايد، بل من موضع الشاهد المنكسر.. المنحاز للحياة في وجه الموت، وللكلمة في وجه القصف". هذه العبارة تتجاوز كونها افتتاحية لتتحول إلى إعلان نية جريء، حيث يحدد الكاتب من البداية موقعه، فهو ليس مجرد مؤلف يسرد، بل هو إنسان يكتب بجرح نازف من قلب اللهيب لا من شرفات التحليل البارد.
إعلان بنية ثلاثية للبوح والتفكيك والتطهيريمتد الكتاب على نحو 170 صفحة، ويعتمد بنية ثلاثية متكاملة تجمع بين الحوارات، والمقالات التحليلية، والنصوص الشعرية، في مزج عضوي بين الفكر والإبداع؛ بين العقل والوجدان، هذا التقاطع البنيوي لا ينبع من رغبة في التنويع الشكلاني، بل من وعي بالوظيفة التكاملية للثقافة حين تصبح درعا في وجه التفاهة، وصوتا في زمن الانكسار.
أما في القسم الحواري، فيجري كريط لقاءات مع عدد من المثقفين الفلسطينيين والعرب والإسبان، وهو لا يستدعيهم بوصفهم شهودا على المأساة فحسب، بل شركاء في صياغة ذاكرة مقاومة، هؤلاء المثقفون لا يكتفون بوصف الفاجعة، بل ينخرطون في فعل تطهيري للوعي، ويتمرّدون على منطق الوصاية الذي ينطق عن غزة من الخارج، وبذلك، يصير الحوار طقسا جمعيا للبوح، واستعادة صوتية لكرامة مهدورة في زمن التواطؤ.
وأما القسم التحليلي، فيشكّل محورا نقديا عميقا يتناول السياقات السياسية والإعلامية لما بعد 7 أكتوبر، في ظلال عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من عدوان غير مسبوق على غزة، هنا يستعمل عبد الحي كريط المقالة بوصفها أداة لتفكيك الخطاب العربي الرسمي، ويُسائل صمت الأنظمة، ويكشف آليات تدجين الوعي وتصيير المأساة "محتوى"، وتحويل الدم إلى مشهد يعاد تدويره بلا أثر ولا مساءلة، تخرج هذه المقالات من دائرة التحليل لتدخل نطاق المحاكمة، حيث تُعري تواطؤ الإعلام الموجّه، وتفكك خطابات الشرعنة التي تحيط بالاحتلال من كل جانب.
وأما في بُعده الإبداعي، فيقدّم كريط نصوصا شعرية نازفة كتبت كما لو أنها خرجت من ذاكرة محاصرة، هذه النصوص لا تغرق في الحزن ولا تستجدي التعاطف، بل تصوغ الألم في قالب فني، يربك القارئ، ويوقظ ضميره، إنها كتابة ترفض الشفقة وترفض أن تُروى غزة حكاية حزينة، بل تصرّ على رسمها ملحمة إنسانية عصية على المحو والنسيان لا يضرها من خذلها.
الكلمة فعل مقاومةليست "أصداء الطوفان" كتابا عن غزة فقط، بل عن الامتحان الأخلاقي للوعي العربي المعاصر، إنه بمثابة مرآة كاشفة لا يعري انهيار دعاوى حقوق الإنسان فحسب، بل يعري انهيار المعنى ذاته حين تُختزل المأساة في تدوينات عابرة، أو حين تصبح الجرائم وقودا لدورة إعلامية سريعة الزوال، وهنا لا بد للكتابة أن تعيد اكتشاف دورها التاريخي، بعيدا عن الزينة والتأنيق، ورغبة النجاة الفردية، أداة للمواجهة، وللفضح والتعرية، وللتذكير بأن اللغة قادرة على أن تكون سلاحا حين تعجز البنادق عن الوصول.
بهذا المعنى، لا يمكن تصنيف أصداء الطوفان ضمن الكتابات الأدبية أو السياسية فحسب، بل هو مشروع في مساءلة الضمير العربي، واستعادة للثقافة بوصفها فعلا حيّا يتجاوز الاستهلاك، ويجابه الانحلال القيمي بكل أشكاله، لقد عرف القارئ عبد الحي كريط من قبل في مؤلفاته مثل "مدارات ثقافية: الشمس تشرق من المغرب ونوافذ حوارية في الأدب الإسباني"، حيث يتقاطع النقد الثقافي مع الحوار المتوسطي، لكن عمله الجديد يذهب أبعد، إذ يتحوّل من التحليل إلى البوح، ومن التفسير إلى الصراخ الواعي، ومن التوثيق إلى الانخراط الوجودي.
ربما تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه لا يُقدَّم أرشيفا للحرب، بل نقشا في الذاكرة الجمعية، ومحاولة لترميم الذات العربية الفلسطينية التي تتعرض للطمس اليومي، والكتاب ليس خطابا مباشرا، بل كتابة تستنطق الإنسان، وتُعيد له صوته واسمه ووجهه في زمن تعميم القتل وطمس الأثر.
إعلانتسكن في صفحات هذا العمل صرخات الأطفال، ونواح الثكالى، وبكاء الأيامى، وأصوات البيوت المهدّمة التي تنطق بالحياة والذكريات وسط الركام، لكنه، على خلاف العديد من النصوص، لا يعزف على وتر الرثاء، بل يصرّ على أن تكون الكلمة فعل نهوض، لا نعيا، وأن تكون القراءة مشاركة في المقاومة لا تضامنا شعريا عابرا.
ومن المتوقع أن يُعرض أصداء الطوفان في عدد من المعارض العربية خلال الموسم الثقافي المقبل، وسط اهتمام متزايد بالأعمال التي تردّ الاعتبار للثقافة بوصفها ذاكرة حية لا وثيقة صامتة، بهذا الظهور المتوقَّع، ينضم الكتاب إلى موجة من الإنتاجات الفكرية التي تُعيد للثقافة دورها الأخلاقي، في زمن هيمنت فيه الأدوات التقنية على المعنى، والصورة على الوجدان.
ففي زمن يُقتل فيه الناس بالصوت والصمت معا، يأتي هذا الكتاب ليقول: إن الكتابة ليست فقط ملاذا، بل ساحة مواجهة، وإن الصمت لم يعد حيادا، بل خيانة، يقول كريط في عمله: "الحياد في زمن المذبحة خيانة للضمير"، وهكذا، يصبح أصداء الطوفان بيانا أدبيا وسياسيا ضد البلادة، وصرخة مكتوبة في وجه انكساراتنا المتكررة.
في أصداء الطوفان، يتجاوز عبد الحي كريط وظيفته كاتبا ليصبح شاهدا على عصر فقد فيه الإنسان إحساسه بالكارثة. وبين الحوارات والمقالات والقصائد، تتشكل ملحمة ثقافية تُعيد رسم دور الكلمة حصنا أخيرا للكرامة، إنه كتاب يُقرأ لإعادة الحياة والمعنى لا للاستهلاك، ويقرأ للذكير والنصرة، لا للتسلية، ففي زمن الخراب، لا يزال هناك من يكتب ليذكّرنا بأن غزة ليست بعيدة، وأن المجازر وروائح الدماء وأصوات الشهداء والضحايا فيها لم تتوقف يوما، وأن الأصداء لا تزال قادرة على إرباك الصمت وفضح التخاذل.