رسائل من خط النار (2) | التقاعد الحرام
تاريخ النشر: 17th, August 2023 GMT
(1)
أما بعد؛
فقد بلغني أنك قدَّمت طلبًا للتقاعد، وأنك لا تطلب مكافأة ولا تكريمًا، وإنما تسأل فقط أن ندعك وشأنك.
يؤسفني إبلاغك أن طلبك مرفوض.
لا ينصرف المخلصون أبدًا ولا يتوقفون، إنما يواجهون -بشجاعة- ما أقدموا عليه، يعترفون بأخطائهم، ويغيرون أساليبهم وطرائقهم الساعية للتغيير
(2)خطر لي أن أخبرك بأمر ربما تراه طريفًا.
أنا أستعيذ بالله من الشيطان، لكني أراقب هذا الشيطان جيدًا، أدرس خطواته، وسياساته.
يا أخي،
هذا المخلوق لديه قوة إرادة غير عادية؛ إنه يصر ويصر عليك، يأتيك من كل جانب، ويغريك بكل ما هو ممكن أو محتمل، ولا ينهزم إذا صددته، لا يتوقف أبدًا، بل يكرر المحاولة، وحتى إذا قاومت الانصياع إليه، يعود فيغريك بما هو أقل مما عرضه عليك ورفضته، إنه يحاول أن يأخذ منك أي شيء، أن يضلك في صغيرة إن لم يضلك في كبيرة، أن يحقق أي انتصار، ولو كان بسيطًا.
أتعرف..
كل الظالمين مثله.
لديهم تصميم على بلوغ الحرام الذي يقصدونه، لا تلين عزائمهم، يتعاونون فيما بينهم، خططهم بعيدة المدى، لا يتوقفون أبدًا، ولا تغريهم الانتصارات البسيطة، هم يسعون إلى فساد أكبر.
هل فكر المظلومون في هذا الأمر من قبل؟
لا أظن..
عندما أخبروني أنك كفرت بالثورة، وقررت الانسحاب من الشأن العام، والابتعاد عن كل ما له علاقة بالسياسة، وحجتك في ذلك أن الناس قد انصرفوا عن الأمر، اندهشت؛ فأنا أتذكر أنك حين بدأت كان الناس قلة، ورغم ذلك بدأت، فلماذا تتوقف الآن بدعوى الناس؟
ثم هب أن الناس -فعلًا- انصرفوا عن الثورة وعن السياسة، فمنذ متى وعدد الناس عندك دليل على صحة الفكرة؟
وحتى إذا انصرف الناس عن الثورة ردهم أنت.
وحتى إذا انصرف الناس عن السياسة ردهم أنت.
لا ينصرف المخلصون أبدًا ولا يتوقفون، إنما يواجهون -بشجاعة- ما أقدموا عليه، يعترفون بأخطائهم، ويغيرون أساليبهم وطرائقهم الساعية إلى التغيير.
نعم أخطأنا حين كنا نعتقد أن التغيير يمكن أن يكون بسرعة، هكذا في غمضة عين، أن يثور الناس لعدة أسابيع، يخرجون في الشوارع، يبيتون في الميادين فيسقط نظام دكتاتوري عتيق، هكذا بكل بساطة.
أخطأنا أننا كنا ننتظر من أوروبا الديمقراطية أن تقف معنا، وأن ما حدث في أوروبا الشرقية -عندما وافتها رياح التغيير، فأسقطت أنظمة عاتية، وبنت أنظمة جديدة بكل سلاسة وهدوء- سوف يتكرر عندنا، ونسينا أن أوروبا الديمقراطية هي الداعم الأول لكل دكتاتوريات المنطقة.
أخطأنا في أننا أولينا قيادات، تدعي المعارضة، ثقة لا تستحقها.
أخطأنا في أننا توقفنا حين سقط الرأس، دفناه، فإذا بألف رأس ينمو.
هل تريدني أن أقص عليك مزيدًا من الأخطاء التي وقع الثوار فيها؟
الفشل -يا صديقي- ليس أننا لم نحقق ما نريد، لكن الفشل الحقيقي ألا نستمر في المحاولة، أن نستسلم، أن نقول: "مفيش فايدة"، أن ندعي أن الأمر مستحيل.
بالمناسبة، هؤلاء الذين نريد تغييرهم، أذكياء جدًّا، إنهم لا يقولون لنا أبدًا: إن أفكارنا خاطئة، كيف ونحن نتحدث عن العدل والمساواة والحرية؟
على العكس يقولون لنا: إن أفكارنا رائعة، لكنها مستحيلة، ونحن -رويدًا رويدًا- نصدق أنها مستحيلة، ونصدق أنه، فعلا، "مفيش فايدة"، ونستشهد بأي حادثة عابرة لنؤكد أن الأمر انتهى.
بل ربما نتبرأ مما جرى، نلوم أنفسنا ونسألها: كيف فعلنا ذلك؟ كيف ارتكبنا هذا الجرم؟ فنخجل من ذكر التحرير، من يناير وخيمه، والعيش والملح مع آخرين لا ينتمون إلى ما ننتمي إليه، وقد اكتشفنا جميعًا أن خيمة صغيرة قادرة على جمعنا رغم اختلافاتنا، فما بالك بوطن؟
ليس من باب المجاملة، ولكن من باب الحقيقة، أنت أفضل مني في أمور كثيرة، غير أني أفضل منك في أمر آخر، هو أن حلمي في العشرينيات ما زال كما هو
(4)اسمع..
أنا من العازفين عن السياسة إذا كان المقصود بها الدخول في معارك جانبية مع نظم بائدة، والتورط في قضايا جانبية، أو إصدار بيانات الشجب والإدانة، وتبادل السباب مع هذا وذاك، أنا في هذه الحالة -مثلك- عازف عن السياسة.
أما إذا كان المقصود بالسياسة هو الاهتمام بالشأن العام، والبحث عن مخارج، والتنسيق مع الآخرين، والتفكير في خطوط تماس بيننا كمختلفين فكريًّا يمكن أن تجمعنا، ودراسة تجربتنا وتجارب الآخرين، وأن نعمل على فضحهم أمام العالم، فأنا أدعوك أن تعود.
وإذا كانت الثورة محصورة في خروج الناس إلى الشارع، فأنا -مثلك- ضد الفكرة، لكن الثورة أكبر وأنضج من هتافات الحناجر.
كل فعل مقاوم هو ثورة.
كل شكل من أشكال الرفض هو ثورة.
كل محاولة للوعي هي ثورة.
كل جهد لتوحيد الصفوف هو ثورة.
كل اهتمام بما يجري في انتظار اللحظة المناسبة لقرار مناسب هو ثورة.
كل محاولة لإيجاد بدائل ووسائل جديدة للمقاومة هي عين الثورة.
(5)يا صديقي الراغب في التقاعد..
يدرك الظالم أن القضاء عليك صعب، لكن يأسك أسهل، كل ما هو مطلوب منك أن تقول: "مفيش فايدة"، وبذلك يغلق أي باب في المستقبل للتغيير؛ لأن التغيير لا يحدث فجأة، لا يسقط علينا هكذا من السماء.
وأنت خير من يعرف أن الدكتاتور مثل الضرس، لا يمكن خلعه هكذا ببساطة، بل في حاجة إلى محاولات عدة، تهزه من هنا، وتهزه من هناك، تطرق عليه من هنا، وتكرر من هناك، تنجح في محاولة، وتفشل في أخرى.
يدرك الثائر أن الأمر في حاجة إلى الصبر.
وأن النصر في أحيان كثيرة قد لا يتحقق في حياته.
(6)أتعرف..
ليس من باب المجاملة، ولكن من باب الحقيقة، أنت أفضل مني في أمور كثيرة، غير أني أفضل منك في أمر آخر، هو أن حلمي في العشرينيات ما زال كما هو، صحيح أن بعض مفاهيمي قد تغيرت، بعض وسائلي قد تغيرت، لكن حلمي ما زال هو كما كان، وما زالت قناعتي أن التاريخ لن يرحم المتقاعدين تمامًا كما أنه لن يرحم الطغاة.
صديقي العزيز،
"قد يقتلك نورك".
قلت لك ذلك مرة، ابتسمتَ وسألتَ: ماذا أقصد؟
وأجيبك أنا: إن الوعي والضمير هما النور، وإذا امتلكتهما، فإنك لن تتوقف أبدًا عن المعركة، وفي النهاية قد يؤدي ذلك إلى مقتلك، ولو فكرت في ذلك قليلاً لقلت: وما الضرر في ذلك؟ وهل يمكن أن يموت المرء لحظة واحدة قبل أن ينتهي عمره المقدر؟
قلت لك: إننا ميتون ميتون، فليقتلنا نورنا أفضل من أن تقتلنا خيانتنا وجهلنا وتنازلنا، بل إن الهلاك يقع عندما نصمت، فإذ ذاك نحن نخسر أنفسنا.
نعم..
حين نعلن تقاعدنا، إنما ندير ظهورنا لمن هم قيد السجون، ولمن رحل، وحينها نخسر أنفسنا.
والسلام ختام.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: عن السیاسة أفضل من من باب
إقرأ أيضاً:
ثورة الهواتف المتوسطة.. هل تموت فئة الهواتف الرائدة؟
تغير عالم الهواتف المحمولة كثيرا في السنوات العشر الماضية، وبعد أن كانت الهواتف المحمولة كلها تنتمي إلى الفئة ذاتها، أصبحنا اليوم نرى هواتف رائدة وأخرى متوسطة وهواتف اقتصادية، حتى إن الهواتف الغبية عادت إلى الساحة مجددا.
ولا يمكن القول إن هناك معيارا واحدا يحكم قطاع الهواتف المحمولة أو يحدد سبب الاختيار، سواءً كان إيجابيا أو سلبيا، ولكن بشكل عام، فإن العديد من المستخدمين يسعون لاقتناء هواتف ذكية تقدم أفضل قيمة مقابل سعر قليل، فلا يدفعون أكثر من اللازم في مزايا موجودة في الهواتف الأخرى بسعر أقل.
ورغم أن الهواتف الرائدة هي التي تحقق المكسب الأعلى لشركات تصنيع الهواتف المحمولة، إلا أن ثمن هذه الهواتف كان يشكل حاجزا يمنع المستخدمين من اقتنائها، ومن هنا ولدت فئة الهواتف المتوسطة، أي الهواتف التي تأتي بسعر أقل قليلا من الهواتف الرائدة وتقدم مزايا مناسبة، ومع تطور التقنيات وانتشار الشركات المصنعة لمكونات الهواتف وانتشار شركات صناعة الهواتف المحمولة بشكل عام، ولدت فئة جديدة، أصبحت تدعى باسم "قاتل الهواتف الرائدة".
يشير هذا المفهوم الفريد من نوعه إلى هاتف متوسط الثمن أو أقل سعرا من الهواتف الرائدة، ولكن يقدم مزايا توازيها في الأداء، ليصبح اقتناؤها منطقيا أكثر من اقتناء الهاتف الرائد الذي تقدمه الشركة نفسها أو بعض الشركات المنافسة.
لاقت هذه الفئة من الهواتف المحمولة شعبية واسعة بين المستخدمين، إذ كانت توفر لهم خيارات متنوعة إلى جانب انخفاض قيمتها مقارنةً بالمنافسين، ومع ازدياد الإقبال، سعت جميع الشركات لتقديم هذه الفئة من الهواتف، لذا بعد أن كانت حكرا على الشركات الصينية، أصبحنا نراها اليوم في هواتف "سامسونغ" و"آبل".
تختلف مواصفات فئة قاتلة الهواتف الرائدة بحسب الشركة التي تقدمها، فبعض الشركات تركز على العتاد والمعالج والذاكرة العشوائية، والبعض الآخر يركز أكثر على الكاميرا والشاشة والتصميم، وهناك من يحاول الجمع بين كل هذه المزايا معا في هاتف واحد.
ربما يكون غريبا وصف هواتف "آبل" بأن أحدها هو قاتل للهواتف الرائدة رغم كون "آيفون" دوما من الهواتف الرائدة، ولكن مع تطور الشركة وطرح المزيد من طرز "آيفون"، ولدت هذه الفئة داخلها، وبشكل عام، يمكن القول إن "آيفون" المعتاد أو "آيفون إي" الجديد هما قاتلا الهواتف الرائدة في "آبل".
إعلانفسعر "آيفون 16" المعتاد يأتي عند 800 دولار تقريبا مقارنة مع ألف دولار و1200 دولار لفئات هواتف "برو" و"برو ماكس"، ورغم أن فارق السعر ليس كبيرا، إلا أن النسخ المعتادة من الهاتف تعد قاتلة للهواتف الرائدة، إذ لن تحتاج لاقتناء النسخة الرائدة ما دمت راغبا في التضحية ببعض المزايا، وكذلك ينطبق الأمر على "آيفون 16 إي" الجديد الذي يأتي بسعر 600 دولار تقريبا.
ولكن هواتف "آبل" حالة خاصة بسبب اعتمادها على النظام البرمجي الخاص بها، وهو ذو ثمن باهظ أكثر من أنظمة "أندرويد" مفتوحة المصدر، لذلك قد لا تنطبق عليها فكرة قاتلة الهواتف الرائدة بشكل دقيق.
هناك العديد من طرز "أندرويد" التي تأتي بمواصفات قادرة على قتل الهواتف الرائدة والتغلب عليها، بدءا من هواتف "وان بلاس" (Oneplus) التي تأتي بأسعار اقتصادية، وتحديدا، هاتف "آيس 5" (Ace 5) الذي يأتي بمعالج "سناب دراغون 8 غين 3" (Snapdragon 8 Gen 3) المستخدم في الهواتف الرائدة وبسعر يقترب من 350 دولارا، ومن الجدير بالذكر أن هذا المعالج هو نفسه المستخدم في هواتف "سامسونغ" الرائدة وحتى هواتف "وان بلاس" التي يزيد سعرها على 800 دولار.
ورغم وجود العديد من الطرز من الهواتف قاتلة الفئات الرائدة، إلا أن شركة "نوثينغ فون" (Nothing Phone) استطاعت طرح أكثر من طراز مميز يمكن وصفه فعلا بكونه قاتلا للهواتف الرائدة، ومن بينه "نوثينغ فون 3 إيه" (nothing phone 3a) الذي يأتي بشاشة كبيرة بحجم 6.77 بوصات من نوع "آموليد" (AMOLED) ودقة سطوع تصل إلى 3 آلاف شمعة ومعدل تحديث 120 هرتزا ومعالج "سناب دراجون 7 إس غين 3" (Snapdragon 7s Gen 3) الذي ما زال يعد معالجا رائدا مع ذاكرة عشوائية ملائمة وذاكرة تخزين ملائمة وبسعر لا يتخطى 380 دولارا.
إعلانوكذلك، سعت "سامسونغ" في السنوات الماضية لتقديم هذه الهواتف (قاتلة الفئات الرائدة)، إذ طرحت "غالاكسي إيه 56″ (galaxy A56) و"غالاكسي إس 24 إف إي" (Galaxy S24 FE)، وكلها تحمل داخلها مواصفات قوية ومعالجات رائدة توازي في أدائها معالجات "إس 24 ألترا" (S24 Ultra) و"إس 25 ألترا" (S25 Ultra).
ويمكن اعتبار هاتف "بيكسل 9 إيه" (Pixel 9a) من "غوغل" أيضا من الهواتف قاتلة الفئات الرائدة، إذ يأتي بمواصفات رائدة تصميم أنيق وعصري بسعر 500 دولار، ناهيك عن وجود العديد من الهواتف الصينية التي تنتمي إلى هذه الفئة من شركات "شاومي" (Xiaomi) و"ريلمي" (Realme) و"أوبو" (Oppo) وغيرها.
لماذا الابتعاد عن الهواتف الرائدة؟شهدت السنوات الماضية تطور الهواتف المحمولة بشكل غير مسبوق، إذ أصبحت الآن تأتي بقوة توازي تلك الموجودة في الحواسيب المحمولة فضلا عن الإسراف في بقية المواصفات سواء كانت حجم الشاشة والهاتف بشكل عام أو حتى مساحات التخزين وحجم الكاميرا وجودتها.
ورغم أن هذه المزايا تجذب قطاعات مختلفة من المستخدمين، إلا أن هناك قطاعات لا ترغب في امتلاك هذه المواصفات المفرطة، وتسعى للاعتدال في المواصفات وامتلاك مواصفات ملائمة بسعر ملائم.
كما أن ارتفاع سعر الهواتف الرائدة الذي أصبح يتجاوز ألف دولار في كافة الشركات الآن كان سببا كفيلا لتوجه العديدين إلى الهواتف المتوسطة التي تقدم مزايا تنافس تلك الرائدة.