العلاقات الروسية وخارطة الطريق السودانية
تاريخ النشر: 21st, November 2024 GMT
الفيتو الروسي اليوم (18 نوفمبر 2024م) أبطل مشروع قرار الدول الغربية الذي قدمته بريطانيا لمجلس الأمن، والرامي لشرعنة التدخل الإنساني في السودان، وحظر الجيش وكافة عملياته، بالتوقف القسري لجميع العمليات ضد الميليشيا وشرعنة النهب والاغتصاب وقتل المدنيين، مما يعني عمليا تقسيم السودان بين مناطق سيطرة الميليشيا وتلك التي يتواجد فيها الجيش.
نفس القرار طبق من قبل على عراق صدام حسين في التسعينيات، فأدى لإنفصال إقليم كردستان من الناحية العملية، ومثيله القرار ضد ليبيا القذافي عام 2011م فأفضى إلى تشكيل حكومتين في بنغازي وطرابلس لا تزالان تختصمان حتى اليوم.
الذي يحمد للإتحاد الروسي مصداقيته في الوقوف مع سيادة السودان بالعمل وليس بمجرد العبارات المنمقة، كما فعل مع سوريا من قبل. فأوقف مسلسل العبث الطاغي والمتطاول على سيادة السودان، وتسييره مغلولا ومعصوب العينين من قبل دول الاستعمار الجديد المعروفة، لإمضاء مخططاتها المتماهية مع أعدائه المعلنين.
هذا موقف مشرف من الإتحاد الروسي يستحق التقدير ورد التحية بأحسن منها، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
بيد أنه تبين الآن أن تطاول عمليات حسم هذا التمرد المدعوم بأجندة الخارج تعيق التقدم دبلوماسيا، وتكبل السياسة الخارجية. وظل هذا شأن السودان مع هذه الدول منذ الاستقلال، وعلى كافة الحكومات، الإنقلابية والعسكرية، بالتآمر المستمر، وتبادل الأدوار في كل مرحلة حسب مقتضياتها. وينشط التآمر الخارجي بنصب الحبائل في أجواء المعاناة المكفهرة التي تصنعها بيادقه من جيوش العملاء المتماهين مع المرتزقة حملة السلاح، ومن خانوا قسم الولاء للوطن فخانوه، ورفعوا السلاح المعد للعدى في صدور زملائهم رفقاء العقيدة الوطن.
ولذا فيتعين على الحكومة القائمة التعامل مع الوضع الراهن بالجدية والحسم المطلوبين. فأول مطلوب عملي هو تسريع عمليات تطهير البلاد من جيوب التمرد الآفل في كل مسارح العمليات، وبدءا بولاية الجزيرة، قلب السودان النازف، وتسريع عمليات تطهير بقايا التمرد في أطراف الخرطوم لإعلانها ولاية خالية من التمرد، والشروع في إنفاذ برامج إعادة البناء والإعمار.
ففي كل يوم تتأخر فيه القوات المسلحة المدعومة، أكثر من أي وقت مضى، بالمستنفرين والمقاومين، وكل شعب السودان، عن الحزم الموعود، فإن ذلك المدى الزمني يفتح فصولا جديدة من التآمر والتربص ونصب الحبائل. فقد أعلم بمثيل هذا التربص المولى تعالى رسوله، وهو في ساحة الجهاد مع المسلمين السابقين الأولين بقوله:-
“ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا” ثم أوصاهم بعدم التهاون والتردد في الحسم مهما كانت التضحيات:
“ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين” موصياً ومحرضاً لهم بالثبات على المبدأ وتحديد الوجهة والتوكل الحازم.
أما على مستوى العلاقات الخارجية الثنائية، فقد تبين الآن للجميع، وبوضوح ساطع، من يقف مع السودان، ومن يدبر له المكائد.
وبالتالي فيتعين أن تعتمد مقاصد وتوجهات السياسة الخارجية هذه البوصلة التي لا تكذب.
فيتعين إبرام اتفاقيات دفاع مشترك واتفاقيات اقتصادية وتجارية، واتفاقيات التبادل النقدي مع دول صديقة وموثوقة كالإتحاد الروسي والصين وكافة الدول الصديقة، التي أكدت بالقول والفعل احترمها لسيادة السودان ووحدة ترابه واستقلال قرار شعبه السياسي، بدلا من الخضوع المتقاعس لأجندة الخارج التركيعية، وتوعداته التثبيطية، التي لن تقود إلا لمزيد من التشظي والفرقة، وبذر الشقاق والاحتراب بين أبناء الوطن الواحد، والسعي لتموضع العملاء والوسطاء لإذكاء المزيد من الفتن واستطالة أمد الحرب.
بالأمس اجتمع المستشار الألماني أولاف شولتز مع الرئيس بوتين، وقد خلص المراقبون إلى أن الهدف من اللقاء المفاجئ، الذي أذهل العديد منهم، يصب في خدمة السياسة المعلنة للرئيس المنتخب دونالد ترمب، الذي قرر إنهاء الحرب في أوكرانيا، كما أن ألمانيا نفسها ظلت تعاني من التدهور الاقتصادي بسبب قطع إمدادات الغاز والنفط الروسي عنها منذ عام 2022م ، فأدى ذلك لإغلاق عدد من مصانع السيارات مثل شركة فلكسواجن، وتجميد استثمارات أجنبية لصناعة الموصلات الإلكترونية تقدر ب 30 مليار دولار، وتزايد نسب العطالة والتذمر واستقالة وزير المالية والاقتصاد وتصدع الائتلاف الحاكم، فضلا عن أن نسبة النمو الاقتصادي خلال العام الجاري تناقصت إلى 0.2% وعلما بأن الاقتصاد الألماني يؤثر على كل دول الإتحاد الأوربي وضَعفه يعاني معاناتها. وبالتالي فلم يعد لأوروبا من مناص سوى التوصل لحل لمشكلة أوكرانيا نزولا على مبدأ الرئيس ترمب.
وبالتالي فإن الرهان الأوربي للوقوف مع أوكرانيا ضد روسيا وهزيمتها بدون أمريكا أصبحت معالمه واضحة للجميع.
بالأمس أعلنت حكومة الانقلاب في القابون التي يترأسها الجنرال بريس انقويما نتيجة الاستفتاء العام على الدستور الجديد، والذي حصل على تأييد أكثر من 91% من المواطنين، وجاء ذلك بموافقة ورعاية فرنسا ماكرون للانقلاب العسكري الذي جرى في أغسطس 2023م ضد حكومة الرئيس المنتخب علي بونقو في ديسمبر 2022م. وفي السودان نحتاج لتجربة أفضل لأن مرور خمس سنوات دون حكومة منتخبة يضحي أمرا مقلقاً.
عموما على الرئيس البرهان العمل والتصرف كرئيس حكومة أمر واقع، ودولة ذات سيادة، فعليه الشروع في تشكيل حكومة المهام الانتقالية من الخبراء والتكنوقراط، وإعلان برنامج إعادة الإعمار، وإصدار خارطة طريق للانتخابات لاستعادة المشروعية المسنودة بسيادة الشعب وسلطة حكم القانون. فالعالم لا يحترم من يتقاعس وينتزع موقعه المستحق بين الدول، ولا يحتفي بالمترددين المرتكسين المنتظرين لإشارات الآخرين. فالمياه الراكدة يفسدها طول الركود فتفسد ما حولها. والله يخاطب الرسول القائد تعليما للمسلمين في مثل هذه المواقع: ” فإذا عزمت فتوكل على الله”..
دكتور حسن عيسى الطالب
المحقق
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
حكومة الأمل: ما هي مهامها الاستراتيجية الكبرى
حكومة الأمل: ما هي مهامها الاستراتيجية الكبرى
الدكتور الدرديري محمد أحمد
(1 من 2)
من منا لا يذكر لقاء ترامب بالرئيس الاوكراني فلودمير زيلينسكي في البيت الأبيض في اليوم الاخير من فبراير من هذا العام. رسَخ ذلك اللقاء في الذاكرة لأنه كان تفاوضا على الهواء مباشرة بين رئيس أكبر دولة في العالم ورئيس دولة في قلب أوروبا تعرضت لعدوان غاشم اضطر الولايات المتحدة لأن تنفق على محاولات رده نحوا من ثلاثمائة مليار، وأرغم أوروبا أن تدفع ما يقارب المائتي مليار. لكن الأهم هو أنه مثل لحظةً فارقةً في التاريخ المعاصر للعلاقات الدولية. لحظةً تَبين القوم بعدها ان حجر الزاوية في النظام الدولي المعاصر لم يعد “منع العدوان”؛ الذي تنص عليه المادة 4 (2) من ميثاق الأمم المتحدة ويفسره قرار الجمعية العامة رقم 3314 (1974). وانما صار هو “الكروت”! وبعد ذلك اللقاء التاريخي ما من رئيس دولة او رئيس حكومة في عالم اليوم الا وهو في بحث دائبٍ عن “الكروت”. وإيجاد “كروت” للسودان هو ما ينبغي ان يكون أول ما يشغل بال رئيس الوزراء ووزير الخارجية الدكتور كامل ادريس وحكومته قيد التشكيل. فالسودان خالي الوفاض من “الكروت”. ونخصص هذه الحلقة الأولى من هذا المقال – ذي الحلقتين – لبيان مكانة “الكروت” وشأنها في عالم اليوم، وللنظر في كيفية استصناعها.
في ذلك اللقاء قال ترامب لزيلينسكي: “أنت لست في موقع جيد. أنت لا تملك الكروت حالياً. معنا ستبدأ في امتلاك الكروت”. You are not in a good position. You don’t have the cards right now. With us you will start to have the cards. عندما رد زيلينيسكي بالقول “أنا لا ألعب بالكروت”. قال له ترامب بحزم “أنت تلعب بالكروت. أنت تلعب بالكروت (…) بلدك في ورطة كبيرة. أنت لن تكسب في هذا. لديك فرصة ضئيلة للنجاة بفضلنا فقط”. ثم ختم ترامب بالقول: It is going to be hard to do business like this اي “سيكون من العسير ان نتفاهم (او نجري صفقة) بهذه الطريقة”.
قبل وصول ترامب للسلطة في يناير عام ٢٠١٦ كان النظام الدولي – الذي تأسس بعد انتهاء الحرب الباردة – قائما على احترام القانون الدولي وعلى القيم الدولية. فكانت السياسة الدولية تدار وفق ما يعرف بالنظام القائم على القواعد Rules-based order. وكانت هذه القواعد هي احترام القانون الدولي، وتقوية التعاون الدولي متعدد الأطراف Multilateralism ومؤسساته المختلفة كالأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، والأخذ بمبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان كمرجعيات عالمية. وهكذا كانت حقبة التسعينيات وبداية الألفية الثالثة مرحلة معيارية حل فيها القانون والقيم والمؤسسات محل القوة الخام كأساس للسياسة العالمية. وقام ذلك على اطروحات كبرى قدمها مفكرون عظام؛ يُؤخذ مما قالوا ويُرد. فكتب فرانسيس فوكوياما عام ١٩٩٢ “نهاية التاريخ” الذي تنبأ فيه بانتصار الديمقراطية الليبرالية وتراجع الصراع الأيديولوجي. وطور جوزيف ناي Joseph Nye مفهوم القوة الناعمة وأكد على أهمية التعددية في العمل الدبلوماسي. ودعمت آن ماري سلاوتر Anne-Marie Slaughter فكرة ترسيخ النظام الليبرالي الدولي من خلال شبكات الحكم والتعاون العابر للدول. وكتب جون إيكينبري John Ikenberry بإسهاب حول اهمية تولي الولايات المتحدة قيادة النظام العالمي كونه صرحاً يقوم على قواعد ليس غيرها بقادر على تشييدها.
اما بعد وصول ترامب للسلطة وتسيّد مبدأ “أمريكا أولا”، فقد نكصت الولايات المتحدة عن تلك المعيارية. فأعلت الهيمنة القومية على التعاون الدولي. ورفضت التحالفات الدولية التقليدية – بدأ بالناتو – ما لم تحقق لها “مكاسب مادية” مباشرة. واشترعت نهجا جديدا في السياسة الخارجية هو التعامل بمنطق الصفقات التجارية. وروجت لفكرة أن القوة والمصلحة تتقدمان على القانون. وهكذا لم يكن بمقدور زيلينسكي ان يحظى بمساندة البيت الأبيض لمجرد أن روسيا قد انتهكت مبدأ “رد العدوان”. وانما كان مطلوبا منه ان يبرز “كروتا”.
فتحت امريكا بذلك الباب واسعا أمام دول أخرى لتتبنى نفس النهج؛ واقصد هنا على وجه الخصوص روسيا، والصين، والهند، والبرازيل، واسرائيل، وتركيا. فازداد تأثير قادتها صارمي الوجوه: بوتين، وجين بينغ، ومودي، وبولسينارو (الذي لا تستبعد عودته في اول انتخابات مثل ما عاد ترامب)، ونتنياهو، واردوغان. وراجت اطروحات جديدة لمفكرين جددا أعلوا راية الواقعية realism، يجيء على رأسهم جون ميرشايمر John Mearsheimer الذي يرى ان الاصل في القوى العظمى ان تتصرف وفقًا لمصالحها، وليس لقيمها. وبالطبع انتعشت الكتابات القديمة لمنظري الواقعية مثل باري بوسين (٢٠١٤) Barry Posen (الذي يرى أن يكون اساس السياسة الخارجية الامريكية هو ضبط النفس الاستراتيجي Strategic Restraint، وأن على الولايات المتحدة أن تتجنب الالتزامات العسكرية الدولية المكلفة)؛ وكلاسيكيات راندال شويلر (١٩٩٨) وكينيث والتز (١٩٧٩).
النتيجة العملية لذلك هي ميلاد نظام عالمي لا يعبأ بالمبادئ وإنما يضع ألف حساب “للكروت”. فانهار التعاون الدولي الرامي لإعلاء حقوق الانسان؛ اذ لم تعد الولايات المتحدة والدول الكبرى تعتبر حقوق الإنسان أولوية في سياساتها الخارجية. فرأينا كيف ان ترامب لم يأبه لمقتل خاشقجي، بل امتدح محمد بن سلمان. وغادرت الولايات المتحدة اتفاقات ومؤسسات التعاون الدولي بالجملة. فانسحبت من مجلس حقوق الانسان، ومن اتفاق باريس للمناخ، ومن منظمة الصحة العالمية، ومن الاتفاق النووي مع إيران. ثم كان الحل الذي اعتمدته لمشكلة الشرق الاوسط هو الاتفاقات الابراهيمية التي هي في الأساس صفقات تبادلية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية دون اعتبار لحقوق الفلسطينيين. واصبحت السياسة الخارجية الامريكية للمنطقة تقوم على أساس وضع ألف حساب “للحلفاء الاقوياء” محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ونتنياهو. اصاب الذعر كبار الكتاب وكبريات الصحف. فقالت أنجيلا ميركل (٢٠١٩): “لم تعد اليقينيات القديمة لنظام ما بعد الحرب (العالمية الثانية) قائمة”. وقال جدعون راشمان في الفاينانشيال تايمز واصفا النظام العالمي الحالي بأنه “رجال أقوياء في مواجهة القواعد”. ووصفت مجلة الإيكونوميست مرارا (2018–2023) سياسة العالم الخارجية بعد ترامب بأنها “جيوسياسة البلطجة”.
وهكذا فانه لابد لرئيس الوزراء ووزير الخارجية ان يتصور انه ربما يجلس، في نحو العام او العامين، الى ترامب في البيت الأبيض؛ على كرسي زيلينيسكي ذاته. فحينها لا ينبغي ان يكتشف انه صفر اليدين عندما يتحسس ما لديه من “كروت”!
والسودان ليس بدعا من الدول في استصناع “الكروت”. فالدول الفاعلة حولنا كلها قد اوجدت لها “كروتا” تتعهدها بالصيانة وتلعب بها في الوقت المناسب. فأهم “كروت” مصر هو سلامها الدائم مع إسرائيل. ومن “كروتها” التي تتعهدها بإقامة المشروعات الجديدة وتذكر بها بين الفينة والفينة قناة السويس التي تمر بها ١٢٪ من التجارة العالمية. هي ميزة جغرافية، لكنها صارت “كرتا” كونه يتم توظيفها. وضع خطين تحت كلمة “توظيف”. فالقناة دون استثمار دبلوماسي يعطيها وزنها الجيوبوليتيكي تظل كما مهملا. وتتمتع مصر بتأثير ثقافي واعلامي وديني كبير في المنطقة يعتبر الأزهر ذروة سنامه. ولديها سوق اقتصادية واستثمارية ضخمة. وتوظف الدبلوماسية المصرية ذلك كله أيما توظيف. اما السعودية، “كرتها” الأهم هو كونها المنتج الثاني – بعد أمريكا – للنفط. اذ تنتج عشرة ملايين برميل سنويا. وقد وَظفت هذه المزية من خلال توليها الزعامة الفعلية للأوبيك. ثم تجيء قيادتها الروحية للعالم الاسلامي كونها مقر الحرمين الشريفين. ثم تشفع ذلك كله بتعاطيها ايجابا وبفاعلية مع اقليمها؛ مثل حربها في اليمن ومصالحتها مع إيران وإقامتها منبر جدة للتوسط في الشأن السوداني. ثم هي توجد “العربية” و “الحدث” قنوات غير رسمية تخدم خطها في الفضاء الإعلامي. ثم هي تطرح رؤى جديدة تخاطب جيلا شابا متطلعا وتستشرف عالم ما بعد النفط وعالم الذكاء الاصطناعي. فبعض “الكروت” يعزز بعضه بعضا. وأهم “كروت” الامارات هو سيفها المسلول علانية للتصدي للإسلاميين ولكل ما يمت للأصالة وقيمها بصلة في المنطقة كلها. ويجيْ بعده انخراطها في حروب الوكالة في اليمن، وليبيا، وسوريا، والسودان. فهي ترى نفسها “اسبارطة” الشرق الأوسط وشمال افريقيا. ثم توظيفها موقعها الجغرافي عند مدخل مضيق هرمز الذي يعبر خلاله ٢٠٪ من نفط العالم وكذلك ٢٠٪ من غازه الطبيعي. ولعبها دور في توازن الشرق والغرب كونها تحتفظ بعلاقات دافئة مع الصين وروسيا الى جانب علاقاتها التقليدية مع الغرب. ثم توظيفها لثقلها المالي والاستثماري والتجاري والاعلامي المعروف. ومن امثلة مشروعاتها التوظيفية الناجحة اكسبو ٢٠٢٠ في المجال الاقتصادي، و “اسكاي نيوز عربية” في المجال الإعلامي، وغزو الفضاء وارتياد ما هو طارف من آفاق الرقمنة في المجال التقاني. اما “كروت” قطر فأهمها قاعدة العديد العسكرية، التي هي الأكبر من نوعها في الشرق الأوسط، والتي هي العمود الفقري للأمن الغربي في المنطقة بأكملها. وشهدنا مؤخرا كيف انها وظفت هذا “الكرت” باقتدار عجيب لإيقاف حرب أمريكا وإسرائيل مع إيران؛ والتي كانت تتهدد اول ما تتهدد قطر في ذاتها وقطر في مواردها. وقطر هي المُصدّر الأول للغاز الطبيعي المسال في العالم. وقد رأينا كيف أنها تُحسن توظيف مزيتها الطبيعية هذه حين وقّعت مع العديد من دول اوروبا العقود طويلة الأجل بعد اندلاع الحرب في اوكرانيا. فأقنعت الجميع انها المصدر المستقر والمستدام لهذه السلعة الاستراتيجية على المدى الطويل. اما دبلوماسيا، فهي تقدم نفسها باعتبارها “سويسرا” الشرق الاوسط وافريقيا … في مقابل “اسبارطة”. انظر كيف كانت عراب مساعي وقف إطلاق النار بين حماس واسرائيل. وكيف توسطت بين الولايات المتحدة وطالبان. وكيف خطفت الأضواء مؤخرا بالتدخل بين الكنغو ورواندا في أعماق افريقيا. بل هي دوما نشطة في القنوات الخلفية لتسوية النزاعات؛ فتنشط حاليا في عدة جبهات مشتعلة منها اوكرانيا، ولبنان، وليبيا، وتشاد، بل والسودان ايضا. ومن “كروتها” الدبلوماسية حرصها على الاستقلال في مواقفها عن دول الخليج. اذ لها علاقاتها الخاصة بإيران، وبتركيا، وبحماس، والإسلاميين. كما ترفض الانجرار لحروب الخليج رغم الضغوط – مثلما نأت بنفسها عن حرب اليمن. اما اعلاميا فيكفي ان يشار الى “قناة الجزيرة” التي تعد أكبر شبكة اخبارية في جنوب الكرة الأرضية؛ والتي تشكل الرأي العام الدولي ازاء احداث كبرى مثل حرب غزة. وتعمل قطر بذكاء لتجعل من استثماراتها المالية الكبرى “كروتا” ذات شأن. ومن ذلك استثماراتها في كناري وورف، وهارودز، واستثماراتها العقارية بلندن، وفي العديد من البنوك العالمية، واستثماراتها في اندية كرة القدم الأوروبية، ونجاحها في استجلاب كأس العالم لصحراء الخليج ومناخه القاري.
ولا يظننن ظان ان استصناع “الكروت” مما لا يتأتى الا للمقتدرين. فلكل دولة القدرة في ان توجد “كروتا” ان هي قدّرت ما لديها من امكانات وفهمت كيف توظفها.
انظر الى رواندا، وتأمل كيف انها عكفت على أكبر مأساة لديها، وهي الابادة الجماعية للتوتسي، وجعلت من معالجتها سردية نادرة للنجاح في تجاوز الفصل والتطهير العرقي. بل قدمت نفسها من خلال ذلك للعالم صانعةً للسلام. فنجحت على هذا الاساس في اقامة علاقات قوية ومتوازنة ومتميزة مع فرنسا، وبريطانيا، والصين، وإسرائيل، ودول الخليج. كما قدمت نفسها رسولا للسلام. قواتها اليوم تحفظ السلام في موزمبيق، والكنغو الديمقراطية، وافريقيا الوسطى. وكانت معنا هنا في السودان ضمن اليوناميد. ثم عكفت على عاصمتها الصغيرة، كيغالي – التي لا يعدو تعداد سكانها المليون ونصف المليون – فجعلت منها نموذجا لما يسمى المدينة الذكية ومركز الابتكار Smart city and innovation hub. وانظر الى اثيوبيا وكيف اصرت اصرارا عجيبا على اقامة سد النهضة لتتمكن من توظيف ميزتها الطبيعية في أعالي هذا النهر العملاق فتكتسب بذلك الحق في الرأي الذي لا يهمل في دبلوماسية المياه، التي هي من أخطر قضايا المنطقة. وقد جعلت هذا الإنجاز واسطة العقد ضمن نخبة مقدرة من “الكروت” الأخرى التي تتيحها لها مزاياها الجغرافية والديمغرافية وثقلها الدبلوماسي، كونها مقر الاتحاد الافريقي. اما يوغندا فقد اختارت كرتا خاصا ذو فعالية عجيبة. اذ جعلت من عاصمتها موئلا للارتباطات الاستخبارية بأوروبا وامريكا واسرائيل! وبسبب هذا “الكرت” تمكنت يوغندا من أن تطلق يديها دون رقيب في الكونغو الديمقراطية، وجنوب السودان، والصومال، وغيرها. ثم جعلت نفسها مثابة للجوء من كل انحاء القارة. وقد قصدها السودانيون مؤخرا لاجئين دون ان يخطر ببال أحدهم يوما ان تكون كمبالا او قولو له موئلا. اما كينيا، فإضافة الى “كروتها” التاريخية المتمثلة في احتضان وساطات السلام – منذ أيام مشاكوس وما قبلها – والمشاركة في بعثات حفظ السلام من افريقيا حتى هاييتي، ورعاية الحياة البرية وسياحة السفاري، فإنها اضافت “كرت” الديمقراطية الافريقية النموذجية ذات الانتخابات الراتبة، و”كرت” الاعلام الحر، و”كرت” التعاون التقني الذي منحها لقب “سافنا السيليكون”.
بل حاول السودان ان يتخذ “كروتا”. فمن نتائج توسط السودان الناجح في العام ٢٠١٨ في شأن جنوب السودان ان تقوى موقف السودان التفاوضي في رفع العقوبات الامريكية. وأذكر جيدا ان نيكي هيلي مندوبة الولايات المتحدة في الامم المتحدة وقتها قد استقبلتنا، أنا والمندوب الدائم للسودان السفير عمر دهب، في مكتبها في سبتمبر ٢٠١٨ بالقول “مرحبا بصناع السلام”. كذلك كان لوساطة السودان الناجحة في نزاع افريقيا الوسطى في فبراير ٢٠١٩ – والتي انتزع السودان دوره فيها انتزاعا من بين براثن فرنسا ومخالب فاجنر – اثرا مباشرا جعل فرنسا تدرس إمكانية تمرير الطلب الافريقي بتأجيل اتهام الرئيس البشير لمدة عام تحت المادة ١٦ من نظام روما – بغية تمكينه من التخطيط الهادئ لانتقال سلس. هذا إضافة الى ابتدار التفاوض مع السودان حول جملة من المسائل الدبلوماسية والاستخبارية العالقة والتي كانت تحركها ايادي فرنسا الخفية وغير الخفية. ومن ذلك تولي السودان المواقع القيادية التي يستحقها في الاتحاد الافريقي. ومنها طرد عبد الواحد نور الذي كان يتابع عملياته العسكرية في جبل مرة وهو يرتشف الكافيه كريم في مقاهي باريس. وربما يذكر السفير دفع لله الحاج علي، الذي كان وقتها سفيرنا هناك، كيف ان وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان قد استقبلنا في يوم شاتٍ بحرس الشرف في فناء “الكي دورسيه” وجلس معنا لساعتين. ثم جلسنا في اليوم التالي الى مستشار الرئيس ماكرون للشئون الافريقية وصديقه المقرب فرانك باريس المعروف بلقب Monsieur Afrique. ثم اتبعنا ذلك بلقاء غير رسمي بعيدا عن الأعين.
هذه المبادرات كانت تهدف لأن يوظف السودان وجوده في هذا الإقليم المضطرب بأن يستصنع “كرتا” لتولي وساطات التفاوض. ولو اتسع الزمن لتوسط السودان بين يوغندا ورواندا، اذ اوجد حينها علاقات متميزة مع رئيسيهما، بل تمت مفاتحتهما وقبلا وساطته. وكانت عينه على وساطة أخرى بين اثيوبيا وارتريا بمجرد ان تنقشع سحابة عارضة كانت حينها تعكر علاقة السودان بأريتريا. ولتقوية هذا “الكرت” تم اتخاذ خطوات عملية لأنشاء كلية للدراسات الدبلوماسية ذات بعد إقليمي توفر السند البحثي لهذه الوساطات. وتولى السفير عمر صديق – ولا تفوتنا تهنئته بمنصب وزير الدولة – هذا الملف. وقد تحمس بروفيسور احمد سليمان مدير جامعة الخرطوم حينها للفكرة واستصدر قرارا بها من مجلس الأساتذة. وتحمس لها أيضا وزير الخارجية السعودي عادل الجبير (كونها ستضم طلابا عربا وافارقة) فتعهد بتمويل مبناها النموذجي. كل هذا الجهد من اجل استصناع “كرت” واحد. لكنه “كرت” ذا مغذى وله ما بعده. اذ سيسهم في تحسين صورة السودان الخارجية، ويستتبعه اشراك القوات السودانية في بعثات حفظ السلام، وضمان مقاعد للسودان في المنظمات الدولية والإقليمية. ولكن هيهات… فقد حدث ما حدث.
إذا جاء نموذجنا لاستصناع “الكروت” من وزارة الخارجية، فاستصناع “الكروت” ليس قاصرا على هذه الوزارة. واكاد اجزم ان هناك محاولات – ربما نجح بعضها او أوشك – لوزرات الدفاع، والمالية، والطاقة، والاعلام، والثقافة، وغيرها مما يمكن ان يبعث يوما او يجدد.
هذا ما يقال عن المهمة الأولى لحكومة الأمل؛ التي هي استصناع “الكروت”. وفي الحلقة التالية من هذا المقال ننتقل لمهمتين استراتيجيتين أخريين تنتظران الدكتور كامل ادريس وحكومته.
28 يوليو 2025