بطاقات الامتياز الإسرائيلية.. هندسة المجتمع الفلسطيني بين الطبقية والطاعة
تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT
يوصف "اتفاق أوسلو" بأنه أعظم فكرة ابتدعها الاستعمار عبر التاريخ، ليس لأنه أعاد إنتاج الاستعمار الكولونيالي للحركة الصهيونية بشكل مقبول دوليا، بل لأنه عمل، وبعمق، على إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني بالرغم من أن مخرجاته في مجملها تعتبر فاشلة إذا ما تم محاكمتها بما كان مأمولا دوليا وما يجري على أرض الواقع لكن ذلك لا يعني التغاضي عن سياسات كيّ الوعي، والاحتواء، وهندسة المجتمع التي يولي لها المخطط الإسرائيلي أهمية كبرى وتعتبر سلاحه المتين في مواجهة الفلسطينيين.
لإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني مناهج شمولية تشمل كل مناحي الحياة وتدخل في الحيثيات الدقيقة لتشكيل الوعي وبناء الصورة، وما يراه الآخرون في المجتمعات الأخرى عفويا يكون مقصودا، خاصة فيما يتعلق ببناء الصورة السلبية عن الفلسطيني، من قبل مهندسي كيّ الوعي لدى الإسرائيليين المسؤولين عن الملف العربي تحديدا، ومن ذلك أدوات صناعة التمايز الاجتماعي ومغازيها ومنها بطاقات (VIP–BMC).
بطاقات النخبة السياسية المتميزةيقول يوسي بيلين في تأريخه لمرحلة أوسلو التي كان أحد مهندسيها: لقد ابتدعنا مع اتفاق أوسلو فكرة (VIP)، وكان هدفها أن تعيش فئة من النخبة السياسية والاقتصادية الفلسطينية حياة تختلف عن تلك التي يعايشها المواطن الفلسطيني العادي، فإذا ما جلسنا للتفاوض، فمن يفاوضنا لا يعايش تلك المعاناة اليومية من التنقل على الحواجز والقيود المعقدة لحياة الفلسطينيين. يؤدي ذلك إلى أن مطالبه تصبح مختلفة.
تصدر سلطات الاحتلال بطاقة (VIP) لكبار الشخصيات، تعني هذه البطاقة تسهيلات في الحركة، السفر من ممر خاص في المعابر دون الدخول في قيود معقدة من الانتظار ومحطات السفر التي لا يوجد لها مثيل في العالم، الدخول إلى أراضي 1948 في أي وقت وباستخدام المركبات الخاصة، السفر من مطار بن غوريون.
أصبح مجتمع (VIP) ضعيف الصلة بالواقع المعاش للمواطن الفلسطيني. لم يخف المخطط الإسرائيلي أنه أراد بذلك عزل النخبة السياسية التي يتفاوض معها عن واقع الفلسطينيين المعاش، مما يعني أن من يعيش ضمن هذه التسهيلات لن يعود بمقدوره الفهم العميق لما يعنيه حاجز قلنديا أو الكونتينر أو مسارات العمل الفجرية ليصل العمال إلى جهات عملهم في الداخل أو ساعات الانتظار الطويلة والمسار ذو الـ 16 مرحلة من أجل السفر للخارج.
بطاقات النخبة الاقتصادية المتميزةلم يقتصر منطلق التعامل هذا على جزء من النخبة السياسية، ففي الجانب الاقتصادي توجد بطاقات (BMC) وهي التي أدخلت عليها سلطات الاحتلال في السنوات الأخيرة تسهيلات كبيرة فأصبحت في متناول عدة آلاف من كبار التجار وعوائلهم بحيث أنتجت في المجتمع طبقة يطلق عليها أصحاب (BMC). أصبح التنافس في الحصول على هذه البطاقة مصدر مباهاة من قبل بعضهم وحرصا كبيرا على استيفاء شروطها فيما تحولت الغرف التجارية إلى واجهات وسيطة لتنظيم الحصول عليها، وبدل أن تنشغل في تعزيز سياسة الاقتصاد المقاوم أو التدخل في السياسات الاقتصادية تحولت إلى مجرد وسيط لإصدار تصاريح العمل للداخل وإصدار بطاقات الامتياز هذه لكبار التجار.
أصبح مجتمع السياسيين من حاملي بطاقات (VIP) ضعيف الصلة بالواقع المعاش للمواطن الفلسطيني. ولم يخف المخطط الإسرائيلي أنه أراد بذلك عزل النخبة السياسية التي يتفاوض معها عن واقع الناس
استخدمت سلطات الاحتلال منطق العصا والجزرة في تقديم هذه البطاقات، فقد تم سحبها مؤخرا من عدد من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح لأنهم أدلوا بتصريحات أو تفاعلوا مع أحداث المقاومة الأخيرة أو مجدوا الشهداء، وكأن المطلوب أن يكون ثمن هذه البطاقة ليس الانسلاخ عن واقع المعاناة اليومية فقط، بل تغييرا كاملا للخطاب، حتى لو كان بلغة التضامن مع الضحية.
لا يمكن بالطبع التشكيك في وطنية وانتماء من يحملون هذه البطاقات، فهم في معظمهم أشخاص لديهم انتماء عال لشعبهم وإسهامات كبيرة في مجتمعهم، ولكن الحكاية مرتبطة بالتدجين، يذكر في هذا الإطار قيام ضباط مخابرات إسرائيليين بتهديد تجار فلسطينيين بسحب بطاقات (BMC) منهم بسبب مشاركتهم في التبرع لإعادة بناء منازل مقاومين هدمها الاحتلال، هذا مثال لتصرفات كثيرة للاحتواء. أيضا يرتبط الأمر بالصورة التي يسعى الاحتلال إلى نقلها عن الفلسطيني للعالم وأنه يعيش حياة طبيعية جميلة غير متوافرة في كثير من بلدان العالم، رغم أنه وراء تلك الصورة الجميلة لفئة محدودة جدا من الناحية العددية، آلاف الصور القاسية لباقي الشعب المطحون.
لهذا السبب، أصبحت وزارة الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية أهم من الناحية العملية من مجلس الوزراء، يسعى كثيرون لنيل رضاها، لأن وزارة الشؤون المدنية هي من تدير هذه العلاقة وتصدر هذه البطاقات بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي، علما أن الجانب الإسرائيلي يتعامل أيضا بشكل مباشر مع الجمهور ويصدر هذه البطاقات لفئات أخرى خارج سياق وزارة الشؤون المدنية لاعتبارات مختلفة، وخاصة أن سلطات الاحتلال تعمد في السنوات الأخيرة إلى التعامل المباشر مع الجمهور الفلسطيني وتتجاهل جزئيا وجود السلطة الفلسطينية.
يجب التمييز بالطبع بين التصاريح التي تصدرها سلطات الاحتلال للعمال البسطاء من أجل العمل في الداخل (أكثر من 100 ألف يعملون في الداخل وفق تصاريح عمل تصدرها سلطات الاحتلال، وثلاثة أضعاف هذا العدد يعملون دون تصاريح ويعرضون حياتهم للخطر يوميا من أجل الوصول إلى أعمالهم) وبين هذه البطاقات التي يتم إصدارها لفئة معينة من النخبة. ذلك أن تقديم تصاريح العمل لا يندرج تحت بند التسهيلات بداية لأن من واجب سلطات الاحتلال وفق القانون الدولي توفير فرص عمل للشعب تحت الاحتلال، ولأن تقديم هذه التصاريح ممزوج بحلقات مختلفة من الاستغلال من حيث فائض القيمة والحقوق العمالية والفائدة الكبيرة التي تحققها سلطات الاحتلال من استغلال حاجة هذه الفئة للعمل.
صناعة الصورة الوهميةلكن حكاية بطاقات (BMC) و(VIP) لها شأن مختلف، يقول أحد السائحين الذي يتنقل من خلال مطار بن غوريون "لقد تفاجأت من عدد المركبات التي تحمل نمرة تسجيل فلسطينية والمركونة في ساحات مطار بن غوريون"، عمد آخرون إلى تسجيل فيديوهات لسيارات فلسطينية فارهة مركونة في ساحات المطار، بالطبع لا توجد مركبة فلسطينية واحدة هناك ليست فارهة. يتم تصوير الأمر على أنه ثراء وبذخ يعيشه الفلسطينيون لكن الحقيقة غير ذلك.
حقيقة، يجب الاعتراف دائما بذكاء العقل الإسرائيلي وقدرته المنظمة على الدعاية وكيّ الوعي وصناعة الصورة، وأن لا شيء لديه يتم بالصدفة وأن خطابه المحلي والدولي ولا سيما في السنوات الأخيرة تطور بشكل كبير بمزيج من خبراء علم النفس، والاجتماع، والدعاية، والإعلام، والأمن.
بالعودة إلى حكاية المركبات المركونة في مطار بن غوريون، فإن أحد شروط الحصول على بطاقة (BMC) هو أن تكون السيارة بمواصفات فارهة وبموديل حديث، أدى ذلك إلى قيام بعض التجار باستبدال مركباتهم لملاءمة الشروط لدرجة أن بعضهم لجأ إلى لقروض من أجل ذلك. والمحصلة النهائية مركبات فلسطينية فارهة وأين؟ في واجهة إسرائيل للعالم [مطار بن غوريون] تعطي انطباعا مغايرا تماما لمعيشة الفلسطيني اليومية تحت الاحتلال.
وإذا كانت سلطات الاحتلال تلجأ إلى سياسة العقوبات الجماعية التي تطال عامة الناس، فإنها لا تحاول التعامل بذات المبدأ مع هذا النوع من الامتيازات، والسبب واحد، وهو مفهوم تماما ومنطقي، إذ يؤدي ذلك إلى ضرب "مكون الثقة" بين فئات المجتمع، ويسهم في التفاوت الاجتماعي وتوليد الأحقاد بين الفئات الاجتماعية المختلفة، أن تقف في طابور طويل فيما تشاهد آخر يشهر بطاقته ويمر بسلاسة والأسوأ حين يكون من النخبة فأي ثقة سوف تتجدد في هذه النخبة. بالضبط هذا بيت القصيد في إعادة هندسة المجتمع.
تسعى سلطات الاحتلال وفي كل تفاصيل الحياة إلى لتمييز بين الناس، ففي نوع آخر من التسهيلات، وبدل أن تقوم بواجبها في توفير معابر سلسة لعبور للفلسطينيين للسفر للخارج، تلجأ للتسهيل من خلال تقديم خدمة (VIP) على المعابر الحدودية، معبر الكرامة سيء الصيت من حيث الاكتظاظ وإجراءات السفر مثال على ذلك، فالتسهيلات المطلوبة تقدم للمسافرين، ولكن أي نوع منهم؟ الإجابة هي لمن لديه القدرة ليدفع أكثر، فيحدث أيضا التمييز بين الناس وهو المطلوب إسرائيليا. فإذا كان على المواطن الفلسطيني العادي أن يقضي ساعات طويلة في قيظ الصيف للتنقل بين الجانبين الأردني والفلسطيني بسبب إجراءات التفتيش المعقدة، ليعبر في النهاية مسافة لا تتجاوز بضعة كيلومترات بعد دفع رسوم باهظة، فإن أي فلسطيني يستطيع أن يدفع -فوق تلك الرسوم- مبلغا إضافيا قيمته (120) دولارا يستطيع تجاوز ذلك في دقائق.
يتم تصوير هذه الخدمة على أنها تسهيلات، ونمط سفر فارهٍ للفلسطينيين على المعبر سيء الصيت، لكن هل تستطيع عائلة فلسطينية مكونة من ستة أفراد مثلا أن تدفع 750 دولارا إضافية من أجل تجاوز أزمة المعبر!! عدد محدود يستطيع فعل ذلك فيما يترك الآخرون لمعاناتهم. هذا فرز اجتماعي مقصود، والغريب أن يتم قبوله فلسطينيا وكأنه الفارق بين فئة صغيرة تستطيع العيش بامتيازات وشعب مسحوق يتم التفنن في السيطرة عليه وتعقيد حياته.
لا تحاول إسرائيل المساس بمبدأ الامتيازات، لسبب مفهوم تماما ومنطقي، فهو يؤدي إلى ضرب "مكون الثقة" بين فئات المجتمع، ويسهم في التفاوت الاجتماعي وتوليد الأحقاد بين الفئات المختلفة
سياسات التمييز.. لماذا؟أشارت دراسة اجتماعية قام بها جهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك" قبل سنوات إلى أن 10% من الشعب الفلسطيني عملاء لإسرائيل أو يفضلون العيش في ظل دولة إسرائيل، ونحو 15-20% "إرهابيون" (أي مقاومين) يستخدمون "العنف" ضد الاحتلال، لكن المشكلة في نظر "الشاباك" ليست في هذه الفئة أو تلك، المشكلة لديهم هي في عامة الشعب أو الـ70% المتبقية، لأنهم عندما يتخذون موقفا فإنهم يسيرون خلف الـ20% " الإرهابيين" وليس الـ10% العملاء. نفهم من ذلك كيف يراد لهذه الأغلبية أن تعيش حياة معقدة، غير مستقرة، وأن عليهم أن يفقدوا الثقة في كل شيء وهم يشاهدون فئة قليلة تتمتع بامتيازات كبيرة فقط لأنها دخلت معادلة التدجين والاحتواء.
لا يقل الأمر خطورة حين يصبح هذا النمط من العيش لفئة محدودة جدا من الفلسطينيين مصدر الدعاية المضللة للاحتلال التي يبرزها للخارج، ولا سيما في الجانب العربي، ويقع فريسة لذلك سطحيو النظر في المنطقة العربية ممن يغرر بهم بنمط دعائي إسرائيلي موجه ومستثمر به جيدا. إنها حرب الصورة من جهة، وحرب هندسة المجتمع من جهة أخرى.
في جانب آخر للصورة، يتجلى أحد إفرازات كيّ الوعي السيئة المرتبطة بهذا المنهج، وهو تعزيز نمط البحث عن "الخلاص الفردي" بدل بناء الحلول من خلال التضامن الجماعي، يسعى الاحتلال بشكل حثيث لبناء الحلول في الحياة العامة للفلسطينيين وفق هذا النمط، أن تحل مشكلتك فرديا دون أن تأبه بالآخرين.
والمؤكد أن هذا لم ينجح كثيرا على المستوى القاعدي، لأن أحد أشكال صمود الفلسطينيين في ظل كل التشوهات التي تحيط بهم هو التضامن و"العونة". لكن مع ذلك، فإن إعادة هندسة المجتمع وفق نمط " الخلاص الفردي" هي ظاهرة أيضا لا يمكن التغافل عنها، ومن تجلياتها مثل هذا التصنيف الذي لا يجعل من العيب على فئة تمثل طليعة اقتصادية أو سياسية أن تتجاوز التعقيدات التي يضعها الاحتلال بخلاص فردي بينما يعيش باقي الشعب المعاناة.
إن وجود هذه الظاهرة، فضلا عن مقبوليتها هو الكارثة بعينها، هذه ليست مسألة يمكن قبولها لو تشكل وعي جمعي حقيقي يرى في المجموعة قوة أهم من الفرد، وفي التضامن الجماعي حلا أقل كلفة من الخلاص الفردي، وفي بناء الحلول جماعةً أكثر أخلاقية من الارتهان لمعادلات التدجين.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: سلطات الاحتلال مطار بن غوریون من النخبة من أجل
إقرأ أيضاً:
أسطرة المقاومة في مواجهة عوالم الموت الإسرائيلية
يعتمد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كحال سائر المستعمرين والمحتلين، على أشكال متطورة ومتجددة من العنف بهدف إخضاع الشعب الفلسطيني الواقع تحت سيطرته وتشكيل وعي متواطئ معه، يقبل بالخضوع، بحسب خلاصة مستمدة من أعمال خبراء ومختصين في دراسات "ما بعد الاستعمار".
وترصد العديد من هذه الدراسات، مثل أعمال الطبيب الفرنسي فرانز فانون، والفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي، وأستاذة الأدب في جامعة هارفارد "إيلين سكاري"، أشكال العنف الاستعماري وأهدافه، وإمكانات الشعوب المقهورة في التعامل معه، وما يسمى بتقنيات إدارة الألم فرديا وجماعيا.
وبحسب هذه الأعمال، فإن نجاح شعب ما في التحرر مرهون بقدرته على الانعتاق من القيود الفكرية التي يفرضها الاستعمار والصبر على الألم وتحويله إلى دافع لتشكيل هوية مناضلة وفعل مقاوم طويل الأمد.
ويسعى الاحتلال من خلال "الصدمة والترويع" إلى خلق قدر من الألم الهائل والمفاجئ على شكل موجات تهدف إلى تجاوز قدرة الشعب على التحمل، وتوجيه أثر هذا العنف إلى داخله، تفككا وتآكلا للثقة وهو ما يجعله جاهزا للخضوع ونبذ المقاومة.
وردا على ذلك، تسعى أي حركة تحرر إلى استيعاب عنف المستعمر من خلال إستراتيجيات، منها "أسطرة البطولة" وجعلها مدخلا لتجنيد الشعب في أعمال المقاومة، وتحقيق الإنجازات التي تقنع الشعب بجدوى المقاومة.
ويضاف لذلك توثيق جرائم الاحتلال وجعلها أساسا لنزع شرعيته الدولية، والسعي لإيقاع أكبر قدر من الألم المادي والمعنوي في الاحتلال، مع تركيز الأنظار إلى حجم ألم العدو.
قدم الطبيب الفرنسي فانز فانون نظرية واسعة التأثير بشأن طبيعة الاستعمار وطرق مواجهته، وذلك من وحي معايشته لاستعمار بلاده للجزائر، حيث كان يعالج جرحى الفرنسيين والجزائريين ويتفكر في دلالات مشاهداته، ولاحقا ألهمت أفكاره العديد من حركات التحرر حول العالم، وحفزت أعمالا موافقة لها وأخرى معارضة.
إعلانويرى فانون في كتابه "معذبو الأرض" أن الاستعمار نظام عنيف يعيد تشكيل الإنسان المستعمَر ليصبح "شيئا" وليس إنسانا طبيعيا، إذ يصور ضحاياه كمصدر للشر، يجب تدميره أو تهذيبه.
وبناء عدواني بهذه الدرجة لا يمكن تفكيكه بلغة الإصلاح، بل يتطلب -وفقا لفانون- تحطيما جذريا باستخدام القوة. مؤكدا أن "اللقاء الأول بين المستعمِر والمستعمَر كان عنيفا، واستمرار العلاقة بينهما قائم على اللغة نفسها، إلا أن أحد أخطر آثار الاستعمار هو "التواطؤ النفسي"، حيث يبدأ المضطهَد في تبني نظرة المستعمِر إليه.
وفي مواجهة عنف الاحتلال تكون نقطة التحول هي احتضان الألم والمعاناة، والتوقف عن الهرب ومواجهة الاحتلال وجها لوجه، وحينها فإن "الشيء الذي تم استعماره يعود إنسانا في العملية نفسها التي يتحرر فيها"، وذلك عند مواجهة عنف الاحتلال بالعنف الذي يستحقه ويستدعيه.
وبحسب فانون، فـ"العنف قوة تطهير.. تحرر المستعمَر من عقدة النقص والخمول"، وتعيد له احترامه لذاته، وتمنحه شعورا بالسيادة والسيطرة بعد طول إخضاع واستضعاف.
وفي هذه العملية لا يمكن للفرد أن يتحرر وحده، بل وحدة الجماعة الثورية أمر أساسي، والقاعدة هي "نجاة الجميع أو لا أحد".
سياسات الموت
وذهب الفيلسوف الكاميروني، أشيل مبيمبي، أبعد من ذلك في وصف السلوك الاستعماري، مبتكرا مصطلح "سياسات الموت" الذي جعله عنوانا لكتابه بهذا الشأن، والذي يلحظ أن الاستعمار يفرض سيادة يكمن التعبير النهائي عنها في "تحديد من يجوز له أن يعيش ومن يجب عليه أن يموت".
ويلاحظ مبيمبي أن انتزاع الجسد والحياة في ظل الاستعمار لا يحصل "باعتبارهما مجرد أشياء تُحكم، بل بوصفهما ساحة لظهور سلطة السيد الحاكم".
وتشير "سياسات الموت" إلى الطرق المتعددة التي تستخدم فيها الأسلحة في عالمنا المعاصر، من أجل أقصى قدر من التدمير البشري، وبذلك فإن الحصار والحدود والمخيمات والسجون وساحات القتال تقوم بإنتاج "عوالم موت"، تكون فيها حياة الشعب المستعمر على حافة الموت بشكل مستمر.
إعلانوفي الحرب الجارية في قطاع غزة يمكن ملاحظة تبني الاحتلال الإسرائيلي لإستراتيجية "عوالم الموت"، بدءا من حصار القطاع على مدار 17 عاما قبل الحرب، مرورا بتكثيف الموت والإصابة بين الفلسطينيين.
كما حوّل الاحتلال كل مناحي حياة الفلسطينيين إلى معاناة، كالحصول على المياه والغذاء والعلاج، وتدمير المساجد وتعطيل عملها في تعزيز الروح المعنوية، وإنهاك المجتمع من خلال إدخاله في متواليات من الأمل ثم اليأس، إذ تتناوب عليه أنباء الانفراج القريب التي يتلوها التصعيد والتهجير الداخلي، ويتم تحويل مراكز المساعدات إلى محطات للقتل كما حصل في العديد من المجازر على مدار الحرب.
درست أستاذة الأدب في جامعة هارفارد، إيلين سكاري، توظيف الألم كأداة سياسية في كتابها "الجسد المتألم.. صنع العالم وتفكيكه"، مشيرة إلى أن "النشاط المركزي في الحرب هو الإيذاء الجسدي، والهدف الأساسي منها هو التفوق في إلحاق الأذى بالطرف الآخر".
وذلك رغم أن "واقع الإيذاء الجسدي غالبا ما يكون غائبا عن الأوصاف الإستراتيجية والسياسية للحرب"، كما يظهر لدى مراجعة كتابات كلاوزفيتز وليدل هارت وتشرشل وسوكولوفسكي وغيرهم من منظري الحرب.
ففي الحرب "تحاول كل جهة أن تُحدث تفككا في الجهة الأخرى بجعل واقع الإيذاء نفسه هو القضية التي يُخاض النزاع حولها. ولا يكون النصر بالضرورة إلى جانب الطرف الذي يُلحق بخصمه أكبر قدر من الأذى من حيث الكمية المطلقة، بل إلى الطرف الذي ينجح في تفكيك عزيمة الطرف الآخر، سواء عزيمته على مواصلة الإيذاء أو على مواصلة تحمّله".
وتسلط سكاري الضوء على خاصية أساسية في الألم الجسدي، وهي الصعوبة البالغة للتعبير عنه ونقل الشعور به إلى الآخرين لتعظيم أثره النفسي، مما يستدعي البحث عن وسائل "تكسبه الصوت" بهدف التخفيف منه.
وتتابع المدرسة في جامعة هارفارد أنه "كما أن التعذيب يتكوّن من أفعال تُضخم الطريقة التي يدمر بها الألم عالم الشخص وذاته وصوته، فإن الأفعال الأخرى التي تُعيد الصوت لا تكون مجرد إدانة للألم، بل تُصبح أيضا شكلا من التخفيف من الألم، بل انقلابا جزئيا على عملية التعذيب نفسها".
إعلانوتقول "إن الاعتراف بالألم، ومحاولة التعبير عنه، تُعدّ شكلا من الامتداد الذاتي في العالم، بحيث يُمنح المتألم إمكانية استعادة صوته، ومن ثم استعادة إنسانيته".
ومن هذه الوسائل ضرورة الاعتراف بالألم، والتعبير عنه، وبناء شبكات التعاطف الاجتماعي مع المتألمين، إذ "إن التعاطف، حين يمنح الألم مكانا في العالم عبر اللغة، يقلل من قوة الألم ويقاوم قدرة الجسد -حين يتألم- على ابتلاع الشخص بالكامل".
وفي الحالة الفلسطينية، كان للأبعاد الدينية والروحية دور أساسي في استيعاب الألم والصدمات التي خلقها الاحتلال الإسرائيلي، إذ وفرت البنية العقائدية للمقاومة قدرا عاليا من الصلابة، ومكنتها من الاستمرار في العمل العسكري بدرجات متفاوتة على مدار 18 شهرا، رغم تقدير الاحتلال أنه قد قتل ما يزيد على 10 آلاف مقاتل، إضافة إلى الأعداد الهائلة من الشهداء والجرحى الذين يتركزون في أهالي المقاتلين ومحيطهم الاجتماعي.
ووفرت مفاهيم مثل الشهادة والصبر والاحتساب، وآيات القرآن من قبيل "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون" أساسا للتعبئة الشعبية، وهي نتاج ثقافة تعززت بشكل خاص مع صعود دور المقاومة الإسلامية وإدارتها قطاع غزة منذ العام 2006.
التمحور حول الألم
ويتضح مما سبق أن مقدار الألم في الحرب ليس محددا للهزيمة أو النصر بحد ذاته، بل كيفية التعامل معه هي الأمر الحاسم بهذا الشأن، فإذا ترافق الشعور بالألم بالمعنى وبالتضامن فمن الممكن أن يكون معزّزا للإرادة في وجه الاحتلال، أما حينما يسود خطاب "عبثية الألم" مترافقا مع التفكك الاجتماعي والسياسي فيكون الألم دافعا إلى الانهيار.
ويمكن لمركزية الألم في سياق الاستعمار أن تتخذ منحى إيجابيا أو سلبيا، وفقا لما تظهره الأعمال النظرية السابقة والتجارب العملية بهذا الشأن، إذ يمكن أن يكون الألم حافزا وأداة للتحرر حينما يحوّل إلى طاقة حشد وتعبئة، ويدار بروح جماعية صلبة، من خلال التضامن الاجتماعي والخطاب المقاوم، وحينما يعرّي العدو أخلاقيا ويقوض سرديته التي يقدم نفسه فيها مركزا للخير والحضارة.
إعلانوبالمقابل، يعمل الاستعمار على إيصال الألم إلى مستوى لا يقدر المجتمع المستعمَر على تحمله بهدف تفكيك التضامن والروح المعنوية، ولتعزيز الشقاق الداخلي، مع الحرص على عدم إعطاء تنازلات يراها الواقعون تحت الاحتلال إنجازات تعزز صمودهم وثباتهم.
وهكذا، فإن مآل الحرب لا ينفك عن صراع الإرادة بين صنع الألم وإدارته لدى طرفي الصراع، بما يتطلب وضع الألم دائما في سياقه، وتوجيه رد الفعل عليه نحو الاحتلال، مع السعي الدائم إلى تقليل مقداره في سياق إدامة مقاومة الاحتلال وليس الاستسلام لإرادته.