صحيفة الاتحاد:
2025-06-10@10:41:03 GMT
كتاب الجيب.. وترقية وعي القارئ
تاريخ النشر: 20th, October 2024 GMT
د. عزالدين عناية
أخبار ذات صلةترد تسمية «كتاب الجيب» في العربية في مقابل الصيغة الإنجليزية «pocketbook»، وهي تحيل على شكل معين من الكتب، على صلة بالسعر الزهيد وبالحجم الصغير.
نعرف أنّ ذلك العهد، شهد سقوط القسطنطينية (1453م)، وطُويت مع ذلك الحدث صفحة الإمبراطورية البيزنطية. غادر جراء ذلك كثير من المثقفين الإغريق القسطنطينية باتجاه البندقية، وهو ما مثّل سنداً ودافعاً للطبّاع مانوزيو في خيارات النشر التي راودته، إذ بفضل جماعات المثقّفين الوافدين تسنّى له اكتشاف التراث الإغريقي، والانطلاق في مغامرة نشر الأعمال الكلاسيكية. وفي واقع الأمر تضافرت عوامل عدّة شجّعت على بروز الظاهرة، منها تهيّؤ المناخ العام الذي كان يتطلّع فيه الناس إلى التحرر من رقابة الكنيسة. فكما يقول ماريو إنفِليزي مؤلف كتاب «الكتب الممنوعة» (مشروع كلمة، 2012): كانت الرقابة الفعلية تكمن حقيقةً وبقوة، في أيدي محكمة التفتيش. عامل آخر ساهم في تحفيز عالم النشر، ألا وهو التقدم الحاصل في مجال الطباعة مع الألماني غوتينبيرغ سنة 1455، بابتكار طباعة الحروف المتحركة، وهو ما مثّل تحولاً ثورياً في صناعة الكتاب.
ظاهرة الكتب الموجهة للاستعمال الميسّر، ليست غريبة عن تاريخ صناعة الكتاب لدينا. ففي بلاد المغرب الكبير، وبتأثير من المؤسستين العلميتين العريقتين الزيتونة والقرويين، ظهرت سلسلة من المخطوطات لا تزال نماذج منها مودعة في مكتبة الفاتيكان في روما (هي في الأصل كتيبات للتداول) لا يتجاوز حجم الواحد منها مفتوحاً الكفين، كانت موجهة بالأساس إلى طلبة العلم، ومما يتسنى نقله وحمله بيسر. ربما لم يدخل ذلك التقليد في دورة تجارية تسويقية على ما شهدناه في التاريخ الحديث مع تحولات النشر الصناعي، وهو ما قلّص الانتشار وحصرها في فئات اجتماعية محدودة.
التسويق الفعلي
مع مطلع العصور الحديثة، تطوّرت في ألمانيا ظاهرة «كتاب الجيب» الزهيد السعر والصغير الحجم، بظهور ما كان يسمى بـ (Volksbuch)، وفي فرنسا مع «سلسلة المكتبة الزرقاء». ويمكن القول، إن التسويق الفعلي لكتاب الجيب، في الفترة المعاصرة، قد انطلق في إنجلترا منذ 1935 مع مغامرة «بينغوين» بنشر كتب الجيب (paperbacks)، ومع (chapbooks)، التي كان يعمل على ترويجها باعة جوّالون بأسعار زهيدة. وأما في إيطاليا فقد انطلقت الموجة مع الناشر «ريتزولي» سنة 1949، بإنشاء سلسلة «بور»، أي «مكتبة ريتزولي العالمية»، التي عملت على طباعة مؤلفات مشاهير الكتّاب الكلاسيكيين وفق المواصفات الجديدة. أتت التجربة الإيطالية بعد تجربة «بينغوين» الإنجليزية، و«ريكلام» الألمانية، و«سيمون شوستر» الأميركية.
ولقيت تجربة «ريتزولي» استحساناً واسعاً وترحيباً هائلاً بين القراء خلال السنوات الأولى. وبرغم وفرة المبيعات اصطدمت التجربة بمرور الوقت ببعض المصاعب، لتبقى سنوات التطور الكبرى بين الستينيات والتسعينيات. فمع كتاب الجيب سجّل عدد القراء تطوّراً ملحوظاً، ولاقت التجربة استحساناً وسط الجمهور. ولم يوسّع كتاب الجيب دائرة القراءة فحسب، بل خلق قراءً جدداً كانوا بانتظار الرحيل نحو عالم القراءة. لعبت أكشاك الجرائد والمجلات في العملية دوراً بارزاً في تقريب المعروض الجديد من القراء، هجر فيها الكِتاب جدران المكتبات.
وفي البلاد العربية حقق «كتاب الجيب» نجاحات مع تبني مؤسسات تابعة للدولة أو شبه تابعة للدولة المشروع، ولكن منذ أن فوّتت الدولة القومية والوطنية في الكتاب التوعوي للمؤسسات الخاصة صار الناشر- التاجر يحصي العائدات المالية، وما يجنيه من كل مغامرة جديدة قبل التفكير في ترقية وعي القارئ. وكما نعلم عالم النشر هو عالم يختلط فيه مطلب المعرفة السامي بحسابات الربح العاجل. هنا اختلّت معادلة الناشر والقارئ، وداخلها الاضطراب، حتى أضحت أزمة مزمنة.
مجد التجربة
ولو تمعنّا نجاحات كتاب الجيب، نرى ترافق مجد التجربة مع أكشاك الجرائد، حين كانت تمثل نقاط الترويج الأساسية. ولكن يبدو أن رحلة كتاب الجيب لم تتوقف هناك، بل تواصلت في «المغازات» العامة، وفي «المولات» التجارية، ولدى باعة السجائر، وربما سنجد كتاب الجيب يوماً في فضاءات تجمّعات الناس، مثل المقاهي، والملاهي، ومحطات النقل الكبرى. فخلال تطوافي في البلاد العربية لفتت انتباهي ظاهرة جميلة وفريدة في المغرب الأقصى، وهي باعة الكتب المتجولون وهم يرتادون المقاهي والمطاعم والساحات ويعرضون بضاعتهم على غرار غيرهم من الباعة، وهم غالباً يحملون ما خفّ وزنه وزهد ثمنه من الكتب التي لا ترهق حاملها ولا تثقل على قارئها.
وبمقياس تجاري تمثّلُ كتب الجيب الشعبية البضاعة الأوفر دخلاً لأصحاب مؤسسات النشر، إذ يتراوح المكسب المادي من كتاب الجيب في دور النشر الغربية بين 40 و45 بالمئة، بخلاف الطبعات الأولى للكتاب العادي، فهي تتراوح في حدود 20 – 25 بالمئة، وهذا لدى دُور النشر التي تحترم القارئ وتلبي رغباته ولا تعمل على استنزافه. وفي هذا الصنف من الكتب لا يعود الكسب لدى الناشر إلى عوامل مادية: نوعية الورق، والتجليد، والغلاف الطيّع، ولكن إلى تراجع التكاليف. إذ لا يدفع الناشر حق الترجمة والمراجَعة، وإصلاح المخطوطة وتدقيقها، أو إعادة التحرير، أو تكليف فنان بإنجاز صورة الغلاف الخارجي وما شابه ذلك. وإن تبقى الطبعات الأولى، على حد تقدير خبراء النشر، الأكثر مبيعاً نظراً إلى طبيعة السوق المحكومة في الغالب بما يُعرَض من بضاعة جديدة.
عادات القراءة
في واقع الأمر يعكس حجم الكتاب التحولات الاجتماعية، وهو يكشف عن ظهور فئات جديدة من القراء داخل الشرائح التقليدية، ويخبر عن تغير عادات القراءة، وأن الحدس بوجود جمهور قرائي يمكن استهدافه، كان فيما سبق خفياً، هو ما يعيد النظر في الكتاب شكلاً ومحتوى، إذ غالباً ما ينبني التفكير في إطلاق كتاب الجيب على تفريق بين صنفين من القراء: القراء الدارسون الذين يقرؤون على الطاولات، ويجلسون على الكراسي، وهؤلاء لا يعنيهم كثيراً كتاب الجيب، ولكن يبقى المستهدَفون بكتاب الجيب هم قراء المتعة والفراغ، ممن يقرؤون على الأرائك، أو مرتخين على أسرّة النوم، أو في وسائل النقل العمومي، ممن يقضون وقتاً لا بأس به في المحطات والقطارات والحافلات وما شابهها، وهؤلاء من يتمّ استهدافهم بسلسلة الكتب الشعبية زهيدة السعر صغيرة الحجم. وإن كان مع العالم الافتراضي الجديد قد تأثر، على حد سواء، الكتاب الكلاسيكي وكتاب الجيب بالتحدي الجديد.
الحديث عن الطبعات الشعبية، وعن كتاب الجيب، وعن الكتاب للجميع، هو في واقع الأمر خيار وطني، وليس خيار مؤسسات خاصة، مهووسة بتكديس الربح ولا يعنيها كثيراً ترقية الوعي.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الثقافة البندقية إيطاليا الإمبراطورية البيزنطية
إقرأ أيضاً:
ليبيا بعد القذافي.. من أحلام الثورة إلى الحرب الأهلية.. قراءة في كتاب (1)
الكتاب: ثلاث سنوات إنتقالية داميةالكاتب: الدكتور يوسف شاكير
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى 2015
(عدد الصفحات 447 من القطع الكبير).
هذا الكتاب "ثلاث سنوات انتقالية دامية" لمؤلفه الدكتور يوسف أمين شاكير الأرناؤوطي: (وهو معارض ليبي سابق، أحد مستشاري العقيد القذافي والمحيطين به أثناء ثورة 17 فبراير 2011، اختفى من الظهور بعد دخول قوات المجلس الوطني إلى طرابلس في أغسطس 2011، ثم ظهر على قناة الرأي السورية ثم قتاة الدنيا، واستمر فيهما على تأييده لنظام القذافي (يتحدث فيها الكاتب عن المأزق الليبي خلال أربع سنوات كاملة مضت على عملية التغيير السياسي الحادة داخل ليبيا بكل ما لها وما عليها. والقضية اليوم لم تعد في توصيف اللحظة التاريخية التي احتواها شهر فبراير عام 2011، هل هي "ثورة" أم كانت مؤامرة سياسية شارك فيها الجميع دون استثناء؟ أم حالة وسط بين هذين الحدَّين السياسيين عبرت عن نفسها في لحظة ارتباك سياسي تاريخي..؟
يتألف الكتاب من مقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة. المقدمة بعنوان: إخفاق نخبة ومجتمع بسبب سوء إدراك الفعل الثوري، يتبع الفصل الأول أو جاء بعنوان: فشل النخبة الليبية الجديدة وافتقادها الشعور بالمسؤولية التاريخية، بينما جاء الفصل الثاني بعنوان: ليبيا الحائرة بين الموروث القبلي والحاضر المسكون بالصراع والتوتر، وحمل الفصل الثالث عنوان: ليبيا بين نموذج الدولة الرخوة والدولة الفاشلة، وأما الفصل الرابع فجاء بعنوان: برقة وعدوى الفيدرالية، خطوة للماضي أم استباق للمستقبل، وأخيرا الخاتمة: نحو رؤية مستقبلية لكيفية الخلاص السياسي من الواقع المأزوم.
ليبيا من الجماهيرية إلى انتفاضة 17 فبراير والتدخل الأطلسي
بعد سقوط النظامين في كل من تونس ومصر، انطلقت يوم 17 فبراير 2011 حركة احتجاجات في ليبيا المجاورة، وتحديداً من مدينة بنغازي. وكان ظاهرا أن المجتمع الدولي سيُدِين القمع ضد المدنيين ويلجأ إلى خطوات عملية. والوضع أصبح أكثر وضوحاً عندما وجهت الدول الخليجية المؤثرة "بطاقات حمراً" لنظام العقيد القذافي. وهي الخطوة التي اعتبرت مؤشرا على وجود قرار لاستبدال النظام وتغييره.
كان العقيد القذافي كسب دعم العواصم الرئيسية في الغرب لتأمين استمراره في الحكم بعد التنازلات التي قدمها له عقب الغزو الأمريكي للعراق في 19 مارس 2003، فأرجأ قائد ليبيا الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي كان قد أعلن عنها، وكلّف ابنه سيف الإسلام بقيادة العملية الإصلاحية التي أعلنها.
لقد اختار المعارضون الليبيون إطلاق انتفاضتهم في السابع عشر من فبراير2011، بما يمثله هذا التاريخ من ذكريات أليمة للشعب الليبي، حيث يصادف ذكرى اشتباكات وقعت في بنغازي في العام 2006، حين قتلت قوات الأمن العديد من المحتجين الذين كانوا يحاولون اقتحام القنصلية الإيطالية، وذكرى تنفيذ أحكام الإعدام بعدد من المعارضين لنظام القائد الليبي في بنغازي أيضاً العام 1987.
كان العقيد القذافي كسب دعم العواصم الرئيسية في الغرب لتأمين استمراره في الحكم بعد التنازلات التي قدمها له عقب الغزو الأمريكي للعراق في 19 مارس 2003، فأرجأ قائد ليبيا الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي كان قد أعلن عنها، وكلّف ابنه سيف الإسلام بقيادة العملية الإصلاحية التي أعلنها.وتعتبر المنطقة الشرقية، وعاصمتها بنغازي، معقل المعارضة الليبية تاريخياً. فبنغازي تعتبر مدينة مصرية أكثر منها ليبية، وهواها هوى مصري، ومعظم طلابها يدرسون الحقوق والطب في جامعات الإسكندرية والقاهرة. ونظراً لعملية التهميش التي كانت تعاني منها المدينة وسكانها من قبل نظام القذافي لم تعترف هذه المدينة بسطوة نظام القذافي العسكرية والأمنية، ولا بهيمنة طرابلس كعاصمة سياسية لليبيا. وهذا ما دفع شبابها المتأثرين بالثورة الشبابية في كل من مصر وتونس، إلى الدعوة للتظاهر على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لحق بهم شباب طرابلس، ومصراتة، وغيرها من المدن الليبية الأخرى.
بعد أكثر من ستّة أشهر من الحرب الأهلية، وثمانية آلاف عملية قصف نفّذها حلف شمال الأطلسي، لم تسجّل جبهتا البريقة ومصراته سوى تطوّراً ضئيلاً. والتحرّكات الحاسمة على الصعيد العسكري التي أدّت إلى سقوط طرابلس الغرب خلال بضعة أيام من نهاية أغسطس 2011، لم تأت من سكّان الشرق، بل بشكل أساسي من سكّان بعض المدن الغربية بقيادة قبيلة عربية كبيرة من جبال الغرب (جبل نفوسة): هي الزنتان.
مع دخول الثوار الليبيين طرابلس والسيطرة عليهافي نهاية شهر أغسطس 2011، سقط نظام العقيد القذافي الذي حكم ليبيا ما يقارب إثنين وإربعين عاما، فتشتت شمل العائلة وافترق سيف الإسلام عن أبيه الذي غادر إلى سرت بصحبة المعتصم لمواصلة المقاومة، فيما فرّ من بقي من أفراد العائلة إلى الخارج. ووقع سيف الإسلام القذافي في قبضة ثوار الزنتان. لكن مصيره بقي في كل الأحوال، أفضل من مصير أبيه وشقيقه المعتصم اللذين لقيا حتفهما في ملابسات لا تزال تفاصيلها غامضة يوم 20 أكتوبر 2011 إثر تعرض موكبه لضربة جوية، قبل أن يعثر عليه الثوار، ويُغْتَال برصاصة في الرأس (أطلقها عليه أحدهم)، لدى نقله إلى مصراتة بهدف احتجازه والاقتصاص منه.
تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا لبقائها ضمن سيطرة الغرب
منذ انطلاقتها كانت الأزمة الليبية موضوع انقسام شديد بين القوى السياسية علي اختلاف مرجعياتها الفكرية والسياسية في العالم العربي، بين من يؤيد الحراك الشعبي ذو الطابع السلمي، وبين من يعتبر التدخل العسكري لحلف الأطلسي لنصرة الثورة وإسقاط نظام العقيد القذافي، يتناقض مع مصالح الشعوب العربية. وكانت القوى الوطنية والديمقراطية العربية، استبشرت خيراً ،عندما بدأ الربيع العربي مطلع العام 2011، لا سيما بعد أن أطاحت حركة شعبية نظامين ديكتاتوريين تعاونا على مدى عقود مع الولايات المتحدة الأمريكية، واضطهدا شعبيهما، تحت لواء محاربة التطرف الإسلامي .
غير أن الانقسام الشديد برز داخل صفوف المعارضات العربية، عندما أخذت الأمور منحى معقداً في ليبيا، مع تدخل قوات حلف شمال الأطلسي لإسقاط النظام. فقد أطلق تدخل حلف شمال الأطلسي العنان لنقاش داخل المعارضة اليسارية والقومية العربية التي كانت معارضة للغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية مبرراتها للحرب ضد نظام صدام حسين قضية أسلحة الدمار الشامل التي ادعت أنَّه يمتلكها وعلاقاته المزعومة مع تنظيم "القاعدة". وقد اتضح أن هاتين الحجتين عاريتان من الصحة، وتبيّن أن المسألة كلها كانت تستهدف السيطرة على ثروات النفط العراقي دون سواه، لا إحلال الديمقراطية!
هكذا أظهرت عوارض التمزّق في النقاشات السياسية التي قسّمت على الصعيدين الاستراتيجي والأيديولوجي معاً، المعارضة اليسارية والقومية في العالم العربي.إذ استمرّ بعضها في دعم النظام الليبي، باسم ماضيه المناهض للإمبريالية الغربية، بينما وقف آخرون بحزمٍ إلى جانب الانتفاضة دعماً للمنطق "الثوريّ" ودفاعاً عن "الحقوق الديموقراطية". وبقى فريقٌ ثالث انتهج خطّاً وسطيّاً، ما بين التضامن باحتراز مع مطالب المتظاهرين بالحريّة ورفض التدخل الأطلسي ، ودعا إلى شكلٍ من أشكال "المصالحة الوطنية". وسواءً أكانت الأطراف اليسارية العربيّة من أصولٍ شيوعيّة أو ماركسية بكلّ معنى الكلمة، أم كانت تدور في فلكٍ يسار قوميّ ما، أم كانت راديكالية أم معتدلة، فإنّها قد أخذت في الأزمة طابع الفسيفساء المتشظّية.
هناك قسم من التيارات اليسارية، ندّدت بالنظام الليبي ودعت إلى إسقاطه، لكنها لم تقلّل حذرها في موضوع الدعم الذي قدمته دول الخليج إلى الثوار الليبيين، كما أنّها لم تلتحق كلّياً بالخطاب المناهض للزعيم الليبي الصادر عن قسمٍ من "المجتمع الدولي"، وعلى رأسه الولايات المتحدة. إلاّ أنّ ردّ الفعل هذا المناهض للإمبريالية لم يتقدّم هنا على دعم الثورة.إذ أعطى الأولوية للوضع الداخلي الليبي، ومنطق ثورة الشعب على نظامه هو الذي أُخِذَ بعين الاعتبار قبل أيّ شيءٍ آخر، كما في المسارات التي اعتُمِدت في تونس أو في مصر.
في المقابل، هناك مسافة حذرة اتخذت من "الثورة الليبية"ميزت بها غالبية القوى الواقعة على يسار القوس السياسي في العالم العربي. إذ استنكرت هذه الغالبية أوّلاً عسكرة الانتفاضة المدعومة من الدول الخليجية وحلف شمال الطلسي ،لأنَّها كانت تخدم مصلحة المجموعات الاسلامية.كما ركزت على الخوف من تحوّل النزاع إلى صراعٍ قبلي ومناطقي يُهَدِّدُ وحدة ليبيا ، ورأت في ذلك خطر حربٍ أهلية لا نهاية لها.
لكن الإنقلاب في المواقف حصل بصورة أكثر جذرية عندما وصلت حركات الإسلام السياسي المتحدرة من الإخوان المسلمين إلى السلطة في كل من تونس،ومصر، والمغرب، فقد باتت هناك خشية من أن تفضي"ثورات الربيع العربي" إلى هيمنة إسلامية في العالم العربي.. وهكذا اندرج موقف قسمٍ كبير من اليسار العربي حول الملفّ الليبي ضمن مواجهته الخاصّة مع قوى الإسلام السياسي. وازداد هذا الموقف وضوحاً عندما بدأت الدول الخليجية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية وقطر، تدعمان بقوة المعارضة المسلحة الليبية بالمال والسلاح، والإعلام.
كان الانفتاح الأمريكي الجديد والكبير على حركات الإخوان المسلمين في زمن "ربيع الثورات العربية"، يدخل في سيرورة عملية استبدال النخب العربية في علاقات تبعيتها للغرب. في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت الحركات الوطنية الاستقلالية، والجيوش العربية التي استلمت السلطة، هي القوى التي انخرطت في عملية التبعية الكاملة للغرب، الآن استنفدت هذه الدول التسلطية العربية دورها بعد أن" ثارت" الشعوب العربية ضدها وأسقطتها في ثلاث دول عربية رئيسة، تونس وليبيا ومصر.
وقد اعتبر العديد من المحللين الغربيين أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد تفجر "ربيع الثورات العربية"، باتت مقتنعة بالتحالف مع الحركات الإسلامية "المعتدلة" لمواجهة تنظيم "القاعدة" وتوابعه ،رغم يقينها التام أنَّ الديمقراطية أضحت جسرًا يَعْبُرُ عليه الإسلاميون إلى الحكم في العالم العربي ،وهو ما وضع إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أمام خيارين لا ثالث لهما،إما الاستمرار في نشر الديمقراطية والقبول بنجاح الإسلاميين في الانتخابات، أودعم الأنظمة الديكتاتورية الموالية لها والمخاطرة بالتالي باحتمال اندلاع ثورة إسلامية ثانية ضد تلك الأنظمة.
لقد اختار المعارضون الليبيون إطلاق انتفاضتهم في السابع عشر من فبراير2011، بما يمثله هذا التاريخ من ذكريات أليمة للشعب الليبي، حيث يصادف ذكرى اشتباكات وقعت في بنغازي في العام 2006، حين قتلت قوات الأمن العديد من المحتجين الذين كانوا يحاولون اقتحام القنصلية الإيطالية، وذكرى تنفيذ أحكام الإعدام بعدد من المعارضين لنظام القائد الليبي في بنغازي أيضاً العام 1987.هناك حقيقية ثابتة في الاستراتيجية الغربية عامة ،والأمريكية خاصة ،تجاه العالم العربي، تتمثّل في أن الغرب لن يسمح للثورات العربية أن تخرج عن سيطرته.وقدأكدت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها ذلك من خلال محاولتها ترويض الإسلاميين الصاعدين إلى حكم الدول العربية على السياسة الأجنبية والاقتصادية، بدلاً من تفسيرات الشريعة.والأحزاب الإسلامية التي ستخضع لذلك سوف يتم اعتبارها "معتدلة" أما الباقي فسيظل من "المتعصبين".علماً أن الثورات العربية التي اشتعلت شرارتها الأولى في تونس في بداية عام 2011،وانطلقت لإسقاط الديكتاتوريات المدعومة من الغرب، شكلت تهديداً استراتيجياً للهيمنة الغربية، رغم أنها ركزت على القضايا الداخلية:الفساد والفقر وانعدام الحريات، وليس على الهيمنة الغربية أو الاحتلال الصهيوني لفلسطين وباقي الأراضي العربية الأخرى .
القذافي وتحذيره للغرب من سيطرة "القاعدة" في ليبيا
مع انتقال ليبيا من الثورة إلى مرحلة الحرب الأهلية في ظل الاستعصاء القائم لجهة الحسم العسكري من جانب "الثوار" الذي لا يزال يبدو بعيد المنال، كان العقيد القذافي يلوح بخطر سيطرة تنظيم "القاعدة" في حال سقوط نظامه، وتدفق آلاف المهاجرين الأفارقة إلى البلدان الأوروبية عبر ليبيا. فقد حذر الغرب وإسرائيل، من أنه "إذا نجحت القاعدة في الاستيلاء على ليبيا، فإن المنطقة بأسرها حتى إسرائيل ستقع فريسة للفوضى" لافتاً إلى أنّ "الأسرة الدولية بدأت تفهم الآن أننا نمنع أسامة بن لادن من السيطرة على ليبيا وإفريقيا".وأضاف أن "التفريط في استقرار ليبيا معناه انهيار السلام العالمي على البحر المتوسط.. والسلام العالمي كله سينهار بسبب انهياره في البحر المتوسط. وإذا انتقلت القاعدة لليبيا تكون كارثة". وتابع إن المهاجرين الأفارقة "سيغرقون إيطاليا وفرنسا وأوروبا.. وكلها ستصبح سوداء في أقل مدة. فنحن الذين نوقف الهجرة بالملايين. ونحن صمام الأمان. ونحن الذين نثبت الاستقرار في البحر المتوسط، ونحن الذين نمنع وجود القاعدة بشكل كبير".
تنظيم القاعدة الذي يخيف به العقيد القذافي الغرب، ليس سوى "الجماعة الإسلامية المقاتلة" الليبية التي تشكلت في مطلع تسعينيات القرن الماضي على يد "أفغان ليبيين" شاركوا في الجهاد الأفغاني.و خاضت اعتباراً من العام 1995 حرب عصابات لقلب نظام الحكم الليبي لكن أجهزة الأمن استطاعت خلال أقل من سنتين سحقها وتفكيك خلاياها واعتقال أو قتل معظم أفرادها، فاضطرت إلى الانكفاء إلى أفغانستان اعتباراً من العام 1999 حيث أيّدت علناً أمير حركة "طالبان" الملا محمد عمر ،ورفضت قيام "القاعدة" بعمليات ضد الأمريكيين انطلاقاً من أفغانستان.
وكانت ليبيا أفرجت في 23 مارس سنة 2010 عن أكثر من 200 سجين إسلامي، بينهم ثلاثة من أبرز قادة "الجماعة الإسلامية المقاتلة" كخطوة جديدة في اتجاه فتح صفحة جديدة مع التيار الإسلامي، الذي يصف نفسه بـ "الجهادي". وكان قادة "الجماعة المقاتلة" المسجونون، الذين أصدروا في صيف 2009" دراسات تصحيحية "نأوا بأنفسهم فيها عن استخدام العنف وسيلة لقلب الأنظمة العربية ـ بما فيها "جماهيرية" العقيد القذافي ـ ودانوا كثيراً من الممارسات التي تُنسب إلى تنظيم "القاعدة" وجماعات أخرى تستلهم أفكاره.
بيد أن المعارضة الليبية التي خاضت حرب إسقاط نظام العقيد القذافي لم تكن متكونة من التيار الإسلامي فقط، فهناك خمس قوى حقيقية شكلت المشهد السياسي الليبي في فترة إسقاط نظام القذافي هي: 1-القوى الملكية المنحدرة من الملك إدريس السنوسي، وهي قوى كانت متواجدة بقوة في منافي سويسرا وبريطانيا.2- القوى القومية العربية المتشكلة منذ السبعينيات من القرن الماضي، والتي خذلها القذافي عندما صادر الثورة لمصلحة بقاء حكمه ، وإثراء عائلته وقبيلته.3- كانت القوى الإسلامية منقسمة إلى تيارين: التيار الأول وتمثله قوى الإخوان المسلمين، والتيار الثاني، وتمثله الحركات الجهادية (الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، الحركة الإسلامية للشهداء، ومجموعة أنصار الله)، وهي متمركزة بصورة أساسية في منطقة الجبل الأخضر. 4-قوى التحالف الديمقراطي الذي أسسه الزعيم المعارض الليبي منصور الكيخيا الذي اختطفته المخابرات الليبية في فندق بالقاهرة سنة 1993، وأعدمه القذافي، وهو الوحيد الذي كان يمتلك مشروعاً ديمقراطياً حقيقياً لليبيا، ولدى التحالف الديمقراطي تواجد قوي في الولايات المتحدة. 5-أما القوة الأخيرة، فتمثلها الحركة الشبابية الليبية التي قامت بتفجير الثورة، إذ يشكل الشباب في ليبيا 60% من مجموع السكان.
القذافي من خلال تحذيره للغرب بموضوع "القاعدة"، كان يريد في حقيقية الأمر أن يقول للولايات المتحدة الأمريكية وللبلدان الأوروبية، وللكيان الصهيوني، إنه منخرط معهم جميعاً فيما يسمى"الحرب على الإرهاب". والحال هذه أراد القذافي أن يقول للغرب بما أنه يمثل الجبهة الدفاعية الأولى في الحرب ضد الحركات الإسلامية الجهادية، فلماذا يتم التخلي عنه في هذه الظروف العصيبة.