مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، "ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)‎"، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.

عبد الله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.

com

مناخ ستينيات القرن العشرين في السودان

بدأ عقد الستينيات في السودان مع زيادة قبضة الحكم العسكري، وظلال انتصار حركة الحقوق المدنية، وتجدد وتوسع أسئلة الهوية، بمناخ الثورة والتوق للديمقراطية وأشواق التغيير والاتصال بالمشهد العالمي، بيد أنه، وبرغم اندلاع الثورة، انتهى عقدا للكبوات الكبرى التي تجلت في المفارقات الفكرية والتناقضات السياسية، والتي تحكمت نتائجها في مسار السودان السياسي والفكري منذ ذلك الوقت وحتى تاريخ اليوم.
لقد شهد السودان عقب نيله الاستقلال عام 1956، وانتمائه لجامعة الدول العربية، حراكاً واسعاً عن مستقبل الثقافة العربية في السودان فصدر العديد من الكتب والمقالات في الدوريات المحلية ومجلة المعهد العلمي بأم درمان، في الوقت الذي أقرت فيه اللجنة القومية للدستور في يوم 8 فبراير 1957، الإسلام دينا رسميا للدولة، والشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً من مصادر التشريع . كما شهد عقد الستينيات إنتاجاً فكرياً ضخماً وحركة أدبية ونقدية واسعة وتجديداً لسؤال الهوية، فبرزت تيارات نقدية مثل تيار الغابة والصحراء الذي نحته الشاعر النور عثمان أبكر، وتبلورت فكرته في ألمانيا، وكان ميلاده الحقيقي في منزل محمد عبد الحي الذي خرج إلينا في عقد الستينيات بقصيدته: "العودة إلى سنار". كتب الشاعر محمد المكي إبراهيم عن مناخ ألمانيا في الستينيات وهو يتحدث عن "التاريخ الشخصي للغابة والصحراء"، قائلا: "تميزت ألمانيا الستينيات بروح الندم والتكفير عن خطاياها في الحرب الأخيرة، وانسياقها وراء الدعاية العنصرية التي جعلتها تحارب العالم أجمع، وتتصرف باحتقار نحو كل الأعراق والأجناس... وكان ثمة أناس لطيفون خرجوا من تحت أنقاض الحرب يريدون أن يعرفوا إذا كنت زنجيًّا من إفريقيا أم عربيًّا من الشرق الأوسط...". كما شهد العقد قيام لتجمعات مدنية قوية ومؤثرة مثل: نادي السينما وقيام المسرح الجامعي والذي أسس فيما بعد لقيام المسرح القومي الحديث بأم درمان، وقيام تجمع الكُتاب والفنانين التقدميين "أبادماك"... إلخ. استمر ذلك الحوار عن مستقبل الثقافة العربية والهوية وتوسع مع تمدد خطاب القومية العربية، واتخذ أشكالا مختلفة مع تفاقم قضية الجنوب وسياسة الحسم العسكري التي اتبعها النظام العسكري، ومع ميلاد حركة الأنيانيا عام 1963. كما شهد العقد طرح مسألة العلاقة بين الدين والدولة، بصورة أكثر جدية وأكثر تحديداً من ذي قبل. وبدأ الحوار حول علمانية الدولة أو إسلامية الدستور. كما شهد العقد تحوُّل "أزهر السودان" المعهد العلمي بأم درمان إلى جامعة أم درمان الإسلامية. وشهد العقد أيضاً بداية البث التلفزيوني من أم درمان، وتعديل مكتب محفوظات السودان -وهي تسمية الاستعمار البريطاني- إلى دار الوثائق المركزية في عام 1965، ثم بموجب تعديل القانون عام 1982 أصبحت دار الوثائق القومية .
كما شهد عقد الستينيات رئاسة الصادق المهدي للجبهة القومية المتحدة (1961- 1964) خلفا لوالده الصديق. ثم انتخب الصادق رئيساً لحزب الأمة في نوفمبر 1964. وشهد العقد اندماج حزب الشعب الديمقراطي برئاسة الشيخ علي عبد الرحمن الأمين مع الحزب الوطني الاتحادي في عام 1965، وتم تكوين الحزب الاتحادي الديمقراطي، برئاسة إسماعيل الأزهري، وأصبح الشيخ على نائباً للرئيس . كما برزت إلى حيز الوجود جبهة الميثاق الإسلامي كتنظيم يدعو إلى إقامة جمهورية إسلامية على أساس دستور إسلامي. وأصبح الدكتور حسن عبد الله الترابي أميناً عاماً له، بعد أن عاد للسودان من بعثته الدراسية بفرنسا.
أيضا شهد عقد الستينيات كتابات واسعة عن قضية الجنوب، شرارة ثورة أكتوبر، من قبل قادة الأحزاب السودانية، والمثقفين، وهو شيء جديد لدى بعض الأحزاب والمثقفين. ففي أبريل من عام 1964م كتب الصادق المهدي: مسألة جنوب السودان. كما نشر الحزب الشيوعي السوداني قبل عقد الستينيات العديد من الكتابات والبيانات عن مشكلة الجنوب. ففي نهاية عام 1955 اصدر صحيفة أدفانس كمنبر ديمقراطي جماهيري لمعالجة قضايا الجنوب. ونشر وثيقة عن مشكلة الجنوب في مؤتمره الثالث في فبراير 1956. كما نشر جوزيف قرنق، وهو من طلائع الشيوعيين الجنوبيين، كتيباً بعنوان: مأزق المثقف الجنوبي، ونشر عبدالخالق محجوب، سكرتير الحزب الشيوعي مقالات في صحيفة الأيام في صيف 1964 عن مشكلة الجنوب، كما نشر في اطار تبني الحزب الشيوعي للإضراب السياسي العام في صيف 1961 لإسقاط النظام العسكري، كتابا في عام 1963 بعنوان: نحو إصلاح الخطأ في العمل الجماهيري، وغيرها. كذلك كان الحزب الجمهوري، من أوائل الأحزاب السودانية، التي أولت قضية الجنوب اهتماماً خاصاً وباكراً، فقد تناول الحزب قضية الجنوب في أكتوبر عام 1945 ضمن كتاب نشره بعنوان: السفر الأول، كما أصدر العديد من المنشورات والبيانات عن قضية الجنوب، منها: في يوم 21 يناير 1946 منشوراً بعنوان –"مشكلة الجنوب (1)"- وفي يوم 11 فبراير 1946، منشورا بعنوان –"مشكلة الجنوب (2)"- وفي 10 سبتمبر 1955 نشر بياناً عن "حوادث الجنوب" ، ونشر في عام 1964 بياناً بعنوان -"مشكلة الجنوب"-، وبيانا آخر بعنوان –"ومشكلة الشمال"- . هذه مجرد نماذج فقط لتعطي تصوراً عن طبيعة الحراك وحجمه. تبع ذلك، خاصة بعد ثورة أكتوبر، انفتاح الأكاديميا السودانية على مشكلة الجنوب فصدرت العديد من الدراسات التي تناولتها.

قضية الجنوب والثورة: الجماهير والخروج من الذات لملاقاة الآخر

بالرغم من أن هناك عدة عوامل تداخلت في أسباب اندلاع ثورة أكتوبر، منها: مصادرة الحكومة العسكرية للحريات الأساسية، وفشلها في معالجة المشاكل الاقتصادية والسياسية، وعدم ارتكاز الحكم على قاعدة شعبية، إلا أن أهم الأسباب، هي مشكلة الجنوب، التي كانت من أكبر مظاهر فشل الحكم العسكري. لقد أذكت مشكلة الجنوب ثورة أكتوبر، ومثَّلت أهم مغذياتها، وهي أعظم معالم التعدد الثقافي في السودان، وظلت كذلك ذريعة لكل الانقلابات العسكرية وحتى الانقلاب الأخير عام 1989. لقد وفر الجنوب شرارة الانفجار للغضب الشعبي ضد النظام العسكري، فعبرت الجماهير السودانية عبر الثورة عن رفضها لسياسة الحسم العسكري في الجنوب، واستعدادها للخروج من الذات لملاقاة الآخر. فقد كانت سياسة الحكم العسكري تجاه الجنوب قائمة على قهر وكبت المعارضة واعتماد مبدأ الحل العسكري. كما أُعلنت سياسة نحو الجنوب تقوم على فرض الإسلام واللغة العربية، إذ قام النظام العسكري من وراء الستار بتشجيع محاولات للتبشير الإسلامي غير مدروسة، كما اصدر قانون الجمعيات التبشيرية عام 1962 وطرد المبشرين بدعوى تدخلهم في شؤون السودان الداخلية وفي إذكاء الحرب الأهلية والصراعات الدينية بين المسلمين والمسيحيين. الأمر الذي ضاعف من معارضة الجنوبيين بوجه عام، ومن ثم هجر كثير من المستنيرين منهم الوطن إلى الأقطار الأفريقية المجاورة ليمارسوا نشاطهم السياسي. وازداد عدد اللاجئين الجنوبيين في يوغندا والكونغو وأثيوبيا وأفريقيا الوسطى. واستطاعوا أن يؤسسوا هناك تنظيمات سياسية مستقلة. ونجحوا في تلقي إعانات مادية من الارساليات التبشيرية وتعاطفت معهم جماعات أخرى. وأخذ تنظيم اللاجئين السياسيين يدعو إلى فصل المديريات الجنوبية عن الشمال وتأسيس دولة مستقلة في الجنوب.
نلتقي مع الحلقة الثالثة.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: النظام العسکری مشکلة الجنوب قضیة الجنوب ثورة أکتوبر فی السودان العدید من کما شهد فی عام

إقرأ أيضاً:

الشعب الجمهوري ينظم مؤتمرا جماهيريا حاشدا لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ بالجيزة

نظم حزب الشعب الجمهوري مؤتمرًا جماهيريًا حاشدًا بمدينة أوسيم في محافظة الجيزة، تحت رعاية النائب طارق الطويل الأمين المساعد لأمانة العمل الجماهيري المركزية، وذلك لدعم مرشحيه في انتخابات مجلس الشيوخ 2025، النائب "أحمد أبو هشيمة" نائب رئيس الحزب، الذي يخوض السباق الانتخابي ضمن القائمة الوطنية من أجل مصر تحت رمز «كليوباترا»، وأحمد الفار، والذي يخوض السباق الانتخابي على المقعد الفردي تحت رمز «الصاروخ».

حضر المؤتمر كل من اللواء محمد صلاح أبوهميلة الأمين العام للحزب ورئيس هيئته البرلمانية بمجلس النواب، وأحمد الألفي الأمين العام المساعد لشؤون التنظيم والعضوية "أمين التنظيم المركزي"، إلى جانب الدكتور زاهر الشقنقيري أمين أمانة التخطيط والتطوير المركزية والمتحدث الرسمي باسم الحزب، المستشار أحمد حبيب الأمين المساعد لأمانة المجالس المحلية المركزية، والمهندس أحمد إسلام أمين مساعد أمانة التخطيط والتطوير المركزية.

الشعب الجمهوري ينظم مؤتمرًا لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ ببني عبيدالشعب الجمهوري: كلمة الرئيس السيسي تؤكد التزام مصر التاريخي بدعم القضية الفلسطينية ورفض التهجيرالشعب الجمهوري: كلمة الرئيس السيسي عبرت عن خارطة طريق واضحة لدعم الشعب الفلسطينيالشعب الجمهوري: التشكيك في مواقف مصر تجاه فلسطين محاولة يائسة ومرفوضة

افتتح المؤتمر بعزف السلام الجمهوري، تلته كلمات قيادات الحزب وبعض الضيوف.

من جانبه، أكد النائب أحمد أبو هشيمة، أن ترشحه ضمن "القائمة الوطنية"، يجسد التزامه الراسخ بخدمة الوطن وتلبية تطلعات المواطنين تحت قبة مجلس الشيوخ.

كما شدد نائب رئيس الحزب، على أن أي محاولات للمزايدة على الموقف المصري تجاه القضية الفلسطينية هي محاولات باطلة وعديمة الجدوى، مؤكدًا أن الدولة المصرية تواصل دعمها الثابت والمتواصل للشعب الفلسطيني في غزة بكافة الوسائل المتاحة، سواء من خلال المساعدات الإنسانية أو الجهود الدبلوماسية.

بدوره، أعرب اللواء محمد صلاح أبوهميلة عن تقديره العميق للحضور من أبناء أوسيم وقيادات الحزب، مشيدًا بالروح الوطنية التي تجمع الجميع في دعم مرشحي الحزب، ومؤكدًا أن النائب "أحمد أبو هشيمة"، والأستاذ "أحمد الفار" يمثلان صوت المواطن في مجلس الشيوخ، من خلال برامج انتخابية تركز على تعزيز التنمية المستدامة وتحسين مستوى معيشة المواطنين.

ومن جهته، أكد أحمد الألفي أن حزب الشعب الجمهوري يعمل وفق خطة منظمة تهدف إلى اختيار مرشحين يمتلكون القدرة على تحقيق آمال الشعب المصري، لافتًا إلى أن مرشحي الحزب يحملون رؤية واضحة لدعم الاقتصاد الوطني، تحسين الخدمات العامة، وتمكين الفئات الشابة.

وأضاف أن الحزب يسعى إلى بناء جسور من الثقة بين المواطنين والمؤسسات السياسية.

على الجانب الآخر، أشار أحمد الفار، إلى أن هدفه الأساسي هو تمثيل المواطنين بكل أمانة وشفافية، والعمل على حل المشكلات المحلية من خلال تشريعات تدعم البنية التحتية وتحسن جودة الحياة.

وفي سياق متصل، أكد النائب طارق الطويل أن هذا التجمع يعكس مدى التفاف أبناء الجيزة حول مرشحي الحزب، مشددًا على أن النائب "أحمد أبو هشيمة" و "أحمد الفار" يمتلكان الخبرة والكفاءة لتمثيل الحزب بقوة في مجلس الشيوخ.

تجدر الإشارة إلى أن المؤتمر شهد حضور أحمد الجزار عضو هيئة مكتب الأمانة العامة، الدكتورة شذى أحمد عضو أمانة التخطيط والتطوير المركزية، رفعت عطا أمين الحزب بمحافظة الجيزة، النائب أحمد عاشور أمين تنظيم الحزب بمحافظة الجيزة، إلى جانب  أعضاء هيئة مكتب الحزب بالمحافظة، وأمناء المراكز والأقسام، بالإضافة إلى مشاركة آلاف المواطنين.

طباعة شارك حزب الشعب الجمهوري انتخابات مجلس الشيوخ 2025 النائب طارق الطويل مدينة أوسيم السباق الانتخابي

مقالات مشابهة

  • ما تأثير وجود حكومتين على الصراع العسكري في السودان؟
  • ???? مغالطة جون قرنق الكبري وتجلياتها في الحاضر السياسي
  • السودان يقابل الخبير “نويصر” بخطاب ناري ويوجه صفعة مزدوجة للأمم المتحدة
  • رئيس حركة شباب التغيير والعدالة: إعلان حكومة المليشيا جزء من مؤامرة تمزيق السودان
  • مناوي يطالب “الأمم المتحدة” باتخاذ هذا الإجراء…
  • وزارة العدل: استلام ملفات موقوفين على خلفية ارتكاب جرائم وانتهاكات بحق الشعب السوري وتحريك الدعوى العامة بحقهم
  • إعلام عبري: حزب الله يستنفر في الجنوب ويوزع معدات استعدادا لاحتمال الحرب مع إسرائيل
  • الشعب الجمهوري ينظم مؤتمرا جماهيريا حاشدا لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ بالجيزة
  • البقلي: مصر تدعم كل جهد دولي يسهم في تثبيت حقوق الشعب الفلسطيني
  • السوداني: سوريا تمثل أمنا قوميا للعراق.. أفكار التقسيم مرفوضة