عربي21:
2025-12-14@07:54:31 GMT

عام على الطوفان.. حرب الوجود ومعارك الحدود

تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT

- "الحرب في غزة وجودية إما نحن أو وحوش حماس" (بنيامين نتنياهو- 13 أيار/ مايو 2024)

- "اسرائيل بحاجة إلى الأسلحة الأمريكي في حرب تخوضها من أجل وجودها" (بنيامين نتنياهو- 24 حزيران/ يونيو 2024)


عام مضى منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى وما تلاها من غزو همجي لعصابات الصهاينة في فلسطين المحتلة، وبالرغم من كل ما جرى من دمار وتخريب وقتل على الهوية راح ضحيته قرابة خمسين ألف نفس بشرية، من بينها أطفال ونساء وشيوخ، إلا أن التاريخ سيذكر صمود المقاومة الفلسطينية على مدار عام رغم الحصار الذي يمارسه الصديق قبل العدو، ورغم التكفير الذي يمارسه بعض من المحسوبين على السلفية وهي منهم براء، ورغم الخذلان الذي يمارسه قطعان المحبطين والمثبطين في وسائل الإعلام العربية، ورغم حروب البروباجندا التي تمارسها وسائل الإعلام الصهيونية عبر العالم، رغم كل شيء لا تزال المقاومة في الساحات تمارس دورها المرسوم، وهو حرب استنزاف قد تطول ولكنها بكل تأكيد ستدفع العدو إلى الخروج من الأراضي المحتلة مخذولا محسورا يوما ما.



عام على الطوفان، وليس الصمود الأسطوري للمقاومة وحده هو ما يثير الإعجاب والتأمل، بل إن تحولا كبيرا يستحق الالتفات إليه والاعتناء به وتفسيره على نحو صحيح لأنه ربما لم يأخذ حقه على مدار عام، وأعتقد أنه تحول استراتيجي سيغير المنطقة كلها سواء من زاوية السياسة وما يتعلق بها أو من ناحية الجغرافيا ومن ثم التاريخ الذي سيسجل ما يجري بطريقة تدعو الأجيال المقبلة للفخر والاعتزاز.

إن تحولا كبيرا يستحق الالتفات إليه والاعتناء به وتفسيره على نحو صحيح لأنه ربما لم يأخذ حقه على مدار عام، وأعتقد أنه تحول استراتيجي سيغير المنطقة كلها سواء من زاوية السياسة وما يتعلق بها أو من ناحية الجغرافيا ومن ثم التاريخ
في كلمة له بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لعملية طوفان الأقصى، قال رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو: "نحن في حرب ولسنا في عملية عسكرية ولا في جولات قتالية وإنما في حرب وسنرد بحرب شعواء بشدة لم يعهدها العدو"، و"هذه حرب على وجودنا، حرب القيامة هكذا أسميها" وأنه "كان الهجوم الأشد على الشعب اليهودي منذ المحرقة". وهذا الكلام يعني أن عملية طوفان الأقصى قد دشنت مرحلة جديدة من الصراع مع العدو الغاصب، الذي عاش لعقود على فكرة المعارك الخاطفة من أجل اقتطاع جزء صغير من هذه الدولة أو تفريغ مساحات (منزوعة السلاح) على الحدود من تلك الدولة، أو تحييد دول كبيرة من الصراع حتى يتفرد العدو بالشعب الفلسطيني ظنا منه أنه سيقدر عليه، فجاءه الطوفان ليدمر ما كان يفعل وما يعتقد ويدفعه للتفكير من جديد في حقيقة المشروع الصهيوني التوسعي وفي قدرته على البقاء في المنطقة، وتحول الحديث إلى صراع من أجل البقاء وليس معارك من أجل الحدود.

أدرك نتنياهو أن كل المعارك السابقة انتهت إلى لا شيء حتى في ظل توقيع عدد من الدول العربية اتفاقيات تطبيع، وآخرها اتفاقيات أبراهام التي وقعت تحت وطأة السيوف المشهرة في وجه الحكام العرب من قبل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كل هذه الاتفاقيات لم تجد نفعا ما دامت الشعوب العربية ترفض وجود هذا الكيان الغاصب وما دامت هناك حركة إسلامية ترفع لواء المقاومة من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.

لقد عمقت عملية طوفان الأقصى من مخاوف الصهاينة ليس على بعض الحدود أو الموارد الطبيعية التي خاضوا من أجل الاستيلاء عليها معارك قتالية وأخرى سياسية بدعم كبير وهائل من أمريكا والغرب، بل مخاوف الزوال والوصول إلى نقطة الفناء. وأعتقد أن تحليلهم العسكري والسياسي لعملية الطوفان قد أكد لهم أن المقاومة لا تسعى من أجل تحريك القضية فحسب، بل من أجل بدء مشروع كبير لتحرير فلسطين، وإلا فما كنا لنشهد كل هذا الرد الإجرامي على العملية التي للأسف يعتقد بعض الصهاينة العرب أنها جاءت على هوى الكيان ورغبته، بل زعم البعض زورا أنها بتنسيق مع العدو.

عمقت عملية طوفان الأقصى من مخاوف الصهاينة ليس على بعض الحدود أو الموارد الطبيعية التي خاضوا من أجل الاستيلاء عليها معارك قتالية وأخرى سياسية بدعم كبير وهائل من أمريكا والغرب، بل مخاوف الزوال والوصول إلى نقطة الفناء
لقد أعادت عملية طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى المربع الأول وهو مربع عام 1947 (عام التقسيم)، وتبين لنا جميعا أن حكام العرب الحاليين كأجدادهم لم يتغيروا وأنهم لم ينتفضوا لوقف المشروع الصهيوني؛ الذي تجلت معالمه في حرب 1948 التي تحركت فيها الشعوب وتراجعت أو تآمرت فيها الحكومات وانتهت بالإعلان عن قيام دولة الكيان في 14 أيار/ مايو 1948.

نجح الطوفان في إعادة المخاوف إلى لقب العدو المغتصب، ونجحت المقاومة على مدار عام في تعزيز هذه المخاوف رغم ما يبدو من انتصار عسكري قام فيه العدو بتدمير المدارس والجامعات قبل المساجد والكنائس، كما قام بدك المستشفيات قبل الورش والمصانع وقتل الأطفال والنساء قبل أن تصل يده إلى المقاومة، وهي كلها أهداف تكتيكية لم يستطع العدو ترجمتها إلى مكاسب استراتيجية تعزز وجوده في المنطقة أو تحسن صورته التي أصبحت ملطخة بالدماء في كل مكان حول العالم.

وهنا استحضر أحدث تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان الذي قال: "التحدي الذي تواجهه اسرائيل الآن هو تحويل الانتصار التكتيكي إلى استراتيجية تضمن بها بقاء إسرائيل"، أي أن المخاوف من عدم بقاء دولة الكيان قد امتدت إلى أمريكا الراعي الرئيسي للكيان الغاصب، وأن فكرة الزوال أو عدم الاستقرار والاستمرار لا تزال تسيطر على الذهن الصهيوني بمكوناته في فلسطين وأمريكا.

والسؤال هو: لماذا يشعر الكيان بهذا الشعور بقرب الزوال والفناء رغم أن علاقته السياسية والعسكرية والاقتصادية مع معظم الحكومات العربية تعتبر قوية ومتشعبة، ولطالما افتخر رئيس وزراء الكيان بهذه العلاقات وبأنها ترسم ملامح شرق أوسط جديد؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد من التذكير بما قلته في مقال سابق من أن الحرب الحالية ليست حرب جيوش نظامية، وهذا في حد ذاته أحدث فرقا كبيرا، فقد اعتاد الكيان الصهيوني على سحق الجيوش النظامية من خلال اختراقها عبر عملائه؛ الذين كان بعضهم يعتلي سدة الحكم ويحذر الكيان من تحركات دول المواجهة آنذاك (حرب أكتوبر 1973 هي آخر حرب نظامية بين العرب والصهاينة في فلسطين)، وبالتالي كانت حروبه خاطفة وسريعة تقوم على فكرة الصدمة والرعب مما يؤدي إلى انسحاب الجيوش فرارا من قوة الصدمة ومن رعب القتال، مشكلتي ليست مع نتنياهو وكبار مجرمي الصهاينة من اليهود، بل مع الصهاينة العرب الذين يمنون النفس بهزيمة المقاومة بينما نتنياهو ينتظر لحظة التخلص من كابوس زوال دولة الكيانبينما الحرب الدائرة اليوم هي حرب غير نظامية، هي حرب المقاومة الشعبية وبالأحرى المقاومة الإسلامية التي تتحرك عن عقيدة ودين وإرادة صلبة وعز ويقين في النصر أو الشهادة في سبيل الله.

ويدرك نتنياهو ورفاقه في الكيان أو في دول الجدار (الجوار سابقا) أن هذه المقاومة هي من نبت هذه الأرض ومن غرس هذا الدين العظيم الذي لا يقبل بالكيان الغاصب، وإن سمح بمعاملة أهل الكتاب معاملة حسنة فهذا لا يعني أن يسمح له باغتصاب الأرض والموارد تحت أي شعار وتحت أي ذريعة، كما يدرك أن التطبيع الراهن هو مجرد وهم في ظل رفض الشعوب له، ويدرك أن الحكومات الحالية هي حكومات مغتصبة للسلطة، وأنه إذا ما أتيح لها (أي الشعوب) فرصة الاختيار فإنها ستنتقي حكاما يقفون مع المقاومة الفلسطينية ويدعمونها، مثلما فعل الرئيس الشهيد محمد مرسي حين قال قولته المدوية: "لن نترك غزة وحدها".

الحرب الدائرة اليوم هي حرب الشعوب التي تبنت واحتضنت المقاومة في عدة دول رغم إرادة الحكومات، في لبنان وفي اليمن وفي العراق، وسوف تنتج هذه المقاومة إن لم يكن اليوم فغدا.

ويدرك نتنياهو الذي يزعم زورا أنه انتصر، أنه مهزوم ومأزوم وأن كل أمنياته اليوم أن يحافظ على دولة الكيان من الزوال والفناء، وأن المقاومة قامت بتقزيم وتحجيم إن لم يكن تحطيم أسطورة "من النيل إلى الفرات".

مشكلتي ليست مع نتنياهو وكبار مجرمي الصهاينة من اليهود، بل مع الصهاينة العرب الذين يمنون النفس بهزيمة المقاومة بينما نتنياهو ينتظر لحظة التخلص من كابوس زوال دولة الكيان.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة المقاومة إسرائيل إسرائيل غزة المقاومة طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة رياضة سياسة صحافة سياسة تكنولوجيا صحافة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عملیة طوفان الأقصى على مدار عام دولة الکیان فی حرب من أجل

إقرأ أيضاً:

مسيحيو لبنان.. هويات مشرقيّة صغيرة بين محدودية التمثيل وتحديات الوجود

يشبه لبنان متحفاً حيّاً للطوائف، وفسيفساء مذهبية فريدة من نوعها في محيطه العربي. وقد اتسم تاريخه بالتداخل بين الدين والسياسة، والصراعات على النفوذ وحفظ الهوية، ما جعل منه حالةً فريدةً في الشرق الأوسط، أو ربما استثناءً تاريخياً في تشكيله الطائفي المتنوّع الذي يتجاوز الصورة التقليدية لطوائفه الكبرى المعروفة، والتي لعبت أدواراً محورية منذ استقلاله، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الطائف. إذ تختزن ذاكرة هذا البلد الصغير تنوعاً مذهلاً لطوائف ومذاهب، بقي بعضها مجهولاً للكثيرين، تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من نسيجه الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي ظلّ تجاهل إعلاميّ معتاد، بقيت هذه الطوائف في الظلّ، رغم ما تحمله من إرث غنيّ وقصص غير مروية، ودورٍ لا يُستهان به في تشكيل الهُوية اللبنانية، والتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي.

من هنا، يخصص موقع "عربي 21" سلسلة مقالات بعنوان "لبنان متحف طوائف الشرق الأوسط" وخصص هذه الحلقة للأقليات المسيحية في لبنان: اللاتين والآشوريين والكلدان، في محاولةٍ جادة وعميقة لإلقاء الضوء على هذه الجماعة، واستكشاف خصائصها وتاريخها وتراثها، والتعرف إلى الدور الذي لعبته وتلعبه اليوم في الواقع اللبناني، بعيداً من الصور النمطية والأحكام المسبقة.

هذه السلسلة ليست مجرد بحثٍ معرفي، بل هي جولةٌ بين مكوّنات مجتمعٍ زاخر بالتنوع، لا يزال رغم صراعاته قادراً على البقاء كأحد أغنى نماذج التعددية في الشرق الأوسط.

تُشكل طوائف اللاتين والآشوريين (السريان الشرقيون) والكلدان جزءًا هامًا وإن كان ضئيلاً من الفسيفساء المسيحية اللبنانية. تتشارك هذه الطوائف في الانتماء إلى المظلة المسيحية، لكنها تتباين في أصولها التاريخية، طقوسها الليتورجية، وواقعها الديموغرافي.

الخصائص الاجتماعية والدينية

تعود نشأة طائفة اللاتين التابعة للكنيسة الكاثوليكية في روما إلى البعثات التبشيرية الأوروبية والإرساليات وكذلك إلى وجود بعض الرعايا الأجانب في لبنان (تجّار، دبلوماسيون، موظفون) الذين يتبعون الطقس اللاتيني. وتُعد هذه الطائفة الأصغر ديموغرافيًا ويتركز أبناؤها في بيروت الكبرى وضواحيها، ويغلب على فئة منهم الاندماج الاجتماعي والمهني ضمن النخب المتعلمة ويُعرَفون بالتوجه نحو التعليم العالي والمهن الحرة. ومن أشهر عائلات اللاتين في لبنان: كفتاوي (أصلها keftago)،  إسكندر، كتانة، منصور، غنطوس، ريشا، الداية، بوشي، سبيللا (Spella)، سيستو (Sisto).

تُشكل طوائف اللاتين والآشوريين (السريان الشرقيون) والكلدان جزءًا هامًا وإن كان ضئيلاً من الفسيفساء المسيحية اللبنانية. تتشارك هذه الطوائف في الانتماء إلى المظلة المسيحية، لكنها تتباين في أصولها التاريخية، طقوسها الليتورجية، وواقعها الديموغرافي.
فيما تعود أصول الآشوريين وهم السريان الشرقيون إلى سوريا والعراق وماردين في تركيا وهي طائفة أصيلة لها امتدادات تاريخية جاءت إلى لبنان في موجات لجوء تاريخية، أبرزها بعد مذابح سيفو عام 1915 وعملية سميل 1933. يتبع أبناء طائفة الآشوريين إلى الطقس السرياني الشرقي (الذي يُعرف خطأً بـ "النسطوري") وهي تُمثل أكبر الأقليات الثلاث التي يتناولها هذا البحث. يتركز أبناؤها في زحلة، وبلدة "الفاكهة" في البقاع الشمالي، وبيروت وبعض ضواحي المتن (مثل سدّ البوشرية والجدَيدة وسن الفيل والدورة) و يتميزون بالحفاظ على لغتهم السريانية الشرقية. ومن أشهر العائلات الآشورية في لبنان: يونان، خوري آغا، قاشا، عائلة كيوركيس/ كوركيس، بايتو، شمعون، مراد.

أما الكلدان فهم بالأصل طائفة سريانية شرقية مثل الآشوريين، لكن الطائفة انفصلت عن كنيسة المشرق واتّحدت مع الكرسي الرسولي (الفاتيكان، روما). وفدوا إلى لبنان بشكل أساسي من العراق في موجات هجرة ولجوء متتابعة، آخرها بعد الحرب الأميركية –البريطانية على العراق في العام 2003 وما تلاها. للكلدان في لبنان وجود ملحوظ خصوصاً في قضاء المتن (مناطق الدورة والجدَيدة وعين الرمانة) وكذلك في مدينة بيروت. ويتميزون بالحفاظ على طقوسهم الكلدانية الخاصة ولغتهم السريانية الآرامية الحديثة. ومن أبرز عائلات الكلدان في لبنان: حكيم، تفنكجي، قصارجي، سـاكي، حنّاوي، تيغو، ورده، موصلي، ترزيخان، كوبلي، زريفة.

إذاً، يمكن تلخيص نقاط الاختلاف الجوهرية بين الطوائف الأقلية الثلاث بأنها تباينٌ لا أكثر، تباين الأصول والطقوس الليتورجية إذ ما زالت طائفة اللاتين متأثرة بالطقس الغربي (الروماني) الذي يجعلها في نظر البعض "أجنبية" وغير أصيلة في المشرق، فيما يتأثر الآشوريون والكلدان بطقوس شرقية (سريانية) مستوحاة من أصولهم المشرقية القديمة ومن تاريخهم المرتبط باللجوء القسري من المشرق رغم أن الكلدان اختاروا الاندماج مع الكنيسة الكاثوليكية، بينما الآشوريون لم يختاروا ذلك.

الأدوار السياسية

من الاستقلال إلى الطائف مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية، بقي الدور السياسي لهذه الطوائف الثلاث، محكومًا بـ تحالفاتها الإقليمية والتحاقها بالمظلة المارونية الأكبر، نظرًا لضآلة حجمها، أو محكوماً بتأثير شخصياتها الذين يشغلون مواقع مهنيّة حساسة أو يمتلكون ثروات.

ومن خلال تعداد المحطات المفصلية في تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي يتبين أن الطوائف الثلاث ركزت على حماية وجودها وتثبيت مؤسساتها أكثر مما ركزت على لعب أدوارٍ قيادية مؤثرة في مسار الأحداث.

ففي مرحلة السعي للاستقلال (1920 ـ 1943) كان دور اللاتين يتمحور حول الوجود الدبلوماسي والثقافي الغربي وتأثيره. كان بعض أفرادهم يعمل في مؤسسات الدولة الحديثة أو الإرساليات الأوروبية، ما ساهم في صقل النخب اللبنانية. فيما تركز دور الآشوريين على تثبيت وجودهم كلاجئين والسعي للحصول على الجنسية اللبنانية والحقوق الكاملة، بالاعتماد على دعم بعض القوى المسيحية الأكبر فيما اقتصر دور الكلدان على الاندماج الاقتصادي والاجتماعي، من دون دور سياسي فاعل ومستقل نظراً لمحدودية توزعهم الديمغرافي وقلّة عددهم.

أما خلال سنوات الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) فلم تنتج أي من الطوائف المذكرو ةحزباً سياسياً خاصاً بها أو ميليشيا خاصة، لكن برزت بعض الشخصيات اللاتينية في مواقع تحالفات داخل الأحزاب المسيحية الأكبر من دون أن يُعرفوا بنحوٍ مباشر على أنهم لاتين، أما الطائفة ككل، فمالت إلى الابتعاد عن الانخراط المباشر، رغم أن بيروت الشرقية التي يتمركز فيها اللاتين تعرّضت للقصف والاشتباكات.

فيما انخرطت فئة من شباب الآشوريين في أحزاب القوات اللبنانية وغيرها من الميليشيات المسيحية للحماية الذاتية، خصوصاً في مناطق المتن (مثل الجدَيدة). كما شكلوا بعض التنظيمات الصغيرة للمطالبة بحقوقهم.

وبقي وضع الكلدان هشًا بسبب ضعف التنظيم الداخلي للطائفة وتفاقم الهجرة لذلك انخرط الكلدان بشكل محدود جدًا في حماية مناطقهم، لكن دورهم كان هامشيًا مقارنة بالطوائف الكبرى.

وأخيراً، خلال مرحلة الطائف (1990) وما تلاها تجلّى دور اللاتين بشكل أساسي من خلال النخب المتعلمة في القطاع المصرفي وسلك القضاء والمناصب الدولية، مستفيدين من الاندماج في النسيج المهني اللبناني من دون تشكيل قوة تصويتية مستقلة ومؤثرة.

بينما كثّف الآشوريون جهودهم للمطالبة بترسيم هويتهم السريانية ضمن القانون، والمطالبة بمقعد نيابي خاص بهم لتعزيز تمثيلهم كطائفة عابرة للحدود. وركز الكلدان على الدفاع عن حقوق المهاجرين الجدد من العراق وسوريا، والعمل على تأمين الإقامة وتسهيل الاندماج، مستفيدين من الدعم الكنسي.

رغم انتماء هذه الطوائف إلى المظلة المسيحية اللبنانية، فإن حضورها السياسي ظلّ هامشيًا عبر مختلف المراحل ولم تُنشئ أي منها تنظيماً خاصاً يحميها في بلد الطوائف والمحاصصة،تجدر الإشارة إلى أن التمثيل النيابي لهذه الطوائف الثلاث غير مباشر رغم أن القانون اللبناني يخصص مقاعد مباشرة للطوائف الـ 18 المعترف بها رسميًا في الدستور. لذلك يتم إدراج التمثيل النيابي للاتين ضمن خانة "الأقليات" المسيحية التي تتشارك في مقاعد محددة أو تتوزع على لوائح الأغلبية في دوائر بيروت فيما يصوّت اللاتين المسجلون في الدوائر الانتخابية الأخرى ولا سيما المتن من دون تخصيص طائفي. ويُذكر أن الطائفة اللاتينية تحظى بمقعد في مجلس بلدية بيروت (مخصّص لطائفة اللاتين في القيد البلدي).

أما الآشوريون والكلدان فليس لهم مقعد مباشر كأفراد لكن، تم إقرار مقعد مخصص لـ "السريان الكاثوليك والأرثوذكس" وكنا قد تحدثنا عنهم في مقال سابق، لذلك ينظر أبناء الطوائف السريانية الأخرى إلى مقعد "السريان" كاسم جامع يمثل هويتهم المشرقية الواسعة (الآشوريون، الكلدان، السريان).

لا بدّ من الإشارة إلى أن المقعد الذي يُشار إليه أحيانًا بـ "مقعد الأقليات المسيحية" في بيروت الأولى (دائرة الأشرفية، الصيفي، الرميل) هو مقعد يتنافس عليه عدد كبير من الأقليات، بما في ذلك اللاتين والكلدان والآشوريون والأرمن الكاثوليك وغيرهم.

الواقع والتحديات

تواجه هذه الأقليات المسيحية الثلاث تحديات عميقة تهدد استمراريتها وتأثيرها في المجتمع اللبناني، وهي تحديات مشتركة لكل الأقليات المسيحية المشرقية. وتتمثل بـ:

-ـ الهجرة والنزيف الديموغرافي: إذ يسجل الآشوريون والكلدان أعلى معدلات الهجرة، بسبب الظروف الاقتصادية في لبنان، وبعضهم ينظر إلى لبنان بوصفه محطة عبور (ترانزيت) للهجرة إلى أميركا وأوروبا وأستراليا، حيث توجد تجمعات كلدانية وآشورية أكبر وأكثر دعمًا واحتضاناً. فيما تستمر فئة من اللاتين في الهجرة لأسباب مهنية أو لعودة الأصول إلى أوروبا.

ـ الاندماج السياسي مقابل الحفاظ على الهوية: يواجه الآشوريون والكلدان تحدّيًا بين الاندماج الكامل في المجتمع اللبناني (لغةً وثقافةً) وبين الحفاظ على لغتهم السريانية/الآرامية وطقوسهم الشرقية الخاصة. كما أنهم يطالبون بـ اعتراف سياسي أوضح يمنحهم تمثيلاً نيابيًا صريحًا.

ـ صعوبة التعبير السياسي المستقل: نظرًا لضآلة العدد، تجد هذه الأقليات صعوبة في تشكيل قوة تصويتية مستقلة، مما يضطرها إلى التحالف مع الطوائف المسيحية الكبرى (كالموارنة والروم الأرثوذكس) أو الذوبان فيها، الأمر الذي يقلل من ظهور قضاياهم الخاصة على الأجندة الوطنية.

ـ التحديات الاقتصادية والاجتماعية: أزمة لبنان الاقتصادية أثرت بشكل خاص على الكلدان والآشوريين، الذين يعتمدون على شبكات دعم اجتماعي أقل رسوخًا مقارنة بالطوائف اللبنانية الكبرى.

في الخلاصة، رغم انتماء هذه الطوائف إلى المظلة المسيحية اللبنانية، فإن حضورها السياسي ظلّ هامشيًا عبر مختلف المراحل ولم تُنشئ أي منها تنظيماً خاصاً يحميها في بلد الطوائف والمحاصصة، ولعل هذا ما يجعل التحديات المستقبلة أكثر صعوبة ومصيرية من تلك التي تواجهها الطوائف الكبرى التي لا تخشى تآكل وزنها الديموغرافي. وفي ظل غياب تمثيل سياسي واضح يعكس خصوصيتها، تعيش الأقليات المسيحية  ولا سيما اللاتين والآشوريون والكلدان أزمة وجودية قد تهدد استمرار حضورها التاريخي في لبنان كمكوّن أصيل من فسيفسائه الطائفية.

مقالات مشابهة

  • شاهد / الفيديو الذي حذفته قناة الإخبارية السعودية .. بعد انتشاره كالنار في الهشيم
  • ألمانيا تطالب الكيان الإسرائيلي بالوقف الفوري للاستيطان بالضفة
  • معكم حكومة بريطانيا.. المكالمة التي تلقتها الجنائية الدولية بشأن نتنياهو
  • “لجان المقاومة” : الكارثة الإنسانية في غزة فصل جديد من فصول حرب الإبادة الصهيونية
  • ما الذي تخطط له العدل الإسرائيلية بشأن العفو الرئاسي عن نتنياهو؟
  • مسيحيو لبنان.. هويات مشرقيّة صغيرة بين محدودية التمثيل وتحديات الوجود
  • “حماس” ترفض مزاعم تقرير العفو الدولية عن ارتكاب المقاومة جرائم في جيش العدو الصهيوني
  • حماس تستهجن تقرير "العفو الدولية" الذي يزعم ارتكاب جرائم يوم 7 أكتوبر
  • الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: مقاومة العدو الاسرائيلي حق أصيل وخيار وطني لابديل عنه
  • حقيقة الأهداف الأميركية في سوريا