صحيفة الاتحاد:
2025-08-02@20:38:53 GMT

كتاب الجيب.. وترقية وعي القارئ

تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT

د. عزالدين عناية

أخبار ذات صلة مانويل راباتيه لـ «الاتحاد الثقافي»: قصة التاريخ.. من «اللوفر - أبوظبي» إلى العالم إعادة مهاجرين من ألبانيا إلى إيطاليا بعد حكم قضائي

ترد تسمية «كتاب الجيب» في العربية في مقابل الصيغة الإنجليزية «pocketbook»، وهي تحيل على شكل معين من الكتب، على صلة بالسعر الزهيد وبالحجم الصغير.

وتاريخياً ظهر أول كتاب للجيب في البندقية في مطلع القرن الخامس عشر، من إعداد الإيطالي ألدو مانوزيو، الذي راهن على صناعة كتب يسيرة الحمل محدودة الحجم، ومتقنة الشكل. استهدف مانوزيو ببضاعته جمهور القراء، ممن يتطلّعون إلى حيازة مكتبة تحوي المؤلفات الكلاسيكية، وليس الدارسين والكتّاب فحسب. وقد ظهر أوّل كتاب من هذا الصنف وبسعر مقبول حينها سنة 1501م، حيث استهلّ مانوزيو مغامرته بنشر كتاب الشاعر فرجيليو «بوكليك»، وذلك بحجم عشرة سم فقط.
نعرف أنّ ذلك العهد، شهد سقوط القسطنطينية (1453م)، وطُويت مع ذلك الحدث صفحة الإمبراطورية البيزنطية. غادر جراء ذلك كثير من المثقفين الإغريق القسطنطينية باتجاه البندقية، وهو ما مثّل سنداً ودافعاً للطبّاع مانوزيو في خيارات النشر التي راودته، إذ بفضل جماعات المثقّفين الوافدين تسنّى له اكتشاف التراث الإغريقي، والانطلاق في مغامرة نشر الأعمال الكلاسيكية. وفي واقع الأمر تضافرت عوامل عدّة شجّعت على بروز الظاهرة، منها تهيّؤ المناخ العام الذي كان يتطلّع فيه الناس إلى التحرر من رقابة الكنيسة. فكما يقول ماريو إنفِليزي مؤلف كتاب «الكتب الممنوعة» (مشروع كلمة، 2012): كانت الرقابة الفعلية تكمن حقيقةً وبقوة، في أيدي محكمة التفتيش. عامل آخر ساهم في تحفيز عالم النشر، ألا وهو التقدم الحاصل في مجال الطباعة مع الألماني غوتينبيرغ سنة 1455، بابتكار طباعة الحروف المتحركة، وهو ما مثّل تحولاً ثورياً في صناعة الكتاب.
ظاهرة الكتب الموجهة للاستعمال الميسّر، ليست غريبة عن تاريخ صناعة الكتاب لدينا. ففي بلاد المغرب الكبير، وبتأثير من المؤسستين العلميتين العريقتين الزيتونة والقرويين، ظهرت سلسلة من المخطوطات لا تزال نماذج منها مودعة في مكتبة الفاتيكان في روما (هي في الأصل كتيبات للتداول) لا يتجاوز حجم الواحد منها مفتوحاً الكفين، كانت موجهة بالأساس إلى طلبة العلم، ومما يتسنى نقله وحمله بيسر. ربما لم يدخل ذلك التقليد في دورة تجارية تسويقية على ما شهدناه في التاريخ الحديث مع تحولات النشر الصناعي، وهو ما قلّص الانتشار وحصرها في فئات اجتماعية محدودة.
التسويق الفعلي 
مع مطلع العصور الحديثة، تطوّرت في ألمانيا ظاهرة «كتاب الجيب» الزهيد السعر والصغير الحجم، بظهور ما كان يسمى بـ (Volksbuch)، وفي فرنسا مع «سلسلة المكتبة الزرقاء». ويمكن القول، إن التسويق الفعلي لكتاب الجيب، في الفترة المعاصرة، قد انطلق في إنجلترا منذ 1935 مع مغامرة «بينغوين» بنشر كتب الجيب (paperbacks)، ومع (chapbooks)، التي كان يعمل على ترويجها باعة جوّالون بأسعار زهيدة. وأما في إيطاليا فقد انطلقت الموجة مع الناشر «ريتزولي» سنة 1949، بإنشاء سلسلة «بور»، أي «مكتبة ريتزولي العالمية»، التي عملت على طباعة مؤلفات مشاهير الكتّاب الكلاسيكيين وفق المواصفات الجديدة. أتت التجربة الإيطالية بعد تجربة «بينغوين» الإنجليزية، و«ريكلام» الألمانية، و«سيمون شوستر» الأميركية.
 ولقيت تجربة «ريتزولي» استحساناً واسعاً وترحيباً هائلاً بين القراء خلال السنوات الأولى. وبرغم وفرة المبيعات اصطدمت التجربة بمرور الوقت ببعض المصاعب، لتبقى سنوات التطور الكبرى بين الستينيات والتسعينيات. فمع كتاب الجيب سجّل عدد القراء تطوّراً ملحوظاً، ولاقت التجربة استحساناً وسط الجمهور. ولم يوسّع كتاب الجيب دائرة القراءة فحسب، بل خلق قراءً جدداً كانوا بانتظار الرحيل نحو عالم القراءة. لعبت أكشاك الجرائد والمجلات في العملية دوراً بارزاً في تقريب المعروض الجديد من القراء، هجر فيها الكِتاب جدران المكتبات.
وفي البلاد العربية حقق «كتاب الجيب» نجاحات مع تبني مؤسسات تابعة للدولة أو شبه تابعة للدولة المشروع، ولكن منذ أن فوّتت الدولة القومية والوطنية في الكتاب التوعوي للمؤسسات الخاصة صار الناشر- التاجر يحصي العائدات المالية، وما يجنيه من كل مغامرة جديدة قبل التفكير في ترقية وعي القارئ. وكما نعلم عالم النشر هو عالم يختلط فيه مطلب المعرفة السامي بحسابات الربح العاجل. هنا اختلّت معادلة الناشر والقارئ، وداخلها الاضطراب، حتى أضحت أزمة مزمنة.
مجد التجربة 
ولو تمعنّا نجاحات كتاب الجيب، نرى ترافق مجد التجربة مع أكشاك الجرائد، حين كانت تمثل نقاط الترويج الأساسية. ولكن يبدو أن رحلة كتاب الجيب لم تتوقف هناك، بل تواصلت في «المغازات» العامة، وفي «المولات» التجارية، ولدى باعة السجائر، وربما سنجد كتاب الجيب يوماً في فضاءات تجمّعات الناس، مثل المقاهي، والملاهي، ومحطات النقل الكبرى. فخلال تطوافي في البلاد العربية لفتت انتباهي ظاهرة جميلة وفريدة في المغرب الأقصى، وهي باعة الكتب المتجولون وهم يرتادون المقاهي والمطاعم والساحات ويعرضون بضاعتهم على غرار غيرهم من الباعة، وهم غالباً يحملون ما خفّ وزنه وزهد ثمنه من الكتب التي لا ترهق حاملها ولا تثقل على قارئها.
وبمقياس تجاري تمثّلُ كتب الجيب الشعبية البضاعة الأوفر دخلاً لأصحاب مؤسسات النشر، إذ يتراوح المكسب المادي من كتاب الجيب في دور النشر الغربية بين 40 و45 بالمئة، بخلاف الطبعات الأولى للكتاب العادي، فهي تتراوح في حدود 20 – 25 بالمئة، وهذا لدى دُور النشر التي تحترم القارئ وتلبي رغباته ولا تعمل على استنزافه. وفي هذا الصنف من الكتب لا يعود الكسب لدى الناشر إلى عوامل مادية: نوعية الورق، والتجليد، والغلاف الطيّع، ولكن إلى تراجع التكاليف. إذ لا يدفع الناشر حق الترجمة والمراجَعة، وإصلاح المخطوطة وتدقيقها، أو إعادة التحرير، أو تكليف فنان بإنجاز صورة الغلاف الخارجي وما شابه ذلك. وإن تبقى الطبعات الأولى، على حد تقدير خبراء النشر، الأكثر مبيعاً نظراً إلى طبيعة السوق المحكومة في الغالب بما يُعرَض من بضاعة جديدة.
عادات القراءة 
في واقع الأمر يعكس حجم الكتاب التحولات الاجتماعية، وهو يكشف عن ظهور فئات جديدة من القراء داخل الشرائح التقليدية، ويخبر عن تغير عادات القراءة، وأن الحدس بوجود جمهور قرائي يمكن استهدافه، كان فيما سبق خفياً، هو ما يعيد النظر في الكتاب شكلاً ومحتوى، إذ غالباً ما ينبني التفكير في إطلاق كتاب الجيب على تفريق بين صنفين من القراء: القراء الدارسون الذين يقرؤون على الطاولات، ويجلسون على الكراسي، وهؤلاء لا يعنيهم كثيراً كتاب الجيب، ولكن يبقى المستهدَفون بكتاب الجيب هم قراء المتعة والفراغ، ممن يقرؤون على الأرائك، أو مرتخين على أسرّة النوم، أو في وسائل النقل العمومي، ممن يقضون وقتاً لا بأس به في المحطات والقطارات والحافلات وما شابهها، وهؤلاء من يتمّ استهدافهم بسلسلة الكتب الشعبية زهيدة السعر صغيرة الحجم. وإن كان مع العالم الافتراضي الجديد قد تأثر، على حد سواء، الكتاب الكلاسيكي وكتاب الجيب بالتحدي الجديد.
الحديث عن الطبعات الشعبية، وعن كتاب الجيب، وعن الكتاب للجميع، هو في واقع الأمر خيار وطني، وليس خيار مؤسسات خاصة، مهووسة بتكديس الربح ولا يعنيها كثيراً ترقية الوعي.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الثقافة البندقية إيطاليا الإمبراطورية البيزنطية

إقرأ أيضاً:

كتاب يعيد قراءة سقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين

الكتاب: النزعة العربية وأثرها على الموالي في عصري صدر الإسلام والدولة الأموية
الكاتب: الدكتور جوتيار تمر
الناشر: تموز ـ ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع ـ دمشق، الطبعة الأولى 2024
306  صفحة من القطع الكبير.


هذا هو الجزء الثالث والأخير من قراءة خاصة كتبها الباحث التونسي توفيق المديني لصالح "عربي21"، في كتاب "النزعة العربية وأثرها على الموالي في عصري صدر الإسلام والدولة الأموية" للدكتور جوتيار تمر، الصادر عن دار تموز ـ ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع (دمشق، الطبعة الأولى، 2024).

ويغوص هذا الجزء في الجدل التاريخي والفكري حول الثورة العباسية ودور العرب والموالي فيها، موضحاً مسار النزعات القبلية والسياسية التي حكمت العلاقة بين المركز العربي و"الأطراف" غير العربية، وصولاً إلى لحظة الانقلاب العباسي وملامح الدولة الجديدة.


جدلية الثورة العباسية بين الموالي والعرب ونهاية الدولة الأموية

شاع لعقود تاريخية طويلة، أن الثورة العباسية قامت على اكتاف الفرس الموالي، بل وصفها البعض على انها ثورة الموالي على العرب، وبات مسلماً عند الكثيرين أن العرب فقدوا سلطانهم بعد زوال الدولة العربية الأموية، إلا أن البحث عن مضمون الثورة العباسية، وفصل الأحداث ودراسة كل حدث منفرداً ومن ثم ربط خيوطها ببعض سيتضح جلياً، بأن الثورة قامت على اكتاف العرب من أهل خراسان، خاصة القبائل العربية اليمانية والربعية التي اخذت لنفسها مواطن استقرار كثيرة في خراسان وما حولها، وذلك ما تؤكده وصايا إبراهيم بن محمد العباسي مفجر الثورة، الذي حث فيها الدعاة على التقرب إلى الاحياء العربية في خراسان وجذبها إلى الانضمام في صفوف الثورة، ناهيك أن النقباء الاثنا عشر كانوا كلهم عرب أو مولى للعرب، وذلك ما يدحض مقولة أن الثورة أعجمية، انما كانت الثورة عربية المنشأ، والروح، والعقيدة، والسلطة، والعجم لم يكونوا سوى وقود حرب استغلوا في أوقات الشدة والحاجة، وتلك الفرضية هي ما ستثبتها الدراسة وفق ما يأتي:

اتسعت رقعة الدولة العربية الأموية وباتت القوى القبلية نافذة ومسيطرة على غالبية الأقاليم والأمصار والبلدان التي خضعت الحتمية الاجتياح العربي، ولم يتغير شيء من معالم الرؤية القبلية العربية وبقيت خاضعة لمنطق، أن العرب أمة واحدة، المؤمنون أخوة، وهم المؤمنون والمسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهر معهم، والأمة تقوم على الدين، تحولت الأراضي التي وقعت تحت سيطرتهم بفعل القرابة الدين إلى حق من حقوق الملكية العربية، أما السكان الأصليين لتلك الأراضي فهم موالي، وفي أفاءه الله عليهم، بل أنهم بمثابة طبقة يتم حلب درها واستنزاف ما تنتجه من فائض، حتى لو نضب الدر اللبن - لا مانع عند العرب حلب الدم، كما قال الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك لاحد ولاته هبلتك أمك، احلب الدر؛ فإذا انقطع، احلب الدم، لذا كانت الرؤية واضحة فيما يتعلق بالسياسة التي اتبعها الأمويون تجاه الموالي ومن بعدهم العباسيون، الذين حولوا العصبية العربية الأموية إلى شعارات داعية للمساواة بين العرب وغير العرب، ولكن وفق شروط مسبقة، تبقى القيادة عربية، وأما غير العرب فهم وسيلة بشرية حية للوصول للغايات الأسمى، التي تمثلت على مر العصور الإسلامية وسيلة لتثبيت دعائم السلطة.

تميزت الدعوة العباسية عن الحركات والثورات التي سبقتها في صدر الإسلام باعتبارها أخذت حيزاً جدلياً كبيراً لاسيما بين الأوساط الأكاديمية، فقد استقر في الأذهان لفترة طويلة أن الدولة العباسية قامت على أكتاف الموالي بالأخص موالي الفرس سواء من أهل خرسان أو غيرهم في المناطق الأخرى التي برزت معالم الثورة العباسية فيها، معتمدين على تأويلات ظاهرية لبعض المقولات التاريخية.تثبت الأحداث التاريخية أن السلطة الأموية نفسها حين أرادت أن تمسك بزمام الأمور في الأراضي التي استوطنتها العرب وشاركت الموالي في أمور حياتهم حاولت استمالة قبائل على حساب أخرى لتكون لها نداً، فيما استمالت الموالي بالأخص الطبقة الارستقراطية منها لتكون واجهة اقتصادية لها، وذلك ما أفرز نفوراً وتذمراً لدى القبائل العربية المناوئة للسلطة واخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه، فجلس بكير بن ماهان (ت ما بين 125 - 136هـ / 743-744م) كبير دعاة العباسيين يوماً في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا: سلط علينا الدهاقين في الجباية، ذلك ليس دليلاً على تعسف السياسة القبلية العربية الأموية تجاه تلك القبائل فحسب، وإنما دليل على مدى انتشار تلك القبائل على ارض خراسان وما حولها، ومدى توغلهم في الحياة العامة والخاصة فيها، بدرجة أنهم كانوا في تذمر دائم للسياسة الأموية سواء من الحكم أو فيما يتعلق بالجباية والخراج، ودليل على رفض تلك القبائل أن يتسلط على رقابهم الأعاجم، وذلك ما مهد لبروز تيارات مناوئة للسلطة.

تميزت الدعوة العباسية عن الحركات والثورات التي سبقتها في صدر الإسلام باعتبارها أخذت حيزاً جدلياً كبيراً لاسيما بين الأوساط الأكاديمية، فقد استقر في الأذهان لفترة طويلة أن الدولة العباسية قامت على أكتاف الموالي بالأخص موالي الفرس سواء من أهل خرسان أو غيرهم في المناطق الأخرى التي برزت معالم الثورة العباسية فيها، معتمدين على تأويلات ظاهرية لبعض المقولات التاريخية.

كان الموالي في خراسان لا يشكلون ضعف عدد المقاتلة العرب وقبائلهم التي استوطنتها، ذلك ما يؤكده نصر بن سيار والي الأمويين على خراسان حين قال للعرب فيها وأنتم يا أهل خراسان؛ مسلحة في نحور العدو، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان، كما أن العديد من النصوص تثبت وجود عدد من القصور والمساجد المنسوبة للعرب في مرو كدليل على ماهية الاستقرار، مع التأكيد على ذكر أسماء قرى بالقرب من مرو خلصت للعرب، فكانت بونيه قرية لطيء، وقرية بأعلى مرو لكندة، وأخرى لبني العنبر، والخزاعة قرية سفيذنج وبالين، وفنين، كما كانت قرية الماخوان الخالد بن عثمان ابن مسعود، ومن جملة مؤكدات الاستقرار العربي في خراسان وقراها وقصباتها، أن في مرو كان لكل باب من أبوابها اسم يدل على قبيلة سكنتها أو قائد عربي أسكنها عيالاته، کباب میدان یزید، باب حرب بن عامر، باب نصر، واتخذ العرب مركزاً لهم بالبروقان، قرب بلخ التي فيها جماعة من الازد وتميم وغيرهم، كما سكن العرب في خراسان هراة، حيث كان فيها جمع كثير لبكر بن وائل وفي وأماكن أخرى عليلة، فضلاً عن أن الولاة كانوا ينقلون الجنود من مدينة إلى أخرى وفق الحاجة وما تقتضيه العصبيات، كما فعل الوالي الأموي أسد بن عبد الله الذي نقل من كان بالبروقان إلى بلخ، واقطع كل من كان له هناك مسكناً بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن اقطعه واحداً، وأراد أن ينزلهم على الاخماس، لكنه خاف من العصبيات، فخلط بينهم.

ختاماً فإن الدراسة قد توصلت إلى جملة نتائج ومنها:

تميز العصر الراشدي ببعض الامتيازات المقررة للموالي، إلا أن الأمر لم يستمر على نفس المنوال طوال الحكم الراشدي، ففي عهد الخليفة أبي بكر ساوى بين العرب والموالي في العطاء، لكن في عهد الخليفة عمر بن الخطاب أثرت التحولات التي حدثت في بنية الدولة جراء التوسعات وتوجه الجيوش نحو البلدان غير العربية، على سياسته تجاه الموالي، حيث لم يدرج الخليفة جميع الموالي ضمن ديوان العطاء، وألحق بذلك الاجراء إلغاء الرق والسبي على العرب، وفدى سبايا العرب سواء الذين وقعوا في السبي قبل الإسلام أو بعد ظهور الإسلام بأموال الدولة، ومنع المقاتلة العرب بالزواج من غير العربيات، وفرض مبدأ الكفاءة في الزواج، وحذر من الانجراف وراء زواج الأعاجم خوفاً من ذهاب النخوة العربية، وتلى ذلك عدة إجراءات ساهمت في مضمونها ومتغيراتها على نفسية الموالي الأعاجم ووجودهم ضمن هيكلة الدولة، وشرع بذلك لمن أتى من بعده باتباع السياسة ذاتها التي لم تثمر سوى مزيداً من الفوضى السياسية والتي نتج عنها مقتل الخليفة بيدهم في النهاية، ومن ثم مقتل الخليفة عثمان بن عفان من بعده، وعلى الرغم من محاولة الخليفة علي بن ابي طالب إعادة الأمور إلى نصابها إلا أن الفوضى كانت قد تسربت إلى أواصر الدولة عن طريق الولاءات القبلية ونزعاتها وأدت بالتالي إلى مقتله أيضاً.

تغيرت الأوضاع السياسية والاجتماعية للموالي بعد تلك الانقسامات والصراعات الدموية التي أرهقت كاهل الدولة، وأصبحت التشريعات تسن وفق الحاجات، ووضعت العديد من الأحاديث والآثار التي نسبت إلى النبي (ﷺ)، وإلى بعض الصحابة وهي في مضمونها تخالف مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية، ساهمت تأويلات بعض علماء وفقهاء الدولة في تأصيل تلك الآراء وفرضها على الواقع التاريخي، حتى أصبح الموالي ضمن دوائر الازدراء بنظر العرب، لاسيما الأعراب الذين يعرف عنهم بداوتهم واستمرار نزعتهم العربية البدوية حتى بعد مرور ما يقارب القرن على انتشار الإسلام، تلك النظرة خلقت فجوة في بنية المجتمع الإسلامي، الذي كان يعتمد بالدرجة الأساس على الغزوات والسبي والغنائم، في حين ابتعدت عن المهن ووكلت بتلك الوظائف للموالي احتقاراً، حتى اصبح الموالي بمرور الوقت مادة ناضجة للحركات والثورات التي عمت الدولة الإسلامية لاسيما في نهاية العصر الراشدي وبداية العصر الأموي، واستمرت إلى حين سقوط الأمويين، ومجيء العباسيين للحكم.

أثارت العديد من المراجع الحديثة وذلك بالاستناد على بعض النصوص التاريخية والتشريعية على أن الموالي لم يكونوا مضطهدين في الدولة العربية الإسلامية، وأنهم تولوا مناصب إدارية مهمة وحساسة، وأن النصوص التي تظهر ازدراء العرب للموالي هي ليست سياسة الدولة إنما هي حالات فردية بدرت بالدرجة الأساس من بعض الأعراب، متجاهلين أن الافتراضات يجب أن تساق وفق معطيات واقعية، وليس مجرد تأويلات خارجة عن النطاق الافتراضي المبني على الظن، فالدولة لم تكن ضعيفة لتشاهد تلك المتحولات تجاه الموالي وتسكت عنها، على أنها رؤية ونظرة وال أو قائد جيش أو قاض أو أعرابي تجاه الموالي، فهؤلاء كانوا ركيزة الدولة وعمادها الأول، وحين يتجاهل الخليفة اجراءاتهم فإنه يقرها بالدرجة الأساس، ولا يعتبر الأمر مجرد رأي شخص وحالة فردية طالما أنها تدرج ضمن سياسة الدولة، على ذلك الأساس فإن مفهوم الحالة الفردية تمثلت في الأصل بسياسة الخليفة عمر بن العزيز الذي رفع الجزية عن الموالي وحاول اتباع سياسة مغايرة معهم، إلا إجراءاته انتهت بموته، لأن من سبقوه فرضوا تلك السياسة، ومن أتوا بعده استمروا عليها، وبذلك اثبت الواقع التاريخي بأن ما قام به الخليفة كان حالة فردية.

استغل الأمويون والمعارضة الأموية الموالي كلاً وفق حاجاتهم، حيث وظفتهم الدولة الأموية للقيام ببعض المهام الإدارية التي لم تكن مساراتها قد نضجت عند العرب مثل الجباية والأمور المالية، فتولوا مناصب مختلفة ضمن هيكلة مؤسسات الدولة، إلا أنهم حرموا من تلك المناصب التي فيها امتلاك الرقاب العرب، وبالتالي ساهمت تلك السياسة بخلق نظرة مغايرة حول مكانة الموالي في الدولة العربية الأموية، فوجد البعض أنهم مارسوا حقوقهم بعدالة داخل المجتمع العربي الإسلامي، في حين رأى البعض في تلك السياسة اضطهاداً للموالي، وبرهنت الدراسة، أن علو العرب كان الأصل في كل الممارسات، سواء عند الأمويين أو اتباع عبد الله بن الزبير حين تولى الخلافة وسيطر على الحجاز والعراق ومصر، وأن تولي الموالي المناصب الإدارية لم يخرج من دائرة الموالاة التي جعلها الخليفة عمر بن الخطاب اساساً الحفاظ الأعاجم على أنفسهم، كما رأت الدراسة أن غالبية الذين تقلدوا تلك المناصب كانوا موالي لقبائل عربية أو لشخصيات عربية سواء كانوا خلفاء أو أمراء أو حتى شيوخ قبائل، وبالتالي فإن الموالي في صدر الإسلام لم يجدوا لأنفسهم موطئ قدم إلا ما ندر، يمكن الاعتماد عليه لإبراز معالم العدالة الاجتماعية لدى العرب.

استطاعت المعارضة الأموية من تحريك الموالي ضد السلطة في أحيان كثيرة، وذلك من خلال رفع بعض الشعارات التي تتعلق بالمساواة والعدالة الاجتماعية، حيث أثارت الموالي الذين وقعوا تحت حتميات الازدراء العربي لهم، وأثارت العبيد والرقيق بدعوى اعطائهم حريتهم عندما ينضمون لطرف على حساب طرف اخر، لذا بات الموالي وقوداً لغالبية الحركات ضد السلطة في العصر الأموي، على أن ذلك لا يعني خضوع جميع الموالي لذلك المنطق، لأن موالي القبائل المتحالفة مع السلطة حاربت مع اسيادها ضد الحركات والثورات بحكم الولاء.

أثارت العديد من المراجع الحديثة وذلك بالاستناد على بعض النصوص التاريخية والتشريعية على أن الموالي لم يكونوا مضطهدين في الدولة العربية الإسلامية، وأنهم تولوا مناصب إدارية مهمة وحساسة، وأن النصوص التي تظهر ازدراء العرب للموالي هي ليست سياسة الدولة إنما هي حالات فرديةتاسعاً: تؤكد النصوص التاريخية والفقهية أن العرب لم يتنازلوا عن السلطة ويقوا متمسكين بزمام الأمور حتى في الأوضاع غير الطبيعية التي مرت بها الدولة العربية الأموية، ففي حربها مع المعارضين أسندت قيادة الجيوش للقادة القبليين العرب إلا ما ندر، ومع أنها ساهمت في بروز النزعة القبلية وعصبيتها لدى القبائل القيسية واليمانية والمضرية وغيرها، إلا أنها في الأول والأخير كانت تعمل على إبقاء السلطة بيدها، وإبقاء القبائل العربية الموالية لها هي المتسيدة للأوضاع والمسيرة للأحكام، بهدف توجيه العرب بمواليهم إلى خدمة أهدافها، على الرغم من أن تلك الإجراءات تحولت بمرور الوقت إلى سبب رئيسي من أسباب الفوضى السياسية التي ألقت بظلالها على الدولة نفسها رمقها الأخير.

اتجهت الدراسات الحديثة إلى تفنيد النظرية القائمة على أعجمية الثورة العباسية، وأثبتت أن الدعوة كانت موجهة بالدرجة الأساس للعرب المقاتلة والمستقرين في القرى والأمصار التابعة لخراسان الخارجية، لا سيما في مرو وتوابعها، وتثبت النصوص التاريخية على أن الخلفاء منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان قاموا بإرسال اعداد كبيرة من المقاتلة العرب إلى تلك الأمصار فاستوطنوا فيها، وجعلوا في كل قرية حامية انزلوا فيها ما يقارب الأربعة الاف جندي، واستمر وصول الامدادات اليهم ضمن فترات متلاحقة، حتى غلب على تلك الأماكن العرب، واصبح الأعاجم فيها اقلبة محكومة من العرب، كما خضع الموالي في تلك الأماكن لمنطق الصراعات القبلية، وبذلك انقسموا إلى جبهتين، احداها توالي العرب المضرية الموالين للوالي الأموي، وأخرى توالي القبائل الموالية للثورة العباسية، ولم يكن اختيار مولى لقيادة الثورة في خراسان إلا تدبیر حكيم من العباسيين، وذلك لإدراكهم حجم الثارات بين العرب في خراسان وتوابعها من جهة، ولإدراكهم أن الأعاجم سترى في أبي مسلم الخراساني القائد المنتخب من العباسيين كمنقذ لهم من ظلم العرب وصراعاتهم، وكان اختیار خراسان استناداً إلى وجود العرب فيها وغلبتهم على الأمصار والقرى والبلدان حتى أصبحت لديهم قرى خاصة بهم وقلاع خاصة، ومن ثم اختيارهم لأبي مسلم بعد رفض العرب استلام قيادة الثورة لكبح جماح الأعاجم وضمان ولائهم للثورة.

ساهم الموالي بدرجة كبيرة في اسقاط الدولة العربية الأموية، وذلك من خلال انضمامهم إلى الثورة العباسية وتشكيل فرقة خاصة بهم يقودهم عربي، ضمن قيادة عربية كبرى لجميع القوات العباسية، كما ساهمت جغرافية مناطق الموالي الأعاجم في تسريع وتيرة الثورة، حيث تبعت من أراضيهم، فكانوا بحكم الموقع الجغرافي طرفاً في الجبهتين الموالية للسلطة العربية الأموية، والمتحالفة مع الثورة العباسية، ويظهر ذلك جلياً من خلال سير احداث الثورة وتوجه القوات العباسية للكوفة التي كان الإمام العباسي يحتمي فيها، وحين انتصرت الثورة وبدا للجميع أن الموالي الأعاجم باتوا عنصراً رئيسياً في تركيبة الدولة ومؤسساتها، ظهرت بوادر النزعة العربية لدى العباسيين في بداية حكمهم، وذلك من خلال إزاحة رموز الموالي من طريقهم.

إقرأ أيضا: العروبة المؤسِّسة.. كيف صاغ العرب مكانتهم العليا داخل الدولة الإسلامية المبكرة؟

إقرأ أيضا: القبيلة والدولة.. الموالي بين منطق الفتح ومأزق التمييز في المشروع الأموي.. كتاب

مقالات مشابهة

  • أكسيوس تجذب الجمهور بأسلوب تحريري فريد
  • اتحاد الكتاب يقيم أمسية نثرية فارساتها الزعبي والمفتي ودراغمة في فعاليات جرش39
  • افتتاحُ معرض الكتب المستعملة بولاية سناو
  • هل كانت ضوابط النشر العلمي خطأً جسيما أم فضيحة مستورة؟
  • مكتبة مصر العامة تنظم معرضًا لبيع الكتب بأسعار رمزية
  • اختتام برنامج الأمسيات الشعرية في رابطة الكتاب الأردنيين
  • كتاب يعيد قراءة سقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين
  • “تريندز” و”إقامة دبي” ينظمان محاضرة بعنوان: “من الملاحظة إلى النشر: رحلة البحث العلمي”
  • ملتقى الكتاب السوريين يختتم فعالياته ويكرم الأدباء والمثقفين المشاركين
  • منصوري تستقبل مدير تيسير التجارة وترقية الاستثمار ببنك Afreximbank