شرق أوسط جديد...البداية من لبنان؟
تاريخ النشر: 21st, October 2024 GMT
ما يتردد من كلام إسرائيلي متنامٍ عن رسم خارطة سياسية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط تحت مسمّى "شرق أوسط جديد" ليس وليدة اليوم، ولا يأتي بالطبع من ضمن ما يُعرف بـ "الحلم الإسرائيلي التاريخي" عن مشروعها التلمودي بالنسبة إلى إقامة الدولة الإسرائيلية من البحر إلى النهر، أي من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الفرات، بل هو شبيه بـ "سايس – بيكو" يعاد فيه ترتيب موازين القوى ورسم خارطة سياسية مختلفة للمنطقة، وهو ليس هدفًا إسرائيليًا جديدًا، ولكن هناك من يرى في إسرائيل أن هذا الأمر قد بات اليوم أقرب إلى التطبيق من أي وقت مضى في ظل التطورات المتسارعة والمواجهات المستمرة مع ما يُعرف بـ"محور المقاومة" الذي تقوده إيران في المنطقة، وذلك منذ هجوم حركة "حماس" في 7 تشرين الأول الماضي، وصولًا إلى بدء مرحلة جديدة من الحرب الإسرائيلية المفتوحة على لبنان، والتي لم تنتهِ فصولها بعد، على ما يبدو، لا في غزة ولا في لبنان، بعد اغتيال رمزين مهمين من رموز "المقاومة"، وهما السيد حسن نصرالله ويحيى السنوار، وما بين هذين الاغتيالين من تصفيات لقيادات سياسية وميدانية، بالتوازي مع تدمير ممنهج للمناطق التي لا تزال تتعرّض لأقصى أنواع القصف في القطاع وفي لبنان، وما يصاحب هذا العدوان المخطّط له منذ سنوات من نزوح بشري فلسطيني كثيف نحو رفح وآخر لبناني في اتجاه مناطق لا تزال تُعتبر حتى الأمس القريب آمنة أكثر من غيرها نسبيًا.
وفي هذا الإطار، تتعدد الروايات لما يمكن أن تكون عليه ملامح الشرق الأوسط في المستقبل. ويكاد يكون هناك إجماع بين أهل المعرفة التاريخية في المنطقة وخارجها من أن شرق أوسط جديدًا بدأت ملامحه تتشكّل، ولكن طرف يراه من منظاره الخاص، وإن كانت الوقائع الميدانية هي التي تتحكّم بالمسار الآيلة إليه طبيعة تطّور الأمور على الأرض، والتي هي بطبيعة الحال ترجمة واقعية لما هو مرسوم على الورق. وما رفض إسرائيل لوقف إطلاق النار في غزة وفشل المفاوضات في كل من القاهرة والدوحة، وانتقالًا إلى رفض أكيد لوقف الحرب على لبنان، سوى حلقة في سلسلة ما بدأت به تل أبيب، التي لها أهداف مغايرة لأهداف سعاة الخير، الذين يطالبون بوقف المجازر، التي تُرتكب يوميًا. إلا أن دون الوصول إلى ما يُخطّط له ليس بالأمر السهل. من هنا يأتي الحديث عن حرب طويلة الأمد، مع ما سيرافقها من "تصفيات" لبعض رموز الحقبة الماضية، والتي تنامت الحركات الأصولية فيها في شكل غير عفوي بعد ما يسمّى بـ "الغزو الأميركي" للعراق العام 2003، وما عانته سوريا بعد انتفاضة العام 2011، وما تخّللها من حروب متشابكة بين مكونات النظام السوري مدعومًا من روسيا من جهة ضد المجموعات الأصولية كـ "داعش" والنصرة"، ومشاركة "حزب الله" فيها في شكل علني، حيث كانت لهذه المشاركة فعالية لافتة، مع ما للوجود الأميركي في أجزاء من العراق وسوريا من رمزية، فضلًا عن التدّخل التركي في الشمال السوري والتحركات الانفصالية لأكراد العراق وسوريا.
وما يجري في أوكرانيا قد لا يبدو بعيدًا عمّا يجري على الساحة الشرق أوسطية، بعد كل ما شهدته المنطقة من انتفاضات قد يعتبرها البعض بداية البدايات لما قد تشهده هذه المنطقة من متغيرات جوهرية. وما شهدته ساحات العراق ولبنان والجزائر والسودان ومن قبلهم مصر والمغرب وسوريا واليمن من احتجاجات تصدح بأن الشعب يريد تغيير الأنظمة القائمة لم يكن سوى بداية التحضير لما أعلن في السابق عمّا سمي بـ "الفوضى الخلاقة"، وما دعت إليه كونداليزا رايس بالنسبة إلى "شرق أوسط جديد".
وما الحديث عن علاقة الحرب الروسية – الأوكرانية بما يجري الآن في المنطقة ليس سوى التذكير بأن مبادئ احترام سيادة الدول وعدم التدخل فيها هي من بين الأسباب الموجبة التي تؤجج الحروب، وتسمح للدول المعتبرة قوية بأن تستقوي على جيرانها توسعًا وطمعًا. وهذ السياسة التوسعية ليست سمة جديدة، فالدول الكبيرة والصغيرة، من داخل المنطقة وخارجها، فعلت ذلك باستمرار، منذ نهايات القرن الـ 18 (غزو نابليون لمصر 1798) والمنطقة تشهد تدخلا من القوى العظمى بما يمكن معه القول إن شيئا لم يتغير منذ ذلك التاريخ. حرب اليمن -منتصف الستينيات- والوحدة السورية - المصرية عام 1958 هي مجرد أمثلة على تدخل القوى الإقليمية في شؤون الدول الأخرى.
وعليه، فإن من يراقب بتمعن ما تقوم به إسرائيل في غزة ولبنان لا بدّ له من الوصول إلى استنتاج واحد، وهو أن ثمة أهدافًا أخرى من هذه الحرب الهمجية التدميرية والتهجيرية، ومن بينها، على ما هو ظاهر، خلق كيانات مغايرة عمّا كان عليه الوضع قبل 7 تشرين الأول من العام الماضي. ولكن دون الوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة الكثير من العوائق والكثير من التعقيدات. وقد يتطلب أمر إزالة هذه العوائق وفكفكة التعقيدات وقتًا طويلًا واستنزافًا اقتصاديًا وبشريًا قد لا يكون في مقدور الفلسطينيين في القطاع ولا اللبنانيين تحمّل نتائج هذا الاستنزاف طويلًا. المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: شرق أوسط جدید
إقرأ أيضاً:
من مكة إلى الكرامة… الرصاصة التي أصبحت جيشًا
صراحة نيوز ـ بقلم: جمعة الشوابكة
في العاشر من حزيران من كل عام، لا يمرّ اليوم على الأردنيين مرور الكرام، بل ينبض التاريخ في وجدانهم من جديد. إنه اليوم الذي تختصر فيه الأمة مسيرتها المجيدة بين سطرين خالدين: الثورة العربية الكبرى التي أطلقها الشريف الحسين بن علي عام 1916، ويوم الجيش العربي الأردني، حين توحّدت البندقية بالراية، والعقيدة بالوطن.
لم تكن الرصاصة الأولى التي انطلقت من شرفة قصر الشريف في مكة مجرد إعلان تمرّد على الحكم العثماني، بل كانت البيان التأسيسي للسيادة العربية الحديثة، وبداية مشروع تحرر قومي لا يعترف بالتبعية، ولا يرضى بأقل من الكرامة. قاد الشريف الحسين بن علي هذا المشروع بوعي تاريخي عميق، وسلّمه لابنه صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن الحسين آنذاك، الذي جاء إلى شرقي الأردن مؤمنًا بأن الثورة لا تكتمل إلا ببناء الدولة، وأن الدولة لا تنهض إلا بجيش عقائدي يحمل راية الأمة ويحميها. وهكذا، وُلد الجيش العربي، من رحم الثورة، ومن لبّ الحلم القومي، لا تابعًا ولا مستوردًا، بل متجذرًا في الأرض والهوية.
كان الجيش العربي الأردني منذ تأسيسه أكثر من مجرد تشكيل عسكري، كان المؤسسة التي اختزلت روح الوطن. شارك في معارك الشرف على ثرى فلسطين، في باب الواد والقدس واللطرون، ووقف سدًا منيعًا في وجه الأطماع والعدوان، حتى جاءت اللحظة المفصلية في معركة الكرامة عام 1968، حين وقف الجندي الأردني بصلابة الرجولة خلف متاريس الكرامة، وردّ العدوان، وسطّر أول نصر عربي بعد نكسة حزيران، بقيادة جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال – طيب الله ثراه – ليُثبت أن الكرامة لا تُستعاد بالخطب، بل تُنتزع بالدم. لقد كان هذا النصر عنوانًا حيًا للعقيدة القتالية الأردنية، القائمة على الانضباط، والولاء، والثبات، وفهم عميق للمعركة بين هويةٍ تُدافع، وقوةٍ تُهاجم.
وفي قلب هذه المسيرة، وقف الشهداء، الذين قدّموا دماءهم الزكية ليظل هذا الوطن حرًا شامخًا. شهداء الجيش العربي الأردني لم يكتبوا أسماءهم بالحبر، بل خلدوها بالدم، في فلسطين، والجولان، والكرامة، وفي كل ميدان شريف رفرف فيه العلم الأردني. لم يكونوا أرقامًا في تقارير، بل رسل مجدٍ وخلود، يعلّموننا أن السيادة لا تُمنح، بل تُحمى، وأن كل راية تُرفع، تحمل في طياتها روح شهيد.
ومن بين هؤلاء، كان جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال – رحمه الله – أول القادة الذين ارتدوا البزة العسكرية بإيمان وافتخار. تخرّج من الكلية العسكرية الملكية في ساندهيرست، وخدم جنديًا في صفوف جيشه، ووقف معهم في الخنادق، لا على المنصات. كان القائد الجندي، الذي يرى في الجيش رمزًا للسيادة، وركنًا من أركان الدولة، وظل يقول باعتزاز: “إنني أفخر بأنني خدمت في الجيش العربي… الجيش الذي لم يبدل تبديلا.” فارتقى بالجيش إلى مصاف الجيوش الحديثة، عقيدةً وعتادًا، قيادةً وانضباطًا، ليبقى المؤسسة التي لا تتبدل ولا تساوم.
واليوم، يواصل المسيرة القائد الأعلى للقوات المسلحة الأردنية، جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم – الملك الممكِّن والمعزّز – الذي تربّى في صفوف الجيش، وتخرّج من الميدان قبل أن يعتلي عرش البلاد. يرى جلالته في الجيش العربي الأردني شريكًا استراتيجيًا في بناء الدولة، لا مجرد مؤسسة تنفيذية. ولهذا، شهدت القوات المسلحة في عهده قفزة نوعية في الجاهزية القتالية، والتحديث، والتسليح، والتعليم العسكري، حتى أصبح الجيش الأردني عنوانًا للانضباط والسيادة الإقليمية والإنسانية، وصوت العقل في زمن الفوضى.
ويأتي تزامن يوم الجيش مع ذكرى الثورة العربية الكبرى تتويجًا لهذه المسيرة، ليس كمجرد مصادفة تاريخية، بل كتجسيد حي لوحدة الرسالة، واستمرارية المشروع الهاشمي، من الشريف الحسين بن علي، إلى الملك المؤسس عبد الله الأول، إلى الملك الباني الحسين بن طلال، إلى جلالة الملك الممكِّن والمعزّز عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم. فهذه ليست محطات منفصلة، بل خط سيادي واحد، يبدأ بالتحرر، ويُترجم بالجيش، ويُصان بالسيادة. لقد بقي الجيش العربي منذ نشأته على العهد، حاميًا للوطن، وحارسًا للهوية، ودرعًا للشرعية، لا يُبدّل قسمه، ولا يخون ميثاقه.
في العاشر من حزيران، لا نحتفل فقط، بل نُجدد القسم: أن هذا الوطن لا يُمس، وأن هذه الراية لا تُنكّس، وأن هذا الجيش لا يُكسر. من مكة إلى الكرامة، الرصاصة أصبحت جيشًا، والجيش أصبح عقيدة، والعقيدة أصبحت وطنًا لا يُساوم على كرامته، ولا يُفرّط بذرة من ترابه.