جريدة الوطن:
2025-08-01@16:01:50 GMT

الآليات الاقتصادية لتنمية المجتمع المدني

تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT

الآليات الاقتصادية لتنمية المجتمع المدني

لا شكَّ أنَّ أيَّ تنمية وطنيَّة شاملة، ومن ضِمْنها تنمية المُجتمع المَدَني، لا يُمكِن أن تتحققَ ما لَمْ يسبقها تحقيق مستوى معيَّن من التطوُّر الاقتصادي، في وقت ما زلتُ أُصرُّ فيه على استحالة تحقيق أيِّ تطوُّر اقتصادي ما لَمْ يسبقه تطوُّر وإصلاح سياسي يبدأ بتمكين وتطوير الثقافة السياسيَّة للمُجتمع. بمعنى آخر، أن يكُونَ المُجتمع جزءًا لا يتجزَّأ من التدابير السياسيَّة التي تهدف إلى تعزيز الاقتصاد الوطني.


إنَّ أيَّ نظام سياسي يعيش في ظلِّ ثقافة سياسيَّة معيَّنة، هي مجموعة الاتِّجاهات والمعتقدات والمشاعر التي تُعطي نظامًا ومعنى للعمليَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة، وتعكس نوعيَّة المناخ السَّائد وطبيعته داخل النَّسق السياسي، وعلى ذلك لا يُمكِن أن ينشطَ المُجتمع المَدَني لمجرَّد توافُر هياكل تنظيميَّة مستقلَّة من الناحية النظريَّة؛ أي وجود قوانين ومؤسَّسات عامَّة يبدو ظاهرها الاستقلاليَّة والحياديَّة، بَيْنَما يؤكِّد الواقع العملي أنَّها تعمل على احتكار السُّلطة ولا تشجِّع على حُريَّة التعبير والتفكير، بالإضافة إلى وضعها للعديد من المُعوِّقات أمام قيام المُجتمع بأدواره الفاعلة في بيئته السِّياسيَّة.
لعلَّ أبرز الآليَّات التي يجِبُ أن تعملَ الأنظمة السِّياسيَّة على تشجيعها وتمكينها ـ إن كانت ترغب في تحقيق البيئة السِّياسيَّة السليمة والتي بِدَوْرها تشجِّع التطوُّر والتنمية الاقتصاديَّة ـ هي تمكين التنشئة الاجتماعيَّة ـ السِّياسيَّة، والثقافة السِّياسيَّة الهادفة إلى إطلاق روح الإبداع والمبادرة المُجتمعيَّة، بالإضافة إلى تهيئة البيئة السِّياسيَّة والتشريعيَّة التي تشجِّع المُجتمع على الرقابة والمحاسبة والمساءلة، أمَّا خلاف ذلك فلَنْ يكُونَ سوى مضيعة للموارد البَشَريَّة والماليَّة.
ولنضرب أمثلةً لتقريب وجهة النظر السَّابقة، أيُّهم أقدر على حماية وطنه والمشاركة في تنميته الوطنيَّة ومواجهة التحدِّيات التي يمرُّ بها، ومن ضِمْنها التحدِّيات الاقتصاديَّة، هل هو المواطن المطمئن على مستقبله ومستقبل أبنائه الواثق من حكومته؟ أم ذلك الخائف القلق المُحبَط دائمًا؟ لعلَّ الجواب سهل جدًّا في السِّياق السَّابق، ولكنَّ الأهم هو الكيفيَّة التي يُمكِن من خلالها تحقيقُ وتمكينُ المواطن من الوصول إلى تلك الغاية.
مؤكَّد أنَّ ذلك لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بتوفير فرص العمل لأبناء الوطن وتهيئة البيئة الاقتصاديَّة لذلك، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بالحدِّ من هجرة الكفاءات الوطنيَّة والعقول العلميَّة، وتمكين حمَلة الشهادات الجامعيَّة من خدمة وطنهم، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بإفساح المجال للمواطن للمشاركة السياسيَّة في القرارات المصيريَّة، خصوصًا تلك التي تلامس حياته اليوميَّة ومستقبل أبنائه.
لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بإفساح البيئة القانونيَّة للمواطن كَيْ يتمكَّنَ من التعبير عن الرأي بِدُونِ خوف، خصوصًا حيال ثروات وطنه، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بتمكين الإعلام من ممارسة حقِّ الرقابة المسؤولة، لا يُمكِن أن يتحققَ إلَّا بالمحاسبة ومكافحة الفساد…إلخ.
أمْرٌ آخر مرتبط بالعلاقة بَيْنَ السِّياسة والاقتصاد بحيث لا يُمكِن أبدًا فصلهما عن بعض. ولتقريب وجهة النظر حَوْلَ ذلك أقول: إنَّ العنف ينخفض ـ كما نعلم ـ في الأنظمة السِّياسيَّة التي تعتمد الحداثة والإصلاح والتقارب مع المُجتمع وتمكين المواطن من حقوقه العامَّة في ظلِّ وجود مؤسَّسات سياسيَّة ومُجتمعيَّة تُنظِّم تلك العلاقة بَيْنَ المُجتمع والمؤسَّسة السِّياسيَّة، بالتَّالي فإنَّ انخفاض العنف السِّياسي ومعدَّلاته سيؤدِّي مع الوقت إلى ارتفاع معدَّلات التنمية الاقتصاديَّة، والعكس صحيح. فهناك علاقة تناسب عكسيَّة بَيْنَ التنمية الاقتصاديَّة والعنف؛ أي كُلَّما تزايدت مظاهر الإصلاح الاقتصادي انحسرت مظاهر العنف السِّياسي والعكس صحيح.
ومن المؤكَّد أنَّ انخفاض العنف ومستوى الجريمة يتحقق فقط في البيئة السِّياسيَّة التي يتوافر بها الأمن والاستقرار بمختلف أشكاله، وعلى رأسه الاستقرار والأمن الإنساني، في البيئة التي ينخفض فيها حجم الفساد وتتوسَّع فيها رقعة الديموقراطيَّة والمحاسبة، في بيئة يستشعر فيها الفرد العامل بالاستقرار نتيجة وجود رواتب تتناسب مع مستوى الغلاء، وأسعار السِّلع والخدمات تتناسب مع دخل الفرد.
باختصار، الإصلاحات الاقتصاديَّة، وبناء منظومة اقتصاديَّة وطنيَّة تُواكِب المتغيِّرات الحاصلة في البيئة الأمنيَّة والاقتصاديَّة العالميَّة لا يُمكِن أن يتحققَ عَبْرَ إصلاحات اقتصاديَّة مادِّيَّة بحتة، فالاقتصاد ليس قِيَمًا جامدة، بل يبدأ بالإنسان وينتهي معه، يبدأ بالقِيَم والعوامل البَشَريَّة وينتهي بها، وكُلُّ ما سبق لا يُمكِن أن يتحققَ كذلك دُونَ عبور بوَّابة الإصلاحات السياسيَّة.
إذًا لَنْ تنجحَ أيُّ إصلاحات اقتصاديَّة ما لَمْ تبدأ بالإنسان وتنتهي عِنده.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
[email protected]
MSHD999 @

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ة السیاسی التی ی مع الم ة التی

إقرأ أيضاً:

سفراء أهل البيت السياسي على طاولة الإطار.. تحرك لـحذف واستحداث

سفراء أهل البيت السياسي على طاولة الإطار.. تحرك لـحذف واستحداث

مقالات مشابهة

  • برلماني: دعم الاحتياطي النقدي وتوفير النقد الأجنبي يتحقق بهذه الإجراءات
  • منظمات المجتمع المدني تدعو ويتكوف لزيارة مشافي غزة
  • سفراء أهل البيت السياسي على طاولة الإطار.. تحرك لـحذف واستحداث
  • قومي حقوق الإنسان يعقد لقاءً تشاوريًا موسعًا مع النشطاء ومنظمات المجتمع المدني
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: الإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس الشرع تعمل بشكل متواصل لحل جميع المشكلات التي تواجه الشعب السوري، وخاصة الاقتصادية منها، بهدف دفع عجلة التنمية وتحسين نوعية حياة المواطنين
  • تنفيذ مشروع لتنمية ثروة المحار في مسندم
  • مدير الشؤون القانونية في الهيئة العامة للطيران المدني السوري هادي قسام لـ سانا: توقيع اتفاقية استثمار الإعلانات في مطار دمشق الدولي مع شركة “فليك” الإماراتية، جاء بعد فوزها في المزايدة التي أُجريت وفق الأصول واستيفائها لكامل الشروط الفنية والق
  • روسيا: السلام في الشرق الأوسط لن يتحقق دون إقامة دولة فلسطينية
  • وزير العدل يؤكد تعاون حكومة السودان مع الآليات الدولية ووكالات الامم المتحدة الخاصة بحقوق الانسان
  • مجلس الشؤون الاقتصادية: تقدم إيجابي بنتائج سياسات التنويع الاقتصادي ضمن رؤية 2030